فتح مكة.. لماذا غادرها النبي بعد نصره المؤزّر؟

السؤال: لماذا لم يطق محمد البقاء في مكة بعدما سيطر عليها. لم يقض فيها سوى أيام قلائل وعاد مهرولاً إلى المدينة وترك أفضل بقاع الأرض؟ وخلال السنوات الأربع الأخيرة من حياته بعد فتحها لم يعد لها إلا مرة واحدة فيما يسمى حجة الوداع ولأيام قليلة؟ لماذا فجأة لم تعد هي أطهر وأفضل بقاع الأرض؟ ولماذا كره البقاء بها وكان قبل ذلك يقول إنما تركها لأن أهلها أخرجوه؟ ماذا الآن بعد أن سيطر على مكة وصارت ضمن ملكه!

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

يحاول الملحدون ومنكرو الأديان التشويه على الحقائق بأحقادهم الشخصية، فلا طلب المعرفة هو الذي يحركهم ولا الحقيقة هي التي تغريهم، وما جاء في هذا السؤال من عبارات يكشف عن نفسية مريضة تتعامل مع الدين ورموزه بكراهية وحقد غير مبرر، الأمر الذي يؤكد على أن دوافع الإلحاد وخاصة في العالم العربي هي دوافع نفسية ذاتية لا علاقة لها بالموضوعية العلمية.

فإذا نظرنا لما جاء في هذا السؤال لا نجد فيه إشكال حقيقي يستوجب الوقوف عنده ومناقشته؛ بل أن السائل من الأساس لم يطالبنا ببيان الحِكمة التي دعت الرسول بعدم الرجوع إلى مكة والاستقرار فيها بعد فتحها، وإنما قرر الإجابة ضمناً ثم رتب عليها ما يريد ترتيبه، فكل ما أراده هو البحث عن أي حجة يعبر بها عن مدى بغضه وكراهيته لرسول الإسلام (صلى الله عليه وآله)، وإلا أين هو الإشكال في كون الرسول هاجر من مكة واسس دولته في المدينة ولم يعد للاستقرار في مكة؟

فقول السائل: (لماذا لم يطق محمد البقاء في مكة بعدما سيطر عليها)، فكلمة (يطق) كما في معاجم اللغة تعني (لم يستطيع التحمل أكثر)، وهذا المعنى لا يستخدم إلا عند وجود شيء يسبب ضغطاً نفسياً أو مادياً يصعب تحمله، ولا يمكن التأكد من ذلك إلا من خلال تصريح من وقع عليه هذه الضغط أو من خلال قرائن تكشف عن ذلك، وفي غير ذلك لا يستخدم في حق من ترك شيئاً وانصرف إلى شيء آخر أنه تركه لأنه لم يطقه؛ وذلك لأن الأسباب التي تجعل الإنسان يستبدل خياراته غير منحصرة، ومن هنا نحن لا نسلم بالإشكال كما نتحفظ على صيغة السؤال، وكتابة السؤال بهذه الطريقة هو الذي قادنا إلى اتهام السائل بعدم الإنصاف والموضوعية وبأنه ينطلق من حقد خاص على رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وقوله: (لم يقض فيها سوى أيام قلائل وعاد مهرولا للمدينة وترك أفضل بقاع الأرض؟)، كلمة هرول في اللغة تعني الاسراع الذي يقع بين المشي والجري، وهذه العبارة تؤكد ما ذكرناه عن قصد السائل ونيته، ولا وجود لأي شاهد تاريخي يؤكد حصول ذلك ولا وجود لأي داعي لاستخدام هذه الكلمة غير سوء نيته.

وما فات عليه إن النبي بعد فتح مكة لم يرجع إلى المدينة مباشرة وإنما اتجه بعدها إلى حرب هوازن، ففي سيرة ابن هشام وفي تاريخ الطبري: (ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ، فَفَتَحَ اللَّهُ بِهِمْ مَكَّةَ، فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْن عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى مَكَّةَ، أَمِيرًا عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنْ النَّاسِ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِهِ يُرِيدُ لِقَاءَ هَوَازِنَ) (تاريخ الطبري ج ٢ ص ٣٤٧)

أما قوله (وترك افضل البقاع) فكون مكة افضل البقاع ليس فيه أي حجة شرعية أو عقلية توجب البقاء فيها وعدم التوجه إلى غيرها، فالرسول هو نفسه الذي حدثنا بفضل مكة، وهو نفسه الذي حدثنا عن فضل المدينة، وهو نفسه الذي اختار البقاء في المدينة دون مكة، فما هي المشكلة في ذلك؟ وما الأمر الذي يزعج الملحدين في ذلك؟

وقوله: (وخلال السنوات الأربع الأخيرة من حياته بعد فتحها لم يعد لها إلا مرة واحدة فيما يسمى حجة الوداع ولأيام قليلة؟)، كانت حجة رسول الله بعد فتح مكة في السنة العاشرة من الهجرة، وانتقل رسول الله إلى الرفيق الأعلى في السنة الحادية عشر للهجرة، فلا نعلم من أين أتى بهذه السنوات الاربع؟

قوله: (لماذا فجأة لم تعد هي أطهر وأفضل بقاع الأرض؟)، ونحن بدورنا نسأل من أين اكتشف أن مكة لم تعد هي أطهر وأفضل بقاع الأرض؟ هل صرح الرسول بذلك؟ وهل بدر منه ما يكشف عن تغيير موقفه من مكانة مكة؟ لا نظن أن هناك عاقل يحترم عقله يقول إن عدم رجوع رسول الله للاستقرار في مكة يعني أن مكة لم تعد عنده أطهر وأفضل بقاع الأرض، فالعاقل في تفكيره يبحث عن الرابط المنطقي بين قضيتين، فإن وجد ذلك الرابط اعتمد الدليل واستدل به، وإن لم يجد العاقل ذلك الرابط فإنه لن يخاطر حتى لا يوصف بكونه أحمق.

قوله: (ولماذا كره البقاء بها وكان قبل ذلك يقول إنما تركها لأن أهلها أخرجوه؟)، على أي شيء استند في هذه الدعوة وهو لم يقم عليها شاهداً واحداً؟ وكل ما تم ذكره أن رسول الله لم يبقَ في مكة، وهناك فرق كبير بين عدم البقاء في مكة وبين كونه كارهاً للبقاء فيها، فالصحيح أن رسول الله لم يبقى في مكة بعد الفتح، وما ليس بصحيح أنه كاره للبقاء فيها، وبإمكان السائل أن يقدر بنفسه عشرات المبررات غير الكراهية والاسباب النفسية، ولكن يبدو أن الكراهية التي يحملها في نفسه هي التي تحمله على تفسير كل شيء على طبقها.

ونحن هنا لا نرى أنفسنا مضطرين لنقدم له التبريرات والأسباب التي دعت الرسول إلى البقاء في المدينة، فالرسول عندنا معصوم ومؤيد من قبل الله تعالى، فلا يخطو خطوة أو يقوم بأي عمل إلا بأمر الله وإرادته، قال تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ).