الخمس: فريضة أم ضريبة؟!

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

لا إشكال لدى المسلمين جميعًا في ثبوت الخمس في غنيمة الحرب، وكذا لا إشكال لدى المسلمين جميعًا في ثبوت الخمس في المعادن والكنوز المعبّر عنها بالركاز، وإنما الكلام والبحث في ثبوت الخمس في أرباح المكاسب، أي: في ربح التجارة، إذا حصل الإنسان على ربح من تجارته أو وظيفته، وكان فاضلًا وزائدًا على مؤونة سنته، فهل يجب عليه فيه الخمس أم لا؟ المعروف بين الشيعة الإمامية هو ثبوت الخمس في الأرباح الزائدة على مؤونة السنة.

مع ذلك كتب بعض الباحثين من الشيعة الإمامية في هذا المجال بحثًا، توصّل فيه إلى أنَّ الخمس في أرباح المكاسب ليس تشريعًا صادرًا عن الله أو عن النبي ، وإنما هو ضريبةٌ ماليةٌ طالب بها بعضُ الأئمة، وأولهم الإمام الكاظم ، طالب بها شيعتَه ومواليه في فترة معينة، ولأجل ظروف معينة، ولأجل عوامل معينة، وبما أن الظروف تلك قد انتهت، والعوامل التي جعلت الإمام الكاظم  يطلب الخمس في أرباح المكاسب من شيعته ومواليه في فترة معينة، إذن ارتفع الخمس بارتفاع ظروفه، فالخمس في أرباح المكاسب - أي: فيما يربحه الإنسان من تجارة أو وظيفة أو كسب زائدًا على مؤونة سنته - ليس تشريعًا حتى يطالَب به الشيعة الإمامية في العصر الحاضر، إنما هو ضريبةٌ ماليةٌ فُرِضت من قِبَل بعض الأئمة المتأخرين لظروف معينة، وانتهت المطالبة بانتهاء تلك الظروف. ويقيم على هذه النتيجة التي توصّل إليها بعضَ الأدلة والبراهين، نستعرض ونتأمل فيها.

الدليل الأول: سيرة النبي والأئمة المتقدمين

إذا راجعنا سيرة النبي محمد وأهل بيته إلى زمان الإمام الكاظم، لم نجد في هذه الفترة أحدًا من هؤلاء المعصومين تصدى لمسألة الخمس، لم نجد أحدًا من هؤلاء المسؤولين طالب بالخمس - أي: خمس أرباح المكاسب - أو حرّض الناس على دفعه، أو وضع جباةً لجبايته وإيصاله إلى الإمام ، في المقابل نرى أن النبي  طالب الناس بدفع الزكاة، ووضع جباةً لجباية الزكاة، بل وجعل سهمًا من الزكاة لهؤلاء الجباة والعاملين عليها.

إذن، عند المقارنة بين تصدي أهل البيت لمسألة الزكاة، وتصديهم لمسألة الخمس، حيث تصدوا لمسألة الزكاة، وطالبوا بها، ووضعوا الجباة لجبايتها، ولم يحصل ذلك منهم في قضية الخمس، هذا دليل على أن الخمس لم يكن مشرَّعًا، هذا دليل على أن خمس أرباح المكاسب لم يكن مشرَّعًا من قِبل الله ولا من قِبَل النبي ، ولذلك لم يطالب به هؤلاء المجموعة من أهل البيت  من النبي إلى الإمام الكاظم ، هذا يكشف عن كون الخمس ليس تشريعًا إلهيًا ولا نبويًا كما ذكرنا.

هذا هو الدليل الأول - والأهم - الذي استدل به، ونحن نتأمل في هذا الدليل، هنا عدة أجوبة، نحن نغض النظر عن الآية، كأن الآية خاصة بغنائم الحرب، نحن لا نريد أن ندخل في الآية، هل الآية عامة لكل ما يغنمه الإنسان ويربحه الإنسان، كما يؤكد ذلك علماء اللغة، أم أن الآية خاصة بغنائم الحرب، لنفترض جدلًا أن الآية خاصة بغنائم الحرب، نحن لا نريد أن نتعرض للآية، نحن نتأمل في هذا الدليل المطروح، هناك عدة وجوه وعدة أجوبة.

الجواب الأول: تدريجية تبليغ الأحكام الشرعية

هذا مدفوع بالنقض والحل، أما النقض: أنت عندما تراجع فقهنا، فقه الشيعة الإمامية، أؤكد لك أن ثلاثة أرباع الفقه لم ترد عن النبي ولا عن أحد من الأئمة، ما وردت إلا من الإمام الباقر فصاعدًا، ثلاثة أرباع فقهنا الذي نتعامل به، أحكام الصلاة، أحكام الوضوء، حتى أحكام الزكاة، أحكام الحج، أحكام الصيام، ثلاثة أرباع الفقه، 70% أو 80% من الفقه الذي نتعاطاه يوميًا لم ترد رواية مباشرة عن النبي  أو عن أحد الأئمة بعده إلى زمان الإمام الباقر ، هو أول من وردت من فمه هذه الأحكام المتعلقة بالعبادات التي نمارسها يوميًا، وهي أحكام ابتلائية كثيرة الابتلاء بالنسبة إلينا، لم يرد شيءٌ من ذلك.

إذا كان عدم ورود الحكم عن النبي أو عن الأئمة بعده إلى زمان الأئمة المتأخرين، كالإمام الكاظم ، إذا كان عدم ورود الحكم دليلًا على أنه لم يشرّع فمعنى ذلك أن فقهنا كله لم يكن مشرَّعًا، وإنما أصدره الأئمة لملابسات معينة! هذا الفقه اليومي، أحكام الوضوء، من أين نحن عرفنا الوضوء وكيفيته، الصلاة وكيفيتها، أحكام الحج وكيفيته؟ أول من تحدّث بذلك الإمام الباقر ، وبعده الإمام الصادق، أسندوا هذه الأحكام إلى النبي، لكنهم أول من تحدّث بها.

إذن، لو كان عدم ورود دليلٍ من قِبَل النبي ومن بعده، هذا يعدّ دليلًا على عدم التشريع، فلازم ذلك أن نقول بأنَّ ثلاثة أرباع أحكامنا الشرعية لم تكن تشريعًا، لا إلهيًا، ولا نبويًا، لأنها لم تصدر عن هؤلاء المعصومين «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، هذا هو النقض.

وأما الحل: يذكر علماؤنا أن تبليغ الأحكام الشرعية كان على نحو التدريج ولم يكن على نحو الدفعة. أنت بعقلك لو حكّمت عقلك ستجد أنه لا يمكن للنبي  أن يبلّغ جميع الأحكام؛ لأن النبي عاش في المدينة إحدى عشرة سنة، وهي ليست كافية لتبليغ الدين بتمامه، هذا الدين الإسلامي الذي هو دينٌ شموليٌّ ينظّم حياة الفرد وحياة المجتمع، ويضع لكل شقٍّ ولكل حالةٍ من حالات الفرد حكمًا، هذا الدين الشمولي لا يمكن تبليغه في إحدى عشرة سنة، دين يستوعب تفاصيل الحياة كلها، يستوعب تفاصيل المجتمع كله، لا يمكن تبليغه في إحدى عشرة سنة.

هذا ليس معقولًا أصلًا، بجميع الوسائل، لا يمكن أن يبلّغ النبي الدين في إحدى عشرة سنة، فلا محالة النبي بلّغ جزءًا مهمًا من التبليغ، لكنه لم يمكنه تبليغ الدين كله، ولم يمكنه تبليغ التشريع كله، فأوكل أمر تبليغ الأحكام إلى المعصومين من بعده «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» على نحو التدريج، تبلَّغ الأحكام بحسب الظروف المناسبة، ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي“.

وهذا لا يتنافى مع قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، أكملت الدين شيء وأكملت تبليغه شيء آخر، الدين أُكمل، لا يوجد تشريع بعد النبي، جميع التشريعات صدرت من النبي ، وإن لم تبلَّغ، التشريع اكتمل في عصر النبي، اكتمل التشريع نعم، أما أكمل تبليغه للناس فهذا لم يحصل، وعندنا روايات متعددة عن الإمام الصادق ، منها: ”وإن عندنا الجامعة، قيل: وما الجامعة؟ قال: كتابٌ بإملاء رسول الله  وخطّ علي بن أبي طالب ، فيه جميع ما يحتاجه الناس من حلال وحرام، حتى أرش الخدش إلى يوم القيامة“.

التشريع اكتمل، النبي أودعه الإمام عليًا ، التشريع اكتمل في عصره، إلا أن تبليغه كان بشكل تدريجي، ولم يكن بشكل دفعي، وإلا فالتشريع اكتمل من عنده وفي عصره ، ولذلك ورد عن النبي : ”أنا مدينة العلم، وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها“، وورد عن علي : ”علّمني رسول الله ألف باب من العلم، في كل باب يُفْتَح لي ألفُ باب“.

إذن، التشريع بُنِي بشكل تدريجي، فلا مانع من أن يكون خمس أرباح المكاسب مما شُرِّع في عصر النبي ، ولكن تبليغه بهذا النحو وبهذه الصورة إنما صار على أيدي الأئمة المتأخرين «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، هذا أمر لا مانع منه، بل هذا هو مقتضى النصوص الواردة عنهم .

الجواب الثاني: ورود الأمر الإلهي في جباية الزكاة دون الخمس

وهو أيضًا مؤلّف من نقض وحل، أما النقض: فماذا تقولون في الأنفال؟ أليس تشريعًا إلهيًا؟! سورة الأنفال ابتدأت وافتتحت بتشريع إلهي، وهو قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾، الأنفال ما هي؟ الأنفال أعظم من الخمس، مشكلتها أكبر، الأنفال كما تعدّدها الروايات: الشواطئ من الأنفال، رؤوس الجبال من الأنفال، بطون الأودية من الأنفال، الأرض الموات من الأنفال، المعادن من الأنفال، المعادن بما يشمل البترول، الذهب، الفضة، الملح، الأحجار الكريمة، كل ذلك من الأنفال، قطائع الملوك، صفايا الملوك، جوائز الملوك، من الأنفال.

الأنفال ملكٌ لله ولرسوله، الرسول يملك هذه كلها، شواطئ الأنهار والبحار ورؤوس الجبال، كل المواقع الاستراتيجية في الدولة هي ملكٌ لله وللرسول، المعادن برمتها ملكٌ لله وللرسول، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾، هذه الأنفال مع أنها ملكٌ للرسول بصريح القرآن الكريم ما وجدنا الرسول نصب جباة لجبايتها، لم ينقل أحدٌ من المؤرخين أن الرسول نصب جباةً، مع أن الأنفال له، فلماذا لم ينصب جباة؟! مع أن هذا تشريعٌ من الله، الأنفال للرسول، مع ذلك ما ذكر التاريخ ولا رواية واحدة أن النبي وضع جباة لجباية الأنفال، وما ذكر المؤرخون أن النبي طالب الناس بتسليم الأنفال له، لا توجد ولا رواية أبدًا، فماذا نفعل؟! هل النبي قصّر؟! الله يقول: الأنفال لله وللرسول، ولكن الرسول قصّر، ولم يضع جباة، ولم يطالب الناس بها، مع أنها تشريع من الله تبارك وتعالى؟! هذا هو النقض.

وأما الحل: النبي  يسير وفق الأمر الإلهي لا يتخلف عنه، في الزكاة أُمِر بالجباية، وفي غيرها لم يؤمر بالجباية، في الزكاة نزل أمرٌ من الله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾، تصدَّ لهذا الموضوع، لا يكفي أن يعرف الناس أن هناك زكاةً، بل أنت تصدَّ لأخذ الزكاة، ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾، ونزلت هذه الآية: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾، لما نزل الأمر الإلهي، أُمِر النبي بجباية الزكاة، وضع جباة للزكاة، ولم يؤمر من قِبَل الله بجباية الخمس لم يضع جباةً للخمس، لما لم يؤمر من قِبَل الله بجباية الأنفال لم يضع جباةً للأنفال، النبي يسير وفق الأمر الإلهي، إذا لم يؤمر بالجباية لا يضع جباة، ولا يضع أجرًا على هذه الجباية ولهؤلاء العاملين، وإنما يسير وفق الأمر الإلهي. إذن، عدم نصب النبي جباةً لجباية الخمس لا يكشف عن عدم تشريعه وعن عدم ثبوته من قِبَل النبي محمد .

الجواب الثالث: إعمال أهل البيت لولايتهم في إعفاء الناس من الخمس

النبي ومن بعده من الأئمة إلى الإمام الكاظم، فرضًا إلى الإمام الكاظم، وإلا فالمطالبة بخمس أرباح المكاسب بدأ من عصر الإمام الباقر لا من عصر الإمام الكاظم، هذا الباحث مشتبه، وعندنا روايات أذكرها بعد ذلك. عدم مطالبة النبي  ومن بعده من الأئمة  إلى عصر الإمام الباقر بخمس أرباح المكاسب، من المحتمل أنه كان من باب الولاية، يعني أعملوا ولايتهم في إسقاط الخمس وإعفاء الناس منه، لهم الولاية، حتى لو كان الخمس تشريعًا من الله لهم الولاية على إعفاء الناس منه، لهم الولاية على إسقاطه عن الناس.

مثلًا: نحن نقول بأن الزكاة فريضة إلهية، الأئمة والنبي أعملوا الولاية في المطالبة بها وفي إسقاطها، مثلًا: نحن عندنا رواية معتبرة عن الإمام الصادق : ”إن الله فرض الزكاة“ لكن لم يسن، قال: زكاة، لكن لم يقل: زكاة كم، كيف، وفي أي مورد، الله فرض الزكاة فقط، ”إن الله فرض الزكاة، وسنّها رسول الله في تسعة أشياء“، هو النبي سنّها، يعني من ولايته، بمقتضى ولايته سنّها في تسعة أشياء، وإلا لم يرد من الله شيءٌ عليه من ذلك، هو بولايته جعلها في تسعة أشياء: الأنعام الثلاثة، الغلات الأربع، النقدين من الذهب والفضة، ”وسنها رسول الله في تسعة أشياء، فأجاز الله له ذلك“، أي: أمضى ما عمله النبي ، ”وفرض الله الصلاة ركعتين، وأضاف إليها رسول الله ركعتين، فأمضى الله له ذلك، فما فرضه الله تبارك وتعالى لا يسقط لا في سفر ولا حضر، وما أضافه رسول الله  فهو يسقط في السفر دون الحضر“، وهذا هديةٌ منه ، هذا موجود في الروايات، ”وحرّم الله الخمرَ، وحرّم رسول الله كلَّ مسكر“، ما خصَّ الحرمة بالخمر، عمّمها لكل مسكر، ”فأجاز الله له ذلك“، بمقتضى ولايته، أعطي الولاية من قِبَل الله تبارك وتعالى.

نحن عندنا روايات معتبرة تقول أن الإمام أمير المؤمنين  فرض الزكاة في الخيل العتاق وفي البراذين"، الزكاة ليست واجبة في الخيل، واجبة في الأنعام الثلاثة: الإبل والبقر والغنم، فرض عليٌ الزكاة في الخيل العتاق وفي البراذين، إذن لهم الولاية على التوسعة وعلى التضييق، وإن كان تشريعًا ثابتًا، لكن لهم ولاية على الإعفاء منه، طبعًا ليس الإعفاء منه بالكلية، هذا يتناقض مع تشريعه، لهم الولاية على الإعفاء منه لفترةٍ معيّنةٍ، لفترةٍ محدّدةٍ، لهم الولاية على ذلك.

إذن، بمقتضى ولايتهم من قِبَل النبي  إلى الإمام الباقر، مقتضى ولاية هؤلاء المعصومين، أعملوا ولايتهم، فأسقطوا خمس أرباح المكاسب عن المسلمين في تلك الفترة، تخفيفًا منهم على المسلمين، لهم الولاية على ذلك. هنا رواية مشهورة في باب الخمس، وتسمّى صحيحة علي بن مهزيار، يذكرها فيها الإمام الجواد  أنه أعفى الشيعة من خمس أرباح المكاسب لفترة معينة تخفيفًا منه.

تقول الرواية: كتب إليه أبو جعفر «الإمام الجواد كتب لعلي بن مهزيار» وقرأتُ أنا كتابه إليه في طريق مكة: ”إنَّ الذي أوجبتُ في سنتي هذه...“ إلى أن قال: ”ولم أوجب ذلك عليهم - يعني لم أوجب الخمس على الشيعة - في متاع، ولا آنية، ولا دواب، ولا خدم، ولا ربح ربحه في تجارة، ولا ضيعة إلا في ضيعة سأفسّرها لك؛ تخفيفًا مني عن مواليَّ“، هو ثابت، لكن أنا لي الولاية، لو لم يكن ثابتًا لا معنى لأن يقول: تخفيفًا! لو لم يكن الخمس تشريعًا لما احتاج إلى أن يقول: تخفيفًا، هو ليس ثابتًا من الأصل، هو من الأساس ليس ثابتًا، لكن قوله: أنا لم أوجبه تخفيفًا، معناه أنه شيءٌ ثابتٌ من الأئمة من قبلي، لكنني [...] تخفيفًا لفترة معينة.

”تخفيفًا مني عن مواليَّ، ومنًّا مني عليهم؛ لما يغتال السلطان من أموالهم، ولما ينوبهم في ذاتهم“، طبعًا الشيعة في زمان الإمام الكاظم كانوا مضطهدين، ومحرومين من الأرزاق، كانوا محاربين، كانوا لا يوظّفون في وظائف الدولة، يحارَبون في أرزاقهم، يضيَّق عليهم، يهجَّرون ويسفَّرون من مكان لآخر، الإمام الجواد يقول: أسقطت عنهم خمس أرباح المكاسب تخفيفًا مني عنهم لما يغتال السلطان من أموالهم ولما ينوبهم في ذاتهم، لأجل هذه العلة التي كانت تلمّ بهم. إذن فبالنتيجة: الأئمة لهم الولاية على ذلك، فإعمال النبي  والأئمة من بعده الولايةَ على إسقاط خمس أرباح المكاسب لفترة معينة لأجل ظروف معيشية معينة لا يعني أنه ليس تشريعًا إلهيًا ولا تشريعًا نبويًا، كما توصّل إليه هذا الباحث.

الدليل الثاني: لو كان الخمس فريضة لاستغله خلفاء الجور

الدليل الثاني الذي اُسْتُدِلَّ به على أن خمس أرباح المكاسب ليس تشريعًا: الاستناد إلى عمل خلفاء الجور، خلفاء بني أمية وبني العباس. يقال: لو كان الخمس ثابتًا، لتصدّى بنو أمية وبنو العباس لأخذه؛ لأنه في مصلحتهم، لو كان خمس أرباح المكاسب ثابتًا عن النبي  لتصدّى الخلفاء لجبايته ولأخذه من الناس، فإنه يدعم ميزانية دولهم، ويدعم عروشهم، ويدعم بقاءهم واستقرارهم في السلطة، عدم تصديهم لجبايته من قِبَل الناس يكشف عن أن هذا الخمس لم يكن تشريعًا ثابتًا، ولم يكن صادرًا عن النبي ، وإلا لتصدى الخلفاء - خلفاء بني أمية وبني العباس - لجبايته قسرًا على الناس.

الجواب عن هذا الاستدلال: لا يمكن للخليفة أن يجبي الخمس من الناس حتى لو كان ثابتًا؛ لأنه عكس مصلحته، باعتبار أن الآية صريحةٌ في أن ذا القربى - أي: ذرية النبي من فاطمة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» - هم المالكون لأمر الخمس، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾، ذو القربى معلومٌ عند المسلمين كلهم، المصداق المتيقّن من ذي القربى هم فاطمة وأبناؤها، إذا تصدى الخليفة لجباية الخمس سيطالَب من قِبَل الناس بتسليم سهم ذوي القربى، وهذا يشكّل مفسدة عليه؛ لأنه لو سلّم خمس أموال الناس لذي القربى لملكوا ميزانية ضخمة، يستطيعون بها أن يهيّئوا العدة والعتاد والسلاح لمواجهة الدولة ولإسقاطها.

هم ضاقوا بهم ذرعًا وهم فقراء فكيف يتحملونهم وهم أغنياء؟! الذي تصدّى لإسقاط الدولة الأموية والعباسية منذ أولها إلى آخرها هم أبناء الزهراء، سواء كانوا من الحسنيين أو من الحسينيين، الذين تصدوا للمعارضة وبذلوا الدماء، وبذلوا الجهود والطاقات، استمرت الثورات والحركات العلوية منذ خلافة بني أمية إلى آخر خلافة بني العباس، هذا وهم فقراء مضطهدون محارَبون في أرزاقهم، يعيشون أحوالًا فقيرة مدقعة، ومع ذلك تصدوا لمعارضة الدولة، فكيف لو كانوا يملكون سهمًا، وهو سهم ذوي القربى، ويملكون ميزانية ضخمة؟! لكان هذا بابًا آخر للمعارضة، الخلفاء يفهمون ذلك، لو تصدوا لأمر الخمس ولجبايته لفتحوا عليهم بابًا لا يمكن إغلاقه، لفتحوا عليهم بابًا لا يمكن سدّه، وهو خزينة هائلة لذوي القربى، لبني هاشم، من ذرية فاطمة الزهراء «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، فهذا ليس دليلًا على عدم ثبوت الخمس.

الدليل الثالث: روايات التحليل

هناك روايات صدرت عن الأئمة من أهل البيت  تدلّ على تحليل الخمس، وأن الشيعة محلّلون في مسألة الخمس، من هذه الروايات: معتبرة أبي خديجة عن أبي عبد الله - الإمام الصادق  - قال: قال رجلٌ وأنا حاضرٌ: حلّل لي الفروج! ففزع أبو عبد الله ، فقال له الرجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق، إنما يسألك خادمًا يشتريها «أمة يشتريها» أو امرأة يتزوجها أو ميراثًا يصيبه «يعني تنتقل له جارية من طريق الميراث» أو تجارة «يعني يبيع أو يشتري جارية» أو شيئًا أعطيه «يعني أُعْطِي جارية من قِبَل غيره، كل هذا داخل في كلمة الفروج»، قال: ”هذا لشيعتنا حلال، الشاهد منهم والغائب، والميّت منهم والحي، وما يولَد منهم إلى يوم القيامة، فهو لهم حلال“.

ومن نصوص التحليل أيضًا: معتبرة يونس بن يعقوب عن الإمام الصادق : تقع في أيدينا أرباح وتجارات نعلم أن حقك فيها ثابتٌ، وإنَّا عن ذلك مقصّرون «نعلم أن لك فيها حقًا ولكن لا نخرجه»، قال: ”ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم“. فإذا كان الأئمة قد حلّلوا ذلك لشعيتهم، فلماذا هذه الورطة؟! إذا كانوا الأئمة قد حلّلوا وأباحوا خمس أرباح المكاسب لشيعتهم، فلماذا يصرّ الفقهاء على مطالبة الشيعة بدفع خمس أرباح المكاسب، وقد أباحه الأئمة من قبلهم؟! هذا هو الدليل الثالث.

الجواب عن هذا الدليل: الخمس بدأ الحديث عنه من عصر الإمام الباقر ، معتبرة أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر قال: قرأتُ عليه آية الخمس، هذه الآية التي يقولون أنها خاصة بغنائم الحرب، الإمام الباقر يقول هي عامة وليست خاصة بغنائم الحرب.. قرأتُ عليه آية الخمس فقال: ”ما كان لله فهو لرسوله، وما كان لرسوله فهو لنا“، ثم قال: ”لقد يسّر الله على المؤمنين أن رزقهم خمسة دراهم، وجعلوا لربهم واحدًا، وأكلوا أربعةً حلالًا“، حتى لو عندك خمسة دراهم فواحدٌ منهم خمسٌ، معناه أن الخمس ثابت في كل الأرباح. الإمام يريد أن ينبّه هذا الباحث الذي كتب هذا البحث، ولذلك قال: ”هذا من حديثنا صعبٌ مستصعبٌ، لا يعمل به ولا يصبر عليه إلا ممتحنٌ امتحن الله قلبه بالإيمان“.

الرواية الأخرى: عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق : كتبتُ إليه في الرجل يهدي إليه مولاه هدية تبلغ ألفي درهم أو أقل أو أكثر، هل عليه فيها الخمس؟ فكتب: ”الخمس في ذلك“، حتى هذه الهدية التي تبلغ ألفي درهم الخمس فيها. وعن الكاظم : موثّقة سماعة: سألتُ أبا الحسن  عن الخمس، فقال: ”في كل ما أفاد الناس من قليلٍ أو كثيرٍ“.

ثم تعال إلى النصوص التي تشدّد في أمر الخمس، منها: معتبرة أبي بصير قال: قلتُ لأبي جعفر - الإمام الباقر - : ما أيسر ما يدخل به العبدُ النارَ؟ قال: ”من أكل من مال اليتيم درهمًا، ونحن اليتيم يا أبا بصير“، ومعتبرته الأخرى عن الباقر : ”لا يحل لأحدٍ أن يشتري من الخمس شيئًا، حتى يصل إلينا حقُّنا“، والرواية عن الصادق : ”لا يُعْذَر عبدٌ اشترى من الخمس شيئًا أن يقول: يا ربي اشتريته بمالي، حتى يأذن له أهلُ الخمس“.

وكان فيما ورد في التوقيع الشريف - عن الإمام الحجة «عجل الله فرجه الشريف» - إلى محمد بن جعفر الأسدي فيما ورد على الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري «هذا كان سفير الإمام، من خلاله تمر التواقيع إلى الشيعة وأجوبة مسائلهم» في جواب مسائل إلى الصاحب «يعني القائم عجل الله فرجه الشريف» قال: ”وأما ما سألتَ عنه من أمر من يستحل في يده من أموالنا، ويتصرّف فيه تصرّفه في ماله من غير أمرنا“، ذلك التحليل الذي ورد عن الأئمة نسخه الإمام الحجة، قال: هذا التحليل انتهى وقته الآن، التحليل الذي صدر عن الجواد أو عن غيره انتهى، هذا آخر إمام يطالب بذلك، يقول: لا يجوز.

قال: ”وأما ما سألتَ عنه من أمر من يستحل في يده من أموالنا، ويتصرّف فيه تصرّفه في ماله من غير أمرنا، فمن فعل ذلك فهو معلونٌ، ونحن خصماؤه“، إلى أن قال: ”فلا يحل لأحدٍ أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه، فكيف يحل ذلك في مالنا؟! من فعل شيئًا من ذلك بغير أمرنا فقد استحلَّ منا ما حُرِّم عليه، ومن أكل من مالنا شيئًا فإنما يأكل في بطنه نارًا، وسيصلى سعيرًا“.

وأما علماؤنا فقد أجابوا عن مسألة التحليل، لا تظن أنك أتيت بشيء جديد لم يلتفت إليه أحد! لا، هذه روايات التحليل بمرأى وبمسمع من فقهائنا، وهي مذكورة في كتبهم الفقهية الاستدلالية، روايات التحليل أجاب عنها علماؤنا، علماؤنا يقولون بالتحليل أيضًا، لكن التحليل في قسم خاص، وهو ما ينتقل إليك ممن لا يخمّس، إذا انتقل إليك شيءٌ ممن لا يخمّس فلا يجب فيه الخمس.

مثلًا: انتقل إليك ميراث من شخص لا يخمّس، لا يجب عليك الخمس في هذا الميراث، حتى لو كان المورِّث ممن لا يخمّس، أو لنفترض أنك تعلم أن هذا الرجل لا يخمّس، سيارته فيها خمسه، أثاثه فيه خمس، وباعك عليه، باعه عليك وفيه الخمس، يحل لك بتمامه، ويبقى وزره عليه، هذا معنى قوله: ”تقع في أيدينا أرباح وتجارات نعلم أن حقك فيها ثابت“، أي أن فيها حقًا قبل أن تقع في أيدينا، وقعت وهي فيها حق، قبل أن تقع في أيدينا كان فيها حق، تقع بالميراث، تقع بالشراء. ”تقع في أيدينا أرباح وتجارات نعلم أن حقك فيها ثابتٌ، وإنَّا عن ذلك مقصّرون. قال: ما أنصفناكم إن كلّفناكم ذلك اليوم“.

هذا تحليل، تحليل صحيح ويفتي به فقهاؤنا كلهم، ما يقع في يد الإمامي ممن لا يخمّس عصيانًا أو لعدم اعتقاد، إذا وقع في يدك شيء فيه خمسٌ منه فلا يجب عليك إخراج خمسه، وهذا يذكره فقهاؤنا، السيد الخوئي، السيد السيستاني، وغيرهما، راجع آخر باب الخمس في المنهاج، لا يوجد شيء أخفيناه عن الناس! بل هو موجود في الرسائل العملية.

هذه عبارة السيد السيستاني والسيد الخوئي: لا يجوز التصرّف في العين بعد انتهاء السنة قبل دفع الخمس، ولو تصرّف فيها بالاتجار فإن كان الاتجار بما في الذمة، وكان الوفاء بالعين غير المخمّسة، صحت المعاملة، ولكن يلزمه دفع الخمس من مال آخر، وإن كان الاتجار بعين ما فيه الخمس «سيارة تعلق بها الخمس وقمت ببيعها، واستلمت المال» فالظاهر صحة المعاملة أيضًا «المعاملة صحيحة، مع أنني بعت ما فيه الخمس، والثمن الذي أستلمه لي» إذا كان طرفها مؤمنًا «يعني إذا كان المشتري لها من الإمامية، تحل له السيارة» من غير حاجة إلى إجازة الحاكم الشرعي، ولكن ينتقل الخمس إلى البدل «كان في السيارة، صار في ثمنها»، كما أنه إذا وهبها لمؤمن صحّت الهبة «إذا كان في السيارة خمس ووهبتها لإنسان مؤمن فالهبة صحيحة، المؤمن لا شيء عليه، إنما أنا يكون الخمس في ذمتي» وينتقل الخمس إلى ذمة الواهب.

ثم ذكر قاعدة كلية: وبالجملة كل ما ينتقل إلى المؤمن «يعني الإمامي» ممن لا يخمّس أمواله لأحد الوجوه المتقدّمة بمعاملة «يعني أعطاها إياه بمعاملة، ببيع» أو مجانًا «بميراث، بهبة» يملكه، فيجوز التصرف فيه، وقد أحلّ الأئمة  ذلك لشيعتهم «يذكر نفس مضمون الروايات» تفضلًا منهم عليهم، وكذلك يجوز التصرف للمؤمن في أموال هؤلاء إذا أباحوها من دون تمليك «لو عزمني شخصٌ لا يخمّس، ألا آكل من عنده؟! لا، آكل من عنده، ولا شيء عليَّ، كذلك لو قال لي: هذا البستان، ادخل، كل من هذا البستان، صلِّ، توضأ، لا بأس بذلك، يجوز لي ذلك، هذا مما أبيح» ففي جميع ذلك «يعني جميع هذه الموارد» يكون المهنّا للمؤمن والوزر على مانع الخمس إذا كان مقصِّرًا.

إذن فبالنتيجة: مسألة التحليل مسألة واضحة، نحن لم نختلف فيها، ولم ننازع فيها، ولكن ظاهر روايات التحليل هو قسمٌ من الخمس، لا جميع موارد الخمس، بحيث لو كان الإنسان موظفًا واستلم راتبًا، أو عنده تجارة واستلم أرباحًا، لا يجب فيها الخمس للتحليل! لا، التحليل لا يشمل هذا المورد؛ لأن نصوص التحليل منصرفةٌ للمنتقل ممن لا يخمّس إلى الإمامي.

إذن فبالتالي تبيّن لنا أن هذه الشبهة، وهي أن الخمس في أرباح المكاسب ليس تشريعًا ثابتًا عن النبي  أو عن الله عز وجل، وأنه مجرد ضريبة مالية طالب بها بعض الأئمة لبعض الظروف والآن انتهى زمانها، هذه الشبهة في غير محلها، ولم يقم عليها دليل ولا برهان مقنع، ووظيفتنا أن نسير على ما يقوله أهل الخبرة في هذه الأمور، وهم الفقهاء «رضوان الله تعالى على السابقين منهم، وأدام الله ظلَّ الباقين منهم»، وغير الخبير يرجع للخبير، الشخص الذي لا يفهم في علم الطب لا يكتب بحوثًا في علم الطب، الشخص الذي لا يفهم في علم الهندسة لا يكتب بحوثًا في علم الهندسة، ويقول: توصّلتُ إلى كذا، والنتيجة عندي كذا! كذلك من ليس خبيرًا بأمور الفقه، والاستدلال في هذا العلم وآلياته وأدواته، يوكل هذا الأمر إلى من هو خبيرٌ به، ففي ذلك إنصافٌ لنفسه، وإنصافٌ للمجتمع، ألا يعرّضهم إلى متاهات من دون أن يكون خبيرًا في كيفية الولوج فيها، عصمنا الله وإياكم من الزلل.

*سماحة آية الله السيد منير الخباز