من الواقع.. خيارات سياسية اجترار لتجارب تاريخية قاسية

إذا بدأنا من تحليل عام للمشهد السياسي في البلدان الإسلامية، وحاولنا الاقتراب من الخلفية السياسية للمجتمعات الإسلامية، سوف يبدو لنا المشهد؛ قد استبعد الإسلام كنظام سياسي من إدارة الدولة، وحينها يصح لنا أن نصف الحالة العامة: بأنها تبتعد عن أي دور يُفعَّل فيه الإسلام على مستوى الساحة السياسية.

وقد يقال: ان الأمة اكتفت بجعل الإسلام ضمن حدود الشعار الذي لا يتجاوز الهوية المجتمعية، وهذا الوصف يقر بالإسلام كإطار عام للانتماء، دون الاقتراب من المحتوى والجوهر، وكل ما يحتاج اليه تشكيل هذا الإطار هو التأكيد على المبادئ العامة المتمثلة: في مجرد الإقرار بالعقائد الإسلامية، والالتزام بالأحكام الشرعية، في حدود العبادات، وبعض المعاملات. أما المحتوى الذي يمثل العمق الفلسفي لهذه العقائد، ومدى انعكاسها على الواقع الثقافي والسياسي للأمة، فانه الجانب المهمل، أو المغيب، أو المشوه أحياناً. وكذلك الحالة بالنسبة للأحكام الشرعية؛ التي تحولت الى مجرد طقوس، لا تتفاعل مع أهدافها العامة، وقيمها التشريعية، ومن هنا افتقدت الأمة الإسلامية- في الحالة العامة- كل تصور يمكنه التفاعل مع تطلعات الناس، وحاجاته الحياتية، وبكلمة مختصرة: ان المشهد المهيمن على الواقع الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، لا يرتقي أن يكون تعبيراً صادقاً عن نظام الإسلام في الحكم والإدارة.

من دولة الخلافة إلى العلمانية

فمنذ انهيار الصورة الكلاسيكية للإسلام السياسي، أو ما يسمى بالخلافة الإسلامية، وبخاصة بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية (1924م) تشكلت كل دويلات العالم الإسلامي على أساس نظم سياسية لا توصف بكونها إسلامية، ومازالت تلك الحالة، حتى أصبح النمط السائد في الحكم، هو الحالة العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة، ولا يمكن تفسير هذه الظاهرة أو نسبتها فقط للعوامل والأبعاد الخارجية، بعيداً عن حقيقة الوعي الذي تختزنه عقلية الأمة حول الإسلام، فلو كان الإسلام في عمق وعي الأمة يمثل خياراً للعمل السياسي، ومشروعاً للحكم، وبرنامجاً حضارياً متكاملاً، حينها يصح لنا القول: ان الأمة أصبحت تعيش حالة من الردة الحقيقية عن الإسلام؛ لأنها تمسكت بخيارات سياسية بعيدة عنه.

فلم نجد في نفسية الأمة أي حالة من التناقض، بين طبيعتها الإسلامية، وبين تبنيها لتصورات سياسية يسارية، أو يمينية، فكل الأفكار السياسية، والإنسانية، وجدت طريقها إلى واقع الأمة الإسلامية وتفاعلت معها، من غير أن تشعر بأي تناقض بين إيمانيتاها الإسلامية الخاصة، وبين هذه التيارات الدخيلة، والمستحدثة.

حتى الأحزاب السياسية ذات الأبعاد الإلحادية، وجدت لها طريق وسط الأمة وتفاعلت معها الأجيال المسلمة: كالحزب الشيوعي الذي أصبح خياراً سياسياً وازن في كل الأقطار الإسلامية على الأقل في بعض المحطات السياسية من تاريخ العالم الإسلامي. الأمر الذي يؤكد حالة الانفصام بين الهوية الإسلامية الأصيلة، وبين خيارات الأمة السياسية.

ولا أظن اننا نجانب الحقيقة إذا أشرنا لوجود خلل في طبيعة الوعي الذي تختزنه الأمة للإسلام، فحصر الاهتمام بالإسلام ضمن حدود الهوية والإطار فقط، دون الاهتمام الواضح بمحتوى الإسلام الثقافي، والحضاري، والسياسي يؤكد هذا الخلل. مما يجعل من الضروري إيجاد معالجات معرفية حقيقية تستوعب الإسلام كنص مازال متفاعلاً مع حاجات الإنسان وطموحاته في كل آن، وليس الإسلام كحقيقة تاريخية موجودة في الماضي لا يتحقق الانتماء له إلاّ بالرجوع الدائم الى الماضي، وإذا تحقق هذا الوعي يكون حينها من الطبيعي السؤال عن نظام حكم إسلامي لواقعنا المعاصر، أما بدونه لا يمكن تصور نظام سياسي للواقع الراهن من خلال وعي تاريخي، ومن هنا كان من الطبيعي أن تتبنى الأمة خيارات سياسية ذات وعي ينطلق من الواقع حتى لو لم تكن إسلامية.

الإسلام.. فردانية العلاقة مع الله

هذه المعضلة المعرفية أفرزت نمط من التفكير عمل على تأصيل هذه النظرة السطحية للإسلام، فقدمت بعض القراءات اليسارية والليبرالية الإسلام كإطار شخصي فردي ضمن علاقة خاصة بين الإنسان وبين الخالق، كبعد وجداني عاطفي لا علاقة له بواقع الإنسان الاجتماعي والثقافي، فدعموا بذلك النظرة التقليدية، وأشادوا بالتجربة الصوفية كتجربة انعزالية لا تتدخل في الشأن الحياتي للإنسان، في الوقت الذي دعوا الأمة إلى مزيد من الانفتاح على التجربة الإنسانية وبخاصة في الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

 وبرغم وجود بعض المحاولات في مواجهة كل ذلك إلاّ ان المشروع السياسي للإسلام مازال غامضاً وغير واضح المعالم، وقد انعكس ذلك في التباينات بين الحركات الإسلامية التي اهتمت بهذا المشروع، كما انعكس في فشل هذه الحركات بإقناع الأمة بالخيار السياسي للإسلام، فنحن أمام وعي سياسي يمثل الأغلبية، والطابع العام للعالم الإسلامي، استطاع أن يستوعب كل الخيارات السياسية، في الوقت الذي لم يحقق التفاعل المطلوب مع الخيار الإسلامي، مع ان الحالة الطبيعية للمسلمين تستوجب بروز التيار الإسلامي كعنوان سياسي، يعبر عن مدى الانتماء لهذا الدين، ذلك هو الأمر الذي يقودنا من جديد إلى النظر في طبيعة الانتماء، الذي يقبل بالآخر وإن كان ذو مرجعية معرفية بعيدة عن الإسلام، ولا يتفاعل بالمستوى المطلوب مع الخيار الذي يجب أن ينعكس من طبيعته الذاتية.

تناقضات

بهذا الوصف يمكننا الكشف عن الدوافع التي حركت بعض تيارات الأمة لتبني مشروع الإسلام السياسي، ويمكن تلخيصها: في رفض الواقع بما فيه من تخلف ورجعية وحرمان، مضافاً الى الكفر بإسلام الأمة التي تبنت كل الخيارات ما عدا خيار الإسلام في الحكم، ومن هذه الزاوية يمكننا تتبع نشوء التفكير المتطرف الذي حاول تبرئة الإسلام، في الوقت الذي اتهم فيه فهم الأمة محملاً إياه كل المسؤولية، ولكي تبرئ هذه التيارات الإسلام كدين من ساحة الاتهام، لجأت إلى التاريخ كعمق وجداني، وكتجربة ناجحة- على الأقل في مخيلة الأمة- لتستعير منه فهم الإسلام، ولتحاكم به الفهم المعاصر، وبذلك تتحقق القطيعة بين إسلام التجربة التاريخية، وبين إسلام التجربة الراهنة، ودخلت بذلك الأمة في مرحلة جديدة من التناقضات، فمضافاً الى حالة التناقض التي يفرزها الواقع المعاصر، أصبحت الأمة أيضاً ملزمة أن تعيش تناقضات الماضي، فلم تصبح خيارات الإنسان المعرفية هي مجرد تحقيق وعي يتفاعل مع الواقع، وانما تحقيق وعي يمكنه الالتفات إلى الوراء في الوقت الذي يسير قدماً الى الإمام، في عملية صعبة ومعقدة تصل في أكثر الأحيان الى الكفر بالواقع أو الكفر بالماضي.

ومن المؤكد ان الإيمان بإسلام الماضي والتأكيد عليه لا يتحقق إلاّ بعد الكفر بإسلام الحاضر، ومن أجل ذلك تم التأكيد على نظام الخلافة كحل لأزمة الحكم في المجتمعات الإسلامية، والكفر بالديمقراطية كشكل معاصر للحكم.

ومشروع الخلافة الإسلامية برغم انه يحمل دلالة الانتماء للإسلام، إلاّ انه في الواقع يكشف عن حالة تناقض أو انفصام؛ فالإشادة بالتاريخ هي إدانة للواقع، والأيمان بما كان عليه السلف من إسلام، يقابله تشكيك بما عليه المسلم اليوم من إسلام، بحيث لا يستطيع المسلم المعاصر أن يقول: (أنا مسلم لأني أعيش اليوم إسلامي وأعبر بتجربتي عن إيماني). والإسلام وإن كان مساهماً فعلياً في صنع التاريخ إلاّ انه لم يحقق ذلك في الحاضر، فكل الخيارات الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية... هي منجزات ليست إسلامية، فإذا أراد المسلم المعاصر الإسلام انفصل عن الواقع وإن أراد الواقع انفصل عن الإسلام.

وقد كرس الخطاب السلفي هذه الحالة وتفنن في نقل أمجاد الماضي وتسويقها، حتى أصبح الخطاب الأعلى صوتاً والأكثر حضوراً هو الإسلام التاريخي، الأمر الذي يفسر لنا بروز بعض الظواهر الطالبانية والداعشية وغيرها من الحركات الراديكالية، التي تعبر عن نفسية مأزومة همشها الحاضر فهربت نحو الماضي، ومن هنا لا يمكننا استبعاد الحالة النفسية عند تحليل هذه الظواهر، في الوقت الذي لا نستبعد تأثير الجو الثقافي الذي عزز هذه الحالة، كما لا يجوز استبعاد العامل السياسي الذي وظف هذه الظواهر.

تجربة إسلامية قاسية تاريخياً

ولتقديم قراءة سياسية معاصرة للإسلام تستمد شرعيتها من النص الديني، لابد من مواجهة الوعي التاريخي للإسلام، فعملية النقد للتجارب التاريخية هي الخطوة الأولى لتجاوز التركة الثقيلة التي جعلت الأمة مستسلمة أمام ما أُنجز تاريخياً، ومن المفارقات المدهشة ان هذه الأمة تستبعد الخيار الإسلامي في الحكم لقصور التجربة التاريخية التي مثلت كارثة حقيقية لتجربة الحكم في الإسلام، وبخاصة العهد الأموي والعباسي، ولكن في الوقت نفسه تنظر بعين القداسة لتلك التجارب التاريخية، ولا تجد في نفسها الجرأة لتقديم أي تصور معارض لها، وذلك بسبب الربط الذي حصل بين الإسلام كدين وبين تجربة سلف الأمة، والأعجب من ذلك ان بعض الحركات الإسلامية أسست كل تصوراتها على تلك التجربة وبدأت في الدعوة إلى الخلافة الإسلامية تأسياً بتجربة الأمويين والعباسيين والعثمانية مثل حركة التحرير.

ويمكننا القول: ان هذه الأمة قد خضعت لتجربة إسلامية قاسية، وعلى أقل تقدير منذ قيام الدولة العصبية ابتداءً من الدولة الأموية مروراً بالعباسية وانتهاء بسلاطين الدولة العثمانية، وقد سطَّر لنا التاريخ أبشع أشكال الاستغلال السياسي باسم الدين، مما أوجد حالة في الشعور أو في اللاشعور تستدعي النفور من النظم السياسية ذات الصبغة الدينية، وقد يفسر لنا هذا وجود هذه الأنظمة التي تحكم بسياسات لا ترتكز على الدين في مشروعها السياسي، حتى أحزاب المعارضة في أغلبها الأعم لا تعارض تلك السلطة لكونها لا تحكم بالإسلام، الأمر الذي يؤكد ان خيارات الأمة في السياسة ليست إسلامية، ووجود هذه الأنظمة كان نتاجاً طبيعياً لثقافة الأمة، وليس كما يقال ان الأنظمة الحاكمة قد تمكَّنت من رقاب الأمة بمعونة خارجية بعيداً عن رضاها.

وما يعزز هذه الحالة ان المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، يتمحور معظم خطابها حول التربية والتهذيب والالتزام بالأحكام الشرعية، بل حتى بضرورة السمع والطاعة للحاكم، ولا نجد خطاباً يطالب بالحكم الإسلامي إلاّ ضمن الحركات الإسلامية، وهي دوائر محدودة داخل الأمة، كما إنها متهمة من تيار عريض بكونها تستغل الدين لتحقيق مآرب خاصة.

*مقتطف من كتاب \دولة الخلافة الإسلامية.. قراءة في المفهوم والمسار والتحولات\ - صادر عن شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية - العتبة الحسينية المقدسة