عن إباحة الرق في الإسلام

لشد ما يتناول العلمانيون اليوم مسألة الرق التي أباحتها الشريعة الاسلامية على أنها النقطة التي أوجدت لهم ضالتهم في العثور على ما يدينون به الاسلام, انطلاقا من بداهة التقاطع بين العبودية والانسانية, ولمناقشة الامر علينا الرجوع الى النقطة الاساس في القضية وهي الحرية, فالحرية في المنظور الليبرالي هي حق طبيعي لا يمكن المساس به تحت أي اعتبار حتى وإن كان المصلحة, استنادا الى عنصر الرشد الذي يعرضه الليبراليون كمفهوم يعبّر عن ما يؤهل الانسان لان يكون مسؤولا عن قراراته, فلو انتحر الانسان فإنه يمارس حريته في إنهاء حياته التي لا تعني أحدا سواه, وإن كانت ثمة مصلحة في عدم الانتحار فهو من فرّط بها, ثم يأتي الرشد ليضفي الشرعية على ترك المشرّع الانسانَ واختياره في الاقدام على الانتحار .

فيما اعتبر الاسلام الحرية حقا مرتبطا بالمصلحة وعرض الرشد على أنه القدرة على تحقيق تلك المصلحة, فحرّم الانتحار توخيا للمصلحة المترتبة في عدم الاقدام عليه واعتبر الرشد عنصرا مفقودا في المعادلة إذا ما اختار الانسان الانتحار.

من هذا المنطلق علينا ان نفهم الشريعة الاسلامية في كل ما قننت به حرية الانسان أو وجهتها الوجهة التي لا يدرك سلامتها اصحاب المواقف السطحية والمتعجلة في التفكير, وبالنسبة للرق فإن تاريخ العبودية الطويل في المجتمع الانساني يؤكد لنا غياب عنصر الرشد ـ بالمفهوم الاسلامي ـ عند الأرقاء لاسيما الاجيال التي توارثت حالة الانحصار في دائرة الرق والخضوع, ولا نعني بغياب عنصر الرشد هنا افتقاد القدرة العقلية او حالة من النقص الذاتي في العبد بل هي المؤهلات التي تمكنه من ان يكون سيد نفسه لعدم امتلاكه أي تجربة حياتية تمده بالخبرة المطلوبة, العبد الذي قضى حياته لا يحسن غير طاعة سيده ولم يمارس غير الخدمة ولم يقم بأية عملية تشترط فيها الحرية لن يتمكن بانتقال فجائي الى الخلية الاجتماعية من التواجد فيها بشكل فعال وصحيح ..

اضف الى  انعدام الخبرة العاملَ النفسي الذي يعد معيقا حقيقيا  لدفع الرقيق الى الساحة الاجتماعية بشكل مفاجئ.. فمن خلال صفحة الاضطهاد والمعاناة المريرة التي كابدها العبيد والتي يحفظ التاريخ منها صورا مروعة, قد تشكلت فيهم حالة خطيرة من العدائية للمجتمع وروح الانتقام, فالحرية المفاجأة لن تكون سوى فرصة ثمينة للانقضاض على المجتمع والانتقام منه, ولعل في ثورة الزنج دليلا حيا على هذا, حيث اعتمد صاحب الزنج علي بن محمد على العبيد في ثورته بعد أن فطن الى هذه النقطة وراح يروّج نفس الافكار التي تروجها الليبرالية اليوم من تنافي الرق مع الانسانية وضرورة الإسراع في اعطاء العبيد الحرية كحق طبيعي, ليجنّد بعد ذلك العدائية وروح الانتقام التي تأكدَ من انبعاثها في خلق صورة دموية تعد واحدة من اكثر الاحداث بشاعة في التاريخ الاسلامي حيث قتل العبيد في ثورتهم الالآف من الناس واحرقوا المدن. 

وعلينا أن نفهم أن اباحة الاسترقاق هي اجراء ضمن اجراءات عديدة نظمتها الشريعة الاسلامية للوصول الى حل مثالي لمشكلة الرق منها :

1ـ تحريم أية ممارسة من شأنها المساس بكرامة العبد وانسانيته.

2ـ إلزام المالك بالمعاملة الحسنة القائمة على الرحمة والانصاف والعطف لعبده قال  نبي الاسلام محمد (صلى الله عليه واله وسلم ) "لا تقل عبدي وعبدتي بل فتاي وفتاتي".

3ـ حماية العبد من أي أعتداء جسدي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ : "مَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ أَنْفَهُ جَدَعْنَاهُ".

4ـ منع المالك تكليف العبد بما يفوق قدرته.

وبهذا لن يكون الاسترقاق في الاسلام غير مرحلة تهيئ العبيد لمرحلة الحرية التي تمثل قيمة عليا في الحياة ، فالحقوق الجزئية التي أتيحت للعبد صاحَبها تفاعل جزئي مع الحياة عاد عليه باكتساب تدريجي للخبرة المطلوبة, والمعاملة الحسنة من قبل السادة أطفأ نائرة الكراهية وعالج أمراضه النفسية فصار قادرا على الانتقال الى الخلية الاجتماعية بشكل آمن بعد أن وفرت له الشريعة الاسلامية المنافذ الكثيرة لحصوله على الحرية ومنها:

1ـ حثت على عتق العبيد كفعل اخلاقي لوجه الله تعالى.

2ـ  مكّنت العبيد من استعادة حريّتهم بالمكاتبة، وأوجبت إعانة المكاتبين وحضت على مكاتبتهم كرماً، أو لقاء مال يدفع إلى المالك فيما بعد، وإعطائهم من مال الله، ولم يمنع الإسلام وصيّة المسلم لمن ملك يمينه بثلث ماله . 

3ـ خصصت قسماً من المال العام في تحرير الرقاب.

4ـ  جعل عتق الرقاب كفّارة لبعض الذنوب كالقتل الخطأ، والظهار.

5ـ جعل الطفل الذي يولد للمسلم من أمته حراً، ولم يجز أن يبيع المسلم أمته بعد أن ولدت له، وحوّلها إلى امرأة حرّة بعد وفاته.

ويبقى ما يطالعنا به الامام زين العابدين عليه السلام في تراثه العظيم في هذا الخصوص صورة لا نظير لها في معالجة مسألة الرق حيث كان عليه السلام يعمد الى شراء العبيد وانزالهم في بيته يتلقون منه المفاهيم الاسلامية الصحيحة والتربية الصالحة حتى إذا آنس منهم الرشد المطلوب والقدرة على إداء الدور الصحيح في المجتمع اعتقهم لوجه الله لينتشروا في الامة الاسلامية نماذج تتفاعل في المجتمع التفاعل المطلوب .  

  ومما يحسب للإسلام على الشرائع الوضعية في هذا الخصوص أن رفضه التمايز العنصري ومناداته بالمساواة ينطلقان من صميم منظومته التشريعية ومن قانونه الاول (أن العبودية لله وحده) فنرى الرسول الاعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ومع الانطلاقة الاولى لثورته لا يميز بين بلال الاسود وأي من الصحابة الآخرين بل يضع له موقعا متقدما في دولته, فيما تستمر الشرائع الوضعية في إقرار وتنفيذ ما يتعلق بالعدالة وحقوق الانسان بمعزل عن ثوابت الاعراف المهيمنة على مجتمعاتها في التمايز العرقي, فهذا ارسطو نبي الفكر الانساني رغم تراثه العملاق فإنه يظل وفيا للتمييز العنصري عند الاغريق في أن الناس ينقسمون الى مواطنين نبلاء وبربر (أي عبيد) ، وفي الولايات المتحدة الامريكية ـ الدولة التي تحمل شعار الديمقراطية وحقوق الانسان منذ عقود طويلة ـ لم  تضمحل فيها العنصرية ضد السود الا في نهايات القرن العشرين بعد كفاح طويل من السود  في سبيل حياة حرة كريمة, وبهذا لا يكون اضمحلال العنصرية في امريكا انتصارا للقيمة الانسانية بل استسلام لكفاح الجنس الاسود.