كفّ العادية وأسكن الطاغية.. هكذا أعزّ الإمام الحسن المؤمنين!

كتب ابراهيم جواد:

في ذكرى شهادة الإمام الحسن عليه السلام، يمكن أن نقول: إنه من المؤسف أن تمضي هذه العصور، ونحن لا زلنا نركز في سيرة الإمام الحسن عليه السلام على بيان مبررات سلوكه السياسي، أو دفع الشبهات التي ألصقت به كيداً من بني أميّة وأتباعهم، وبذلك بقينا بعيدين عن تناول سيرته كشخصية إلهية؛ ذات أبعاد معرفية وروحية عميقة، تمثل دروساّ للإنسان المؤمن، ومنهاجاً له في حياته.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ومع هذا الحال المؤسف؛ أحب التنويه إلى بعض النقاط فيما يتعلق بسياسته، على أمل أن تكون مقدمة للجواز إلى فهم أسرار سيرته (عليه السلام:

إن منهج التحليل التاريخيّ الذي يستند إلى ملازمات باطلة لا يمكنه أن يقرأ التاريخ بعين منصفة ورؤية علمية، ومن أمثلة ذلك: من يبني على دلالة المهادنة على الضعف وحب الراحة، ودلالة الحرب على الشجاعة والبطولة دائماً، والصحيح أن كلا المسلكين تتضح دلالتهما عند ظهور السياق الذي يولدان فيه، فربما كانت المهادنة دليلاً على الحكمة، وربما كانت الحرب دليلاً على التهور والحماقة. وفي عالم السياسة وتدبير شؤون المجتمع البشري لا يلتزمون بتلك الدلالات دوماً، بل يقدّرون كل فعل بحسب سياقه وأسبابه وآثاره.

ومن الواضح أنه لا يُلتزم في عالم السياسة بوحدة السلوك السياسي دائماً، وإنما الالتزام منحصرٌ بتحقيق الأهداف والمبادئ العليا، ولذلك نرى الدول تحارب أحياناً، وتفاوض، وتهادن، ثم تقاتل، .. إلخ، وهكذا. وهذا التعدد في السلوك ليس تناقضاً في سيرة الدول، وإنما لأن هذه السلوكيات المختلفة هي عبارة عن أساليب وطرق إلى تحقيق الأهداف والمبادئ الأساسية التي تؤمن بها، فهي مجرد تفاصيل تتعلق بحقيقة الظروف الراهنة في الوقت.

إذا اتضح لنا هذا، فنقول: مقتضى الإنصاف أن نعتقد أنّ ما فعله الإمام الحسن عليه السلام لا يقلّ أهميةً عن فعل أيّ إمام آخر، فهذه السياسة الإلهية تركيبة متجانسة، لا يمكن التفكيك بينها، أو الاستغناء ببعضها عن الآخر؛ لأنها كلها تندرج تحت إطار جامع وهو العنوان العريض الذي يمثل جملة الأهداف والمبادئ في سيرة الأئمة عليهم السلام وهو (حفظ الإسلام)، وذلك بإحياء القرآن وتعاليمه، ونشر سنة النبي صلى الله عليه وآله، وما سوى ذلك تفاصيل خارجية تتعلق بحقيقة الظروف الراهنة آنذاك وما تتطلبه...

 فإن المهادنة في عهد الإمام الحسن عليه السلام أو الثورة في عهد الإمام الحسين عليه السلام عملان لمقصد واحد وهو تحقيق ذلك العنوان الأهم. وهُمَا وإن اختلفا شكلاً، لكنهما متحدان مضموناً ومقصداً، فهما سلوكان تم العمل وفقاً لهما بما ينسجم مع ظروف الواقع ومتطلبات تحقيق العنوان الأعلى (حفظ الإسلام)، فالمحورية والموضوعية لذلك العنوان، وأما الطريق إلى ذلك فهو مبني على ما يتطلبه تحقيق ذلك العنوان من سلوك معيّن.

وبناءً على ذلك: فإن تقسيم التشيع إلى حسنيّ وحسيني من أكثر الأمور إجحافاً بحق الإمام المجتبى عليه السلام، فغالباً ما يأخذ توصيف "التشيع الحسني" في كلام بعض المثقفين جانبَ الضعف والاستسلام والمهادنة الخاضعة الذليلة. وإذا كان مجرد السكوت - لظروف قاسية - يعد مسلكاً حسنياً ضعيفاً، فأصحاب هذا التحليل ملزمون بتقسيم حياة أمير المؤمنين عليه السلام إلى حقبة حسنية وحقبة حسينية، باعتبار أنّه لم يقاتل الثلاثة وقاتل معاوية، في حين أن منهج أمير المؤمنين عليه السلام واحد، ومسلكه واحد، وشخصيته واحدة، بل يلزمهم القبول بذلك في شأن النبي صلى الله عليه وآله، في حين أن الواقع خلافه. والصحيح أن هذا التفاوت منشؤه اختلاف الظروف الخارجية، لا اختلاف الشخصية أو تناقضها. وإذا التزموا بذلك في حق أمير المؤمنين عليه السلام فإنهم ينقضون عمدة أدلتهم في ذلك التحليل التاريخي الفاسد.

وفي هذا السياق؛ ينبغي لنا أن نطالع بعض الوثائق التاريخية المهمة التي تكشف عن حقيقة المشهد السياسي في عهد الإمام الحسن عليه السلام، ومن جملة هذه النصوص القيّمة دعاؤه في القنوت، فقد روى السيد ابن طاوس (رحمه الله) في كتابه «مهج الدعوات» قنوتات متعددة عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، ومن ضمنها قنوتاً عن الإمام أبي محمد الحسن بن علي المجتبى صلوات الله عليه، ويدور هذا القنوت الشريف حول أمرين، أولهما التمجيد والثناء على الحق تبارك وتعالى بعبارات توحيديّة عظيمة، وعبودية محضة، فينبغي للعبد أن يستفيد من هذا النهج المبارك في مناجاة الحق سبحانه وتعالى، وأن لا يغفل عن ذلك. وأما ثانيهما - وهو القسم الأكبر - فهو بيان لحقيقة المشهد السياسي بلسان الإمام الذي طالما تعرض للتشويه نبزاً وتهمةً، ففيه إيضاح لمظلوميته وتقاعس الأمة الإسلامية عن نصرته وقعودهم عن مواجهة الاستكبار الأمويّ، وفي هذا المقطع يبرز الإمام جملة من النقاط المهمة، ومنها:

•  بيان آثار التخاذل عن نصرة الحق ونتائجه على الأمة الإسلامية، فقد وصف ذلك بقوله مخاطباً الحق تبارك وتعالى: (تَشْهَدُ الِانْفِعَالَ، وَتَعْلَمُ الِاخْتِلَالَ، وَتَرَى تَخَاذُلَ أَهْلِ الْخَبَالِ، وَجُنُوحَهُمْ إِلَى مَا جَنَحُوا إِلَيْهِ مِنْ عَاجِلٍ فَانٍ وَحُطَامٍ عُقْبَاهُ حَمِيمٌ آنٍ)، فهو يذمّ التخاذل والركون للدنيا والقعود عن مواجهة الباطل، ويشير إلى ثمرة ذلك التكاسل وما خلفه من ضعف واختلال وفساد، وبذلك بيّن حقيقة أنّ ما آلت إليه الأمور لم يكن إلا لضعف بصيرة الأمة وتساهلها في مواجهة شيطنة معاوية.

•  سعي الإمام إلى بذل كل ما يملك من جهد ليدفع ضلال المضلين وفتن بني أمية عن الإسلام والمسلمين، وفي ذلك قال: (اللَّهُمَّ فَقَدْ تَعْلَمُ أَنِّي مَا ذَخَرْتُ جُهْدِي وَلَا مَنَعْتُ وُجْدِي حَتَّى انْفَلَّ حَدِّي وَبقِيتُ وَحْدِي).

ولا تخفى هاهنا الإشارة إلى أن تحول المسار السياسي لم يكن خياراً محبذاً للإمام، وإنما كان نتيجة الخذلان، فإن بقاء الإمام وحيداً مخذولاً من الأمة، ومستضعفاً من الطواغيت كان من عوامل التحول من القتال إلى المهادنة.

•  بيان الوجه في عقد "الهدنة" السياسية مع معاوية بن أبي سفيان، حيث أراد به كفّ عدوانه وحقن دماء من بقي من أهل الإيمان والولاية ترجيحاً لمصلحة الإسلام في تلك الظروف الحرجة، كما فعل أمير المؤمنين عليه السلام حينما قال: (فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلاَّ أَهْلُ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلْمَوْتِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى، وَشَرِبْتُ عَلَى اَلشَّجَا، وَصَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ اَلْكَظْمِ وَعَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ اَلْعَلْقَم).

وإلى هذا أشار في قنوته تأسياً بأمير المؤمنين عليه السلام، فقال في قنوته: (فَاتَّبَعْتُ طَرِيقَ مَنْ تَقَدَّمَنِي فِي كَفِّ الْعَادِيَةِ، وَتَسْكِينِ الطَّاغِيَةِ عَنْ دِمَاءِ أَهْلِ الْمُشَايَعَةِ)، فكما كفّ أمير المؤمنين عليه السلام عن قتال طواغيت السقيفة ترجيحاً لمصلحة أهل الحق، ودفعاً لضرر أعظم، تجرّع الإمام الحسن عليه السلام من ذلك الكأس المرّ المليء بالعلقم، ومع ذلك ناله من الأذى والتهمة ما ناله، وكأنه هو السبب في تقصير الأمة عن إجابة نداء إمامها وولي أمرها.

•  دعاء الإمام على الظالمين في خاتمة القنوت؛ فيه جلاء للأبصار التي أصابتها غشاوة، وبيانٌ أنه لم "يصالح" ولم يتنازل عن حقه، ولا رضي بالطاغية، وإنما هو القهر والغصب والأذى الذي ما انفك عن سيرة أهل البيت عليهم السلام مذ ارتحل خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله.

فليُراجع القنوت بتمامه للاطلاع على كافة مضامينه بدقة. وكم هو جدير أن يُطالَع هذا القنوت ولو مرة في العمر، لنقف على معالم المشهد السياسي الذي ظُلم فيه ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعرض للتشويه بسببه، فإنه كان منبراً إلهياً لبيان جهاد الإمام وسعيه، وتعرضه للخذلان والاستضعاف، وموقفه من القاعدين والظالمين على حد سواء.