عزيمة أم رخصة: لماذا يفطر الشيعة في السفر؟​

قال تعالى: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )[1]

اتّفقت كلمة الفقهاء من الفريقين على مشروعية الإفطار في السفر تبعاً للذكر الحكيم، والسنّة المتواترة، إلاّ أنَّهم اختلفوا في كونه عزيمة أو رخصة، نظير الخلاف في كون القصر فيه جائزاً أو واجباً.

ذهبت الإمامية ـ تبعاً لأئمّة أهل البيت عليهم السلام ـ والظاهرية إلى كون الإفطار عزيمة، واختاره من الصحابة: عبد الرحمن بن عوف، وعمر وابنه عبد الله، وأبو هريرة، وعائشة، وابن عباس، ومن التابعين: سعيد بن المسيّب، وعطاء، وعروة بن الزبير، وشعبة، والزهري، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر، ويونس ابن عبيد وأصحابه[2].

وذهب جمهور أهل السنّة ـ وفيهم فقهاء المذاهب الأربعة ـ إلى كون الإفطار رخصة، وإن اختلفوا في أفضلية الإفطار والصوم.

ويدلّ على كون الإفطار في السفر عزيمة: الكتاب والسنّة ثمّ إجماع الإمامية والظاهرية، أمّا الكتاب فيدلّ عليه قوله سبحانه: ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )[3].

استثنى سبحانه صنفين: المريض والمسافر، والفاء للتفريع، والجملة متفرّعة على قوله: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) وعلى قوله: ( أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ) فنبّه بالاستثناء على أنّه لو عرض عارض ـ من مرض أو سفر ـ فهو يوجب ارتفاع حكم الصوم، وقضاءه بعد شهر رمضان ( فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ).

وعلى هذا المعنى فالآية بدلالتها المطابقية تفرض عليهما القضاء الذي هو يلازم عدم فرض الصيام عليهما، وهذا يدلّ على أنّ الإفطار عزيمة، إذ المكتوب عليهما من أوّل الأمر هو القضاء.

هذا وتظافرت السنّة المتواترة الواردة من طرق الشيعة والسنّة على أنّ الإفطار في السفر عزيمة، ونذكر من كُلّ من الفريقين حديثين للاختصار، وإذا أردت المزيد فعليك بكتاب البدعة للشيخ السبحاني:

1 ـ عن الزهري عن علي بن الحسين عليهما ‌السلام قال: « وأمّا صوم السفر والمرض، فإنّ العامّة قد اختلفت في ذلك، فقال: يصوم، وقال آخرون: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأمّا نحن فنقول: يُفطر في الحالين جميعاً، فإن صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء، فإنّ الله تعالى يقول: ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) فهذا تفسير الصيام »[4].

2 ـ عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال: « سمّى رسول الله صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله قوماً صاموا حين أفطر وقصّر: عُصاة، وقال: هُم العصاة إلى يوم القيامة، وإنّا لنعرف أبناء أبنائهم إلى يومنا هذا »[5].

وأمّا ما رواه أهل السنّة في مجال الإفطار :

1 ـ عن جابر بن عبد الله: أنّ رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله خرج عام الفتح إلى مكّة في رمضان، فصام حتّى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر الناس إليه ثمّ شرب، فقيل له بعد ذلك: إنّ بعض الناس قد صام؟ فقال: « أُولئك العصاة، أُولئك العصاة » (1).

وهذا الحديث صريح في أنّ الصوم في السفر معصية لا يجوز.

2 ـ عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله: « صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر »[6].

هذا وإن استدلّ القائلون بكون الإفطار في السفر رخصة لا عزيمة بقوله تعالى: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) فالآية راجعة إلى المسافر، فهو يدلّ مضافاً إلى جواز الصيام في السفر، يدلّ على أفضليته فيه، وينتج أنّ الإفطار رخصة والصيام أفضل.

ولكن يلاحظ عليه:

أوّلاً: أنّ الاستدلال إنّما يتمّ لو لم نقل بأنّ الآية الثانية ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ... )[7] ناسخة للآية المتقدّمة برمّتها، ومنها قوله: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ )، وإلاّ فعلى القول بالنسخ ـ كما رواه البخاري ـ يسقط الاستدلال، وإليك ما روى: قال: باب ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ )[8] قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع: نسختها ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ... )[9].

وثانياً: إنّ الاستدلال مبنيّ على أن لا يكون قوله سبحانه: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) ناسخاً لقوله: ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ له ) كما رواه البخاري عن ابن أبي ليلى، أنّه حدّثه أصحاب محمّد صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله: نزل رمضان فشقّ عليهم، فكان من أطعم كُلّ يوم مسكيناً ترك الصوم ممّن يطيقه ورخّص لهم في ذلك، فنسختها: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) فأمروا بالصوم[10].

إذ على هذا التفسير لا صلة بالمنسوخ والناسخ بالمسافر، بل كلاهما ناظران إلى الحاضر، فقد كان من يطيقه تاركاً للصوم مقدّماً للفدية، فنزل الوحي وأمرهم بالصوم، فأيّ صلة له بالموضوع.

وثالثاً: مع غضّ النظر عمّا سبق من الأمرين، وتسليم أنّ الآية ليس فيها نسخ ـ كما هو الحقّ ـ نقول: إنّ قوله: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) حضّ على الصيام ودعوة إلى تلك العبادة، من غير نظر إلى المريض والمسافر والمطيق، وإنّما هو خروج عن الآية بإعطاء بيان حكم كُلّي، وهو أنّ الصيام خير للمؤمنين، وليس عليهم أن يتخلّوا عنه لأجل تعبه، ولأجل ذلك يقول: ( إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ).

قال العلاّمة الطباطبائي: « قوله تعالى: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) جملة متمّمة لسابقتها، والمعنى بحسب التقدير: تطوّعوا بالصوم المكتوب عليكم، فإنّ التطوّع بالخير خير، والصوم خير لكم، فالتطوّع به خير على خير.

وربما يقال: إنّ قوله: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة، فإنّ ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك، فيناسب الاستحباب دون الوجوب، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة من المريض والمسافر، فيستحبّ عليهم اختيار الصوم على الإفطار والقضاء.

ويرد عليه: عدم الدليل عليه أوّلاً، واختلاف الجملتين، أعني قوله: ( فَمَن كَانَ مِنكُم... )، وقوله: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) بالغيبة والخطاب ثانياً، وأنّ الجملة الأُولى ليست مسوقة لبيان الترخيص والتخيير، بل ظاهر قوله: ( فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) تعيّن الصوم في أيّام أُخر كما مرّ ثالثاً.

وأنّ الجملة الأُولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حقّ المعذور لم يذكر الصوم والإفطار حتّى يكون قوله: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) بياناً لأحد طرفي التخيير، بل إنّما ذكرت صوم شهر رمضان، وصوم عدّة من أيّام أُخر، وحينئذ لا سبيل إلى استفادة ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره، من مجرد قوله: ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) من غير قرينة ظاهرة رابعاً.

وأنّ المقام ليس مقام بيان الحكم حتّى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبياً، بل المقام ـ كما مرّ سابقاً ـ مقام بيان ملاك التشريع، وإنّ الحكم المشرّع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن، كما في قوله تعالى: ( فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ )[11]، وقوله تعالى: ( فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ )[12]، وقوله تعالى: ( تُؤْمِنُونَ باللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )[13]، والآيات من ذلك كثيرة »[14].

الهوامش:

[1] ـ البقرة: 184.

[2] أُنظر: المحلّى 6 / 258، المصنّف للصنعاني 2 / 567.

[3] البقرة: 184.

[4] وسائل الشيعة 10 / 174.

[5] 3 ـ الكافي 4 / 128، من لا يحضره الفقيه 1 / 435 و 2 / 141، تهذيب الأحكام 4 / 217.

[6] صحيح مسلم 3 / 141، مسند أبي يعلى 3 / 400، صحيح ابن خزيمة 3 / 255، صحيح ابن حبّان 6 / 423.

[7] البقرة: 185.

[8] البقرة: 184.

[9] صحيح البخاري 2 / 238.

[10] المصدر السابق 2 / 239.

[11] البقرة: 54.

[12] الجمعة: 9.

[13] الصف: 11.

[14] الميزان في تفسير القرآن 2 / 14.