هل نحن بحاجة إلى تقليد الفقيه؟!

الذي يجده الإنسان في أعماق وجدانه أن كل انسان منذ صغره يعشق الكمال بل يسعى نحوه.

وفي تحليل حركة الإنسان منذ نعومة أظفاره نجده يسعى نحو هدف يعتقده كماله فالصغير في بداية نشأته قد يعتقد أن كماله يتحقق حينما يحبو فيسعى جاهداً نحو الحبو، وحينما يحبو يعلم أن الحبو ليس كماله، فيسعى نحو المشـي لعله يحقق من خلاله كماله فيمـشي، لكنه يدرك بعد ذلك أنه لم يحقق كماله المنشود، حينها ينشد أمراً آخر لعل به يكون كماله، وقد يكون هو النطق والتكلم فيتكلم وقد يصبح فصيحاً لكنه يشعر بنار عشق الكمال مازالت تلتهب في داخله.

وهنا قد يجعل له قدوة يظن كماله يتحقق حين يصبح مثلها وهذا القدوة قد يكون أباه أو معلمه او قائده...ويصل الى مستوى قدوته أو أعلى منه لكنه يشعر بذلك الظمأ نحو الكمال أنه ما زال في داخله.

ويستمر الإنسان كبيراً يبحث عن كماله، فيظن البعض أن المال يحقق الكمال فيصبح أغنى الأغنياء لكنه يشعر بالفقر الداخلي.

ويظن البعض أن السلطة تحقق كمالهم فيصلون اليها لكنهم يشعرون بالذل الداخلي.

ويظن البعض أن الجاه يحقق كمالهم فيصلون اليه لكنهم يشعرون بذلك الجوع المعنوي مازال موجوداً في داخلهم. هنا يتعرف الإنسان بفطرته السليمة أنه يسعى نحو الكمال المطلق الخالي من كل عيب ونقيصة وكل ما ظنه الكمال كان خداعاً لأن الكمال المطلق ليس في تلك الماديات التي كان يسعى اليها بل الكمال المطلق يعرفه الإنسان بفطرته.

قال تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ  وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ».[1]

فكمال الإنسان يتحقق حينما يسير على طريق الكمال المطلق وهو وإن لم يمكن له الوصول الى المطلق لفقره الذاتي لكنه يقترب منه ليتحقق كماله الإنساني كما صور القرآن الكريم كمال سيد بني البشر بقوله تعالى: «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ۞ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ»[2].

وعليه فالكلام كل الكلام هو كيف يحسن الإنسان السير في طريق كماله؟

وهنا يأتي دور التقليد لأن لهذه الطريق قوانين قد حددها خالقها والإنسان بقدراته العقلية ووسائله الأخرى لا يستطيع معرفة هذه القوانين التي نظمت لصالح الإنسان في دنياه وآخرته وفي جسده وروحه وفي فرده ومجتمعه.

لذا كانت الحاجة الى الأنبياء والرسل ليبينوا لنا معالم هذه الطريق وقوانينها لنهتدي بها اثناء سيرنا فيها.

وكانت رسالة الإسلام حاملة القوانين الخالدة لمسيرة الإنسان ومع غياب صاحب الشريعة الاعظم وغيبة آخر مبين لها كانت الحاجة ماسة ليقوم ثلة من الناس بدراسة هذه القوانين ليُعرفوها للناس وذلك لعدم إمكانية الدراسة المباشرة من كل أحد لمصادر هذه القوانين.

وهؤلاء الدارسون الواصلون الى معرفة تلك القوانين هم الفقهاء.

ومن لم يستطع الوصول الى معرفتها عن طريق الدراسة كان أمامه باب لمعرفة قوانين الشريعة عبر الاعتماد على هؤلاء الفقهاء وهذا الباب يسمى التقليد.

لذا فالتقليد ـ الذي هو اتباع للفقهاء الذين درسوا ووصلوا الى معرفة قوانين الله في حياة الإنسان ـ هو المعتمد لمعرفة القوانين للعبور في طريق الكمال.

كيف نشأت الحاجة إلى التقليد؟

من المعلوم والثابت الذي لا خلاف فيه أن المصدر الأساس لأحكام الشـريعة المقدسة هو الكتاب العزيز والسنّة المطهرة، واستفادة هذه الأحكام منهما ليس بالأمر اليسير للسواد الأعظم من الناس،  لما يحيط بها من غموض بسبب العامل الزمني الممتد بين زمن المعصوم وزماننا الحاضر، فمن هذا المنطلق ولهذه الحاجة كان لابد من بذل جهد علمي كبير بغية تحصيل الحكم الشـرعي من تلك النصوص، ويتضاعف هذا الجهد كلما كان للحكم الشرعي مقدمات أكثر وزمن صدور الرواية عن المعصوم أبعد، بسبب فقدان بعض الآثار وغياب بعض القرائن، ووجود الدس والوضع في الأحاديث الشريفة لأهل البيت عليهم السلام مما يستدعي البحث عن أحوال الرواة، بالإضافة الى أن الحياة تتسارع شيئاً فشيئاً نحو التقدم والتطور مما يفرز أموراً مستحدثة لم يرد فيها نص خاص، فيستدعي ذلك استخراج أحكام شرعية لها على ضوء القواعد العامّة، ومجموع ما أُوصل الينا من أصول وتشريعات، فيكون ـ والحال هذه ـ البحث عن الحكم الشرعي بحثاً علمياً صرفاً ومعقداً غاية التعقيد لما يتطلبه من بحث مظنٍ وجهد مستمر وإن لم يكن كذلك في جملةٍ من الحالات الأخرى التي يكون الحكم الشرعي فيها واضحاً كلَّ الوضوح، وعندما ندقق في الحياة الطبيعية وتفاصيلها الكثيرة والمتنوعة كالمجال السياسي والاقتصادي والعسكري والطبي... الخ، نرى هذه المجالات تتطلب معرفة خاصة وتتفاوت نوعية هذه المعرفة فقد تكون واضحة وبسيطة ولا تحتاج الى إمعان نظر او تدبر، لكننا نجد القسم الأكبر من هذه المجالات ليس واضحاً بيّناً بل يحتاج الى جهد كبير، فمثلاً لو أصيب أحدنا بدوار او صداع فهو بحكم التجربة الساذجة يفزع حينها الى المسكنات والمهدئات، علاجاً لتلك الوعكة ولكن كثيراً من أساليب الوقاية والعلاج قد لا يعرفها إلاّ عن طريق المختص في أمثال هذه الأمور وهو الطبيب، هذا في مجال الطب، وهكذا الحال في باقي المجالات التي ذكرناها وعلى اختلاف فروعها، ومن خلال هذه المعادلة يتضح جلياً أن الإنسان بإمكانياته المتواضعة لا يمكنه تحمل مسؤولية البحث والجهد الكامل في كل ناحية من نواحي الحياة لان هذا عادة أكبر من قدرة الفرد وعمره من ناحية ولا يتيح له التعمق في كل تلك النواحي بالدرجة الكبيرة من ناحية أخرى، فاستقرت المجتمعات البشرية على أن يتخصص لكل مجال من مجالات المعرفة والبحث عدد من الناس وكان ذلك لوناً من تقسيم العمل بين الناس سار عليه الإنسان بفطرته منذ أبعد العصور ولم يشذ الإسلام عن ذلك بل جرى على نفس الأساس الذي اخذ به الإنسان في كل مناحي حياته فوضع مبدئي الاجتهاد والتقليد فالاجتهاد هو التخصص في علوم الشـريعة والتقليد هو الاعتماد على المتخصصين، فاذا كان المكلف يريد التعرف على الحكم الشـرعي اذا لم يكن ذلك الحكم من الأحكام المعلومة ضرورة في الشـريعة، فعليه ان يعتمد على المتخصص في هذا المجال وهو المجتهد في التخصص الديني، وهذا الأمر يعتبر من لطف الله تعالى بعباده اذ لم يكلف الجميع بالاجتهاد ومعاناة البحث والجهد العلمي من اجل التعرف على الحكم الشـرعي توفيراً للوقت وتوزيعاً للجهد الإنساني على كل حقول الحياة، والجدير بالذكر انه ليس لغير المتخصص المجتهد محاولة التعرف المباشر على الحكم الشـرعي من الكتاب والسنة والاعتماد على محاولته وانما الواجب عليه التعرف على الحكم عن طريق التقليد والاعتماد في اخذه الحكم الشرعي عن طريق العلماء المجتهدين، وبهذا كان التقليد أمراً واجباً مفروضاً في الدين، فيكون معنى التقليد هو الاعتماد على المتخصّصين، وقد مر سابقاً ان العلة في اطلاق لفظ التقليد على هذه العملية، هو الإشارة الى ان المكلف قد جعل عمله كالقلادة في رقبة المجتهد الذي يقلّده، وهو تعبير رمزي عن تحميله مسؤولية هذا العمل امام الله سبحانه وتعالى وليس التقليد هو التعصب والاعتقاد بما يعتقده الآخرون جهلاً وبدون دليل ففرق بين ان يبدي شخص رأياً فتسارع إلى اليقين بذلك الرأي بدون ان تعرف دليلاً عليه وتؤكد صحته، وبين إن يبدي شخص رأياً فتتبعه محملاً له مسؤولية هذا الرأي بحكم كونه من ذوي الاختصاص والمعرفة، فالأول هو التقليد المذموم شرعاً وعقلاً والثاني هو التقليد الصحيح الذي جرت عليه سنة الحياة شرعاً وعقلاً وعلى ذلك جرت العادة.

[1]   سورة النور:39.

[2] سورة النجم: 8-9.