هل ذكرت النصوص الشرعية ما هي مسؤوليات «الحاكم السياسي»؟

1. إنّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدث عن مسؤوليته تجاه الأُمّة الإسلامية الّتي يأخذ بزمام حكمها، فيقول: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته».

فالأمير الذي على الناس، راع عليهم، وهو مسؤول عنهم.

والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم.

وامرأة الرجل، راعية على بيت زوجها وولدها، وهي مسؤولة عنهم.

«ألا فكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته».[1]

2. ويمكن لنا أن نستجلي ملامح الحكومة الإسلامية وصفات الحاكم الإسلامي من كلام الإمام علي (عليه السلام) الذي يرسم لنا ما على الحاكم الإسلامي الأعلى تجاه الشعب وما على الشعب تجاه الحاكم، إذ يقول في وضوح كامل: «وأعظم ما افترض اللّه من تلك الحقوق; حقُّ الوالي على الرّعيّة وحقُّ الرّعيّة على الوالي، فريضةً فرض اللّه سبحانه، لكلّ على كلّ، فجعلها نظاماً لأُلفتهم، وعزّاً لدينهم، فليست تصلح الرّعيّة إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها، عزّ الحقُّ بينهم، وقامت مناهج الدّين، واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السُّنن، فصلح بذلك الزّمان، وطمع في بقاء الدّولة ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرّعيّة واليها أو أجحف الوالي برعيّته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال في الدّين، وتركت محاجُّ السُّنن، فعمل بالهوى، وعطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذلُّ الأبرار، وتعزُّ الأشرار، وتعظّم تبعات اللّه عند العباد».[2]

ثمّ إنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) يصرّح في هذه الخطبة ذاتها بالحقوق المشتركة والمسؤوليات المتقابلة، إذ يقول: «أمّا بعد، فقد جعل اللّه لي عليكم حقّاً بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم».

ثم يشير الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة إلى واحدة من أنصع القوانين الإسلاميّة وهو قانون التسوية بين جميع أفراد الأُمّة الإسلاميّة حكّاماً ومحكومين، رؤوساء ومرؤوسين، وزراء ومستوزرين، وبذلك ينسف فكرة: أنا القانون، أو أنا فوق القانون، فيقول (عليه السلام): «... الحقُّ لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه، ولا يجري عليه إلاّ جرى له».

وعلى هذا فلا تمييز ولا تفرقة بين الحاكم والمحكوم بل الجميع أمام القوانين الإسلاميّة المدنيّة والجزائيّة وغيرها سواء، وعلى الحاكم والرئيس أن يؤدّي حقوق الناس كأيّ فرد من أفراد الأُمّة العاديّين، وبذلك يدعم الإمام ما روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ يقول: «النّاس أمام الحقّ سواء».

3. كما يمكن أن نعرف طبيعة الحكومة الإسلامية من خطبة الإمام الحسين الشهيد (عليه السلام) بعد نزوله بأرض كربلاء، فقال: «اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك».[3]

إنّ من أهمّ الوثائق التي ترسم لنا بوضوح معالم الحكومة الإسلامية الوثيقة التي كتبها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليهود يثرب بعد ما نزل المدينة المنوّرة، وقد رواه: ابن هشام في سيرته [4]، وأبو عبيد في كتاب «الأموال»[5]، وابن كثير في البداية والنهاية. [6]وهي وثيقة تاريخية مفصّلة، فمن أراد فليرجع إلى محالّه.

فالحاكم الإسلامي في الحقيقة هو الحافظ لمصالح الشعب، وهو كالأب الحنون لعامّة المواطنين حتّى اليهود والنصارى إذا عملوا بشرائط الذمّة، فهو يسمح للمسلمين بأن يعاملوا غيرهم من الطوائف غير المسلمة بالعدل والرفق والشفقة ما داموا لا يتآمرون على المسلمين ولا يسيئون إلى أمنهم، ولا يقاتلونهم، فالإسلام لا يمنع عن البرّ والقسط إليهم، وإنّما يمنع عن الذين ظاهروا على المسلمين وتآمروا ضدهم، ترى كلّ ذلك في الآيتين التاليتين:

يقول سبحانه: (لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّين ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطين* إِنّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذينَ قاتلُوكُمْ فِي الدِّين وأَخرجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهرُوا عَلى إِخرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلّوْهُمْ وَمَنْ يَتَولَّهم فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون).[7]

ويقول: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخذُوا بِطانَة مِنْ دُونكُمْ لا يأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضاءُ مِنْ أَفواهِهِمْ وما تُخفِى صُدُورُهُمْ أَكبرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون).[8]

ولعلّ النظرة الواحدة إلى تاريخ الحكومات الإسلامية يكشف لنا عفوهم وسماحتهم لكثير من الذمّيين من النصارى واليهود، وقد كانت الأقلّيات بين المسلمين يرجّحون الحياة تحت ظلّ الإسلام على العيش مع الدول الكافرة، نذكر هاهنا وثيقة تاريخية ذكرها البلاذري في هذا المجال. قال: "لمّا جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك، ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص وكانوا مسيحيّين: لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض اليهود فقالوا: والتوراة  أي قسماً بالتوراة لا يدخل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل  المدن التي صولحت من النصارى واليهود وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه من الظلم والحرمان، وإلاّ فانّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.

فلمّا هزم اللّه الكفرة وأظهر المسلمين، فتحوا مدنهم، وأخرجوا المقلّسين[9] فلعبوا وأدّوا الخراج»[10]

إنّ الحاكم الإسلامي، من يشارك شعبه في أفراحه وأتراحه، وفي آلامه وآماله لا أن يعيش في بروج عاجيّة، متنعماً في أحضان اللذة رافلاً في أنواع الشهوات، غير عارف بأحوال من يسوسهم.

يقول الإمام وهو يرسم ملامح الحاكم الإسلامي:

«أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة، شغلها تقممها».[11]

الهوامش:

[1] كتاب الأموال للحافظ أبي عبيد سلاّم بن القاسم المتوفى225هـ، ص 10.

[2] نهج البلاغة: الخطبة216، طبعة عبده.

[3] بحار الأنوار:100/80ـ 81، الحديث 37.

[4] سيرة ابن هشام:1/ 501.

[5] الأموال، ص 517، ط مصر .

[6] البداية والنهاية:2/ 224.

[7] الممتحنة:8 ـ 9.

[8] آل عمران: 118.

[9] التقليس: استقبال الولاة عند قدومهم بضرب الدّف والغناء وأصناف اللهو، راجع المنجد في اللغة.

[10] البلاذري( م279هـ)، فتوح البلدان، ص 143.

[11] نهج البلاغة، الرسالة رقم 45.