أسس الحضارة الإسلامية

الثقافة: في الاصطلاح هي الرقى في الافكار النظرية والعقلية فقط وهذا يشمل الرقى في القانون والسياسة والتاريخ وكذلك الاخلاق والسلوكيات وسائر الامور النظرية والفكرية (المعنوية).

المدنية: هي الرقى في العلوم المدنية التجريبية (المادية) كالطب والهندسة والكيمياء والصناعة والزراعة وغيرها من الامور المعنوية التطبيقية .

الحضارة: فهى تشمل الرقى فى العلوم النظرية العقلية والتجريبية التطبيقية معا، أي الثقافة والمدنية والمعنوية والمادية.

هذه المصطلحات الثلاثة، لها تعاريف كثيرة وقد اخترت هذه التعاريف لا على التعيين لأنه لا يهمني فيها التعريف بل المفهوم الدال عليه.

هذه المفاهيم الثلاثة هي ما اعتمدته البشرية في قياس الرقي والانحطاط، والتقدم والتخلف، وقد جعلت البربرية ـ وتمثل نقطة الصفر ـ اساس القياس في الرقي والتقدم أو الانحطاط والتخلف، فحين يملك الانسان كمّا ثقافيا أو إذا انتشر في المجتمع الوعي الثقافي فهذا يعني ابتعادا عن البربرية وبالتالي يعني الرقي، وحين يرتقي في المجال العلمي والتكنلوجي يبتعد كذلك عن البربرية ويحقق التطور، وعلى هذا كانت مؤشرات التغير تتحرك طوال تاريخ المسيرة البشرية.

ولكن لو اعتمدنا قبالة البربرية معيارا آخر وهو الانسانية ـ وهو الأنسب في أن يكون قبالة البربرية ـ سنجد مؤشر الابتعاد عن البربرية ثابتا لم يتحرك على امتداد التاريخ البشري، فما زالت مظاهر الإخلال بكل ما هو إنساني هي هي تشوه وجه الحاضر كما شوهت الماضي السحيق والقريب، من هيمنة استبدادية وطغيان ومن حروب مسعورة تلتهم الاخضر واليابس ومازالت اعداد غفيرة من الناس يعيشون تحت خط الفقر ويموتون جوعا، لقد سجل لنا التاريخ القديم إن ذا نواس الحميري قبل ما يزيد عن 20 قرنا اشعل نار الاخدود ليحرق به الالاف من ابناء النوع الانساني كما سجل أنه في القرن العشرين قد أوقد هتلر نار الهولوكست، بل ربما كان التقدم في المدنية باعثا على امتلاء الحياة الانسانية بالظلم والرعب والموت، من خلال التقدم التكنلوجي الذي طوّر صناعة السلاح الفتاك، فصار ضحايا الحروب في يومنا هذا اضعافا مضاعفة عما كانت عليه يوم كان القتال كان بالسيف والمنجنيق، ولاشك أن الانسان على استعداد لأن يتخلى عن رصيده المعرفي والثقافي كما يتخلى عن التطور العلمي والتكنلوجي ولكنه ليس على استعداد لان تطحنه الحروب أو يموت جوعا. 

 إن المشكلة البشرية تكمن في اعتماد هذه المفاهيم على أنها السبيل لتحقيق الانسانية،  فحين يتثقف الانسان أو تتطور حياته علميا وتكنلوجيا سيخلصه ذلك من عوالق البربرية،  وهذا هو الخطأ،  إن فرعون مصر في قمة التطور العلمي والتكنلوجي لمصر كان لا ينفك عن قتل مئات الاطفال،  وفي ذروة النضج الثقافي التي شهدته فرنسا اقدمت على قتل مليون ونصف شهيد جزائري،  وبريطانيا العظمى قد تسببت بقتل الملايين من ابناء مستعمراتها لانهم نادوا بالاستقلال والحرية،  أي أن هذه الدول ذات الرصيد الحضاري العالي قامت بقتل أضعاف ما قام به التتار الهمج طوال رحلتهم الحربية من شرق آسيا الى مصر،  وحتى على صعيد السلوك الانساني نجد أن ثمة انفكاكا بين رصيد المجتمع من هذه المعايير وما يحمله أبناء المجتمع من صفات وسلوك،  إذ يذكر وول ديورانت في كتابه قصة الحضارة في الجزء الاول ان آكلي لحوم البشر في مجاهيل التاريخ كانوا يمتازون جملة من الصفات الحسنة فهم يحترمون المرأة ويعيبون على المرء أن يرفع صوته اثناء الحديث.

إن اعتماد هذه المفاهيم كمعيار للقياس،  قد أدى الى تكتيل الجماعات البشرية على أساس البلد او القومية او الجنس،  ليحسب بعد ذلك صنع الحضارة لهذا البلد أو تلك الأمة،  اي أن فارق البلد او القومية أو الجنس يكون من صميم التمايز الحضاري،  وهذا ما أدى الى أن يكون التقدم الحضاري دافعا لتعزيز حس التكتل كالقومية او الجنس على حساب المشترك الانساني،  فالنازية مثلا جاءت كنتيجة لتصاعد الحس القومي عند الالمان تجاه الجنس الآري والامة الالمانية وراحت تعلن حروب الابادة على أساس عرقي،  كان هذا بسبب الزهو الذي أحسه الالماني إزاء الاعداد الكبيرة التي انتجتهم الامة الالمانية من مفكرين وعلماء ومبدعين. ويؤدي هذا بدوره الى ما يعرف اليوم بصدام الحضارات لأنه أدى من قبل الى التسابق على التحلي بهذه المعايير،  وحتى إن تجاوزت الدولة مفهوم الصدام،  وحاولت الاتصال بدول اخرى لمد اسباب الرقي فيها فهي حين تعتمد هذه المفاهيم سيؤدي الى نتيجة معكوسة،  وكمثال ما قامت به المانيا وفرنسا من دخول الى دول افريقيا بمدعى أنها تنقل اليها الحضارة،  فهذه المفاهيم قد عززت الحس القومي عن الالمان والفرنسيين في انهم اصحاب حضارة وشعوب افريقيا اقرب الى البربرية،  إضافة الى عقيدة التمايز العرقي،  فانتهى الامر بان قامت هاتان الدولتان بحروب ابادة لتلك الشعوب وزجت الاف الأفارقة في خطوط النار والموت في الحرب العالمية الاولى.

في حين نجد ان الاسلام يعتمد الانسانية كأساس ومعيار ليكون بعد ذلك صنع الحضارة مشاعا للجميع ما داموا يمتلكون الصفة الانسانية، فيقول القران الكريم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} الحجرات 13، فهذه الآية الكريمة بيّنت الاساس المعتمد في أن البشرية مجتمع واحد ينتسب اليه كل ابن ذكر وانثى من الناس، والاختلاف في الشعب والقومية والجنس هو من خارج النوع الانساني فهو جعلُ من الله، ويكون التعارف اساسا لصنع الحضارة. فتكون بذلك الحضارة منجزا مصنوعا من قبل عموم الجنس البشري لتدفع بعمومه الى التطور والخير والرفاه،  ولا شك أن التعارف هنا خليق بصنع حضارة ذات مؤشر أعلى بكثير مما نجده في الحضارات الأممية،  فالملايين التي أبادتها الامم المتحضرة استبدادا وطغيانا،  لاشك أن فيها من الطاقات والكفاءات ما يمكن أن يرتفع بها المؤشر الحضاري العالم،  أو المناخ الاجتماعي الخانق الذي لا تسمح الدول الاستعمارية بغيره للدول الضعيفة لابد إنه قد ضيع على أصحاب مواهب وطاقات فرصة الوصول لما يتمكنوا به من تطوري مواهبهم وإنضاجها، وكمثال ما نشهده اليوم من أعداد كبيرة من ذوي اللون الاسود وهم يبدعون على مختلف الاصعدة فيؤدي هذا بنا الى سؤال مهم وهو أن البشرية كم أهدرت من طاقات وكفاءات طوال عشرات القرون وهي تعكف على معاملة العبيد كالحيوانات؟!