5 شبهات حول ’المرجعية الدينية’ و ’تقليد الفقهاء’!

المرجعية الدينية فوق الشبهات

تشكل المرجعية الدينية بما من الله عليها من أصالة قانونية، وقوة علمية، وحكمة عملية؛ موقعية خاصة في وجدان الشيعة، ولها تأثير قوي في نظم أمرهم، وقوة مذهبهم، وبقائه متألقاً في جميع جوانبه الفكرية والسلوكية إلى يوم الناس هذا.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ومن الطبيعي أن تشكل المرجعية ـ وهي تتموضع في موقعها المؤثر جدّاً والفعال ـ عقبة في وجوه أعداء المذهب، والدين الذي يبحثون عن مكاسبهم في ضعف عقيدة الشيعة، وتشرذمهم، وابتعادهم عن العلماء الذين يشكلون حصون المذهب، والدين، ويقفون بالمرصاد عند الثغور، وهذا ما جعل المشككين يعملون جاهدين لضرب الأساس القانوني للمرجعية، و إسقاط مكانة الحوزة وعلمائها في نفوس الشيعة، ليسهل عليهم الانقضاض على الغنيمة المرجوة بعد خروجها عن سور مدينة الإيمان، وقد أثاروا عدة شبهات ترتبط بالمرجعية ومسائل التقليد، والولاية، والقضاء، وقد تأثر بعض الذين لا دراية لهم، ولا خبرة ولا تخصص في مجال البحوث الدينية، وصار يكرر شبهاتهم، و يرددها مستعرضاً جملة من الروايات التي لا يعرف كيف يقيمها من ناحية سندها وصحة نسخها، ومن ناحية تحديد مدلولها بمعرفة سياقها التاريخي، و قرائن بيان المراد اللفظية واللبية، ونحن اليوم نشاهد جملة من المقالات المكررة في وسائل التواصل كالفيسبوك و تطبيق واتس آب، يحاول نشرها في أوساط الشيعة جماعة متأثرة بالشبهات و التشكيكات، و يراد بها زلزلة موقع المراجع العظام و مكانتهم في وجدان الأمة المؤمنة، وهنا سوف نستعرض بعض الشبهات مع المناقشة .

هل ينحصر دليل جواز التقليد بالدليل العقلي؟

 الشبهة الأولى: ذكر بعض المشككين أن دليل جواز التقليد ينحصر بالاستدلال العقلي وهو التمسك بسيرة العقلاء، مع أن مسألة التقليد مسألة شرعية لا عقلية.

  الجواب: نكتفي بذكر ملاحظتين:

  الملاحظة الأولى: هي أن الفقهاء استدلوا على جواز التقليد بعدة أدلة وقع الخلاف بينهم في تمامية بعضها، ولم يقل أحد ببطلان الجمع إلا ما نسب إلى بعض علماء المدرسة الحلبية، ولا يؤثر خلافهم ـ لو صحت النسبة إليهم ـ إذا المدار مدار الدليل، ولوضوح دليل جواز الإفتاء و التقليد قال الشيخ الأنصاري (رحمه الله) : ( جواز تقليد العامي في الجملة معلوم بالضرورة للعامي وغيره) مصارح الأنظار ص 257، فالدليل تام كما سنبين:

  الدليل الأول: الآيات القرآنية كآية النفر، والسؤال، وفي تمامية الاستدلال بالآيات كلام طويل، غير أن من يستدل بها لا يستدل بدليل عقلي.

  الدليل الثاني: الروايات، وهي روايات متواترة على طوائف، وقع الكلام في تمامية دلالة بعضها، كما اختلف في أنها دليل مستقل ـ أو إرشاد إلى دليل السيرة الذي سوف يأتي التعرض له، وهنا نكتفي بذكر بعض هذه الطوائف، ونكتفي بذكر بعض الروايات في كل طائفة.

  الطائفة الأولى: الروايات الناهية عن العمل بالقياس والرأي، منها ما روي عن أبي عبد الله(عليه السلام)أنه قال : إن السنة لا تقاس ألا ترى أن المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها، يا أبان إن السنة إذا قيست محق الدين.

  ومنها: رواية مسعدة بن صدقة عن أبي جعفر (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) أن علياً (عليه السلام) قال: من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس.

  ومنها: رواية شعيب بن أنس، عن بعض أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث - إن أبا عبد الله (عليه السلام) قال لأبي حنيفة: أنت فقيه العراق؟ قال : نعم، قال : فبم تفتيهم ؟ قال : بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله )، قال : يا أبا حنيفة ! تعرف كتاب الله حق معرفته ؟ وتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : نعم، قال : يا أبا حنيفة ! لقد ادعيت علما ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ولا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله )، وما ورثك الله من كتابه حرفاً - وذكر الاحتجاج عليه إلى أن قال : - يا أبا حنيفة ! إذا ورد عليك يء ليس في كتاب الله ولم تأت به الآثار والسنة كيف تصنع ؟ فقال : أصلحك الله أقيس وأعمل فيه برأيي، فقال : يا أبا حنيفة ! إن أول من قاس إبليس الملعون، قاس على ربنا تبارك وتعالى فقال : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) قال : فسكت أبو حنيفة فقال : يا أبا حنيفة ! أيما أرجس ؟ البول ؟ أو الجنابة ؟ فقال : البول : فقال : فما بال الناس يغتسلون من الجنابة ولا يغتسلون من البول ؟ فسكت فقال : يا أبا حنيفة أيما أفضل ؟ الصلاة ؟ أم الصوم ؟ قال : الصلاة، قال : فما بال الحائض تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ؟ فسكت .

 وهذه الرواية تدل على جواز التقليد ـ كما ذكر بعض أساتذتنا المحققين ـ من جهتين :

 الجهة الأولى: أن الإمام (عليه السلام) قال : (فبما تفتهم) ولم يقل: (لماذا تفتهم).

  الجهة الثانية: أنه لما أجابه أنه يفتهم بكتاب الله والسنة لم ينكر عليه ذلك، بل أنكر عليه فهمه للكتاب والسنة.

 والنهي عن خصوص الاستنباط المستند إلى الرأي والفهم الخاطئ يدل على إقرار المستند إلى الكتاب والسنة، إذا كان وفق الضوابط المقررة عند الشرع؛ إذ لو كان النهي في الشرعية عن الاستنباط بما هو استنباط لما كان هنالك معنى للتخصيص، و إقرار المستند إلى الكتاب والسنة يدل على جواز العمل به عرفاً .

  الطائفة الثانية: الأخبار الواردة في الإفتاء، والتي تدل على مشروعية التقليد إلتزاماً. وهي الأخبار الناهية عن الإفتاء بغير علم.

  منها: صحيحة أبي عبيدة قال قال أبي جعفر (عليه السلام) من افتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه.

  فإنها وإن كانت بمدلولها المطابقي محرمة للإفتاء بغير علم ولا هدى من الله إلا أنها بمدلولها الالتزامي تجوز الفتيا عن علم وهدى، إذ لو كان الإفتاء محرم مطلقاً لحرم على نحو الإطلاق.

   ومنها: رواية عبيدة السلماني قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول: يا أيها الناس اتقوا الله ولا تفتوا الناس بما لا تعلمون فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال قولا آل منه إلى غيره وقد قال قولا من وضعه غير موضعه كذب عليه، فقام عبيدة وعلقمة والأسود وأناس منهم فقالوا : يا أمير المؤمنين فما نصنع بما قد خبرنا به في المصحف ؟ قال : يسئل عن ذلك علماء آل محمد (عليهم السلام).

  وهي تدل على جواز الإفتاء بعلم وفي بعضها دلالة على الجواز بعد معرفة الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وغير ذلك من مقدمات تحصيل العلم.

  الطائفة الثالثة: وهي الأخبار التي تدل على مشروعية التقليد بالمطابقة.

  منها: ما في رجال النجاشي في ترجمة أبان بن تغلب: (وقال له أبو جعفر عليه السلام: اجلس في مسجد المدينة، وأفت الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك) .

  وهي تدل على عدم خصوصية أبان بل المدار على مؤهلاته ( مثلك ).

  ومنها: ما رواه معاذ بن مسلم النحوي عن أبي عبد الله عليه السلام، قال : ( بلغني أنك تقعد في الجامع، فتفتي الناس ؟ قلت : نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، إني أقعد في المسجد، فيجئ الرجل فيسألني عن الشئ، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، و يجي الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم، فأخبره بما جاء عنكم، ويجيئني الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول : جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك. فقال عليه السلام لي : اصنع كذا، فإني كذا أصنع ) .

قال السيد الخوئي (رحمه الله) على ما في التنقيح: ج 1 ص 93 : (الأخبار المشتملة على الأمر الصريح بإفتاء بعض أصحابهم (عليهم السلام) كقوله لأبان بن تغلب : اجلس في ( مسجد ) المجلس المدينة وافت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك وقوله لمعاذ بن مسلم النحوي : بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس قلت : نعم وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج : إني أقعد في المسجد فيجيئ الرجل فيسألني عن الشيءفإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجئ الرجل أعرفه بمودتكم وحبكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيئ الرجال لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا فأدخل قولكم فيما بين ذلك فقال لي : اصنع كذا فإني كذا أصنع . وهذه الطائفة لا إشكال في دلالتها على جواز الافتاء في الأحكام، كما أنها تدلنا على جواز التقليد والرجوع إلى مثل أبان أو معاذ، إذ لو لم يجز تقليده بأن لم يكن فتوائه حجة على السائل لم يكن فائدة في أمرهم (عليهم السلام) بافتائه لأنه حينئذ لغو ومما لا أثر له ) .

  الطائفة الرابعة: الأخبار التي تضمنت الإرجاء إلى أشخاص معينين.

  منها: رواية المفضل بن شاذان، عن عبد العزيز بن المهتدي - وكان خير قمي رأيته، وكان وكيل الرضا ( عليه السلام ) وخاصته - قال : سألت الرضا ( عليه السلام ) فقلت : إني لا ألقاك في كل وقت، فعمن آخذ معالم ديني ؟ فقال : خذ عن يونس بن عبد الرحمن .

وهي تدل على ان السائل عالم بالحكم وهو الرجوع الى الخبراء، وإنما يريد تحديد مصداق الخبير المقبول عند الامام (عليه السلام) .

  وثانيتها: رواية محمد بن عيسى، عن عبد العزيز بن المهتدي قال : قلت للرضا ( عليه السلام ) : إن شقتي بعيدة فلست أصل إليك في كل وقت، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين ؟ قال : نعم .

ودلالتها على وضوح الحكم في ذهن السائل كما تقدم .

  وثالثتها: رواية عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعا، عن الرضا ( عليه السلام ) قال : قلت : لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة، آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني ؟ فقال : نعم .

  وهي تدل على أن حجية قول الخبير الثقة من الأمور الواضحة عند الشيعة، والسائل يسأل عن مصداق لتلك الكبرى.

  ورابعها : رواية أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن ( عليه السلام ) قال : سألته وقلت : من أعامل ؟ ( وعمن ) آخذ ؟ وقول من أقبل ؟ فقال : العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون، قال : وسألت أبا محمد ( عليه السلام ) عن مثل ذلك فقال : العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثقتان المأمونان. الحديث

 وفي دلالتها على حجية فتوى الفقيه أو حجية خبر الثقة كلام.

 وخامسها: رواية سليم بن أبي حية، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السلام، فلما أردت أن أفارقه ودعته، وقلت : أحب أن تزودني، فقال : إئت أبان بن تغلب فإنه قد سمع مني حديثا كثيرا، فما روى لك فاروه عني .

  ولا يخفى أن دلالتها على حجية الفتوى واضحة لا تقبل التشكيك؛ إذ هي تدل على أن ملاك الإرجاع إليه كونه سمع عنهم ولا خصوصية له، ولهذا علل الإرجاع في جملة من الروايات بعنوان الثقة والمأمون، و عمم الحكم لكل مماثل (مثلك) .

  الطائفة الخامسة: الأخبار التي تضمنت الإرجاع إلى من ينطبق عليه وصف عام ،كالفقيه المخالف للهوى والحافظ للدين أو الراوي لأحاديث .

  منها: رواية التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام)  و رواه الطبرسي في الاحتجاج وفيه ( فللعوام أن يقلدوه ).

  ومنها: التوقيع الشريف، وقد روي في كمال الدين وتمام النعمة للصدوق (رحمه الله) عن محمد بن محمد عن عاصم عن محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب، وروي أيضاً في الغنية رواه الشيخ الطوسي( رحمه الله) بطريقه عن الكليني عن إسحاق بن يعقوب، ورواه الكشي أيضاً وفيها (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله).

   الدليل الثالث: سيرة المتشرعة من زمن الظهور وإلى يوم الناس هذا القائمة على الرجوع إلى الفقهاء، وهذا يكشف عن موقف الشارع وأنه مؤيد بحساب الاحتمال الرياضي.

  الدليل الرابع : السيرة العقلائية. قال بعض أساتذتنا المحققين في تقريب الاستدلال بها : (إنّ طريقة العقلاء كافة قد جرت على الرجوع في كل صنعة إلى أهلها وفي كل فنٍ إلى عارفيه، وفي كل تخصص إلى خبرائه، ومنشأ طريقتهم هذه أنّ الفرد من الناس لا يمكنه أن يحيط بعلم كل ما يحتاج إليه وأن يطلع بتفاصيل ما يلزمه في معاشه ومعاده، وكثير مما يلزمه يشتمل على دقائق تحتاج إلى تعمق وإلى تدبر واطلاع على ما وصل إليه المتدبرون في ذلك الفرد، والحكمة تقتضي توزيع المهام وتقسيم الجهد بحيث ينصرف إلى كل فن فئة من الناس، يطلعون على تفاصيله ويعرفون دقائقه فيرجع إليهم غيرهم في ذلك الفرد، من غير فرق بين الحرف كالنجارة والحدادة والعلوم كالطب والهندسة، ومما لا شك فيه أنّ أحكام الشريعة لو لم تكن أكثر دقة من تلك الحرف والفنون فهي ليست أقل منها دقة فلا يستطيع جميع المسلمين الإحاطة بها ومعرفتها عن أدلتها التفصيلية، فالحكمة التي تقتضي الرجوع إلى العالم فيها موجودة وهذا يبعث العقلاء على التقليد في الشرعيات والشارع عالم بذلك فلو لم يكن التقليد مرضي عنده لنبههم وبيّن لهم ذلك حتى لا يسلكوا في أخذ أحكامه طريقاً غير مرضي عنده، ولو نبه لوصل إلينا تنبيهه، فإنّ مما يوجد المقتضي لبلوغه لنا ولا يوجد المانع من ذلك).

 وفي الحقيقة لا يوجد طريق آخر لعامة الناس غير الرجوع إلى أهل الخبرة في علوم الدين، ولو كلف كل شخص أن يكون خبيراً في الروايات ورواتها ونسخ كتبها، وفي مقدمات الاستنباط من اللغة والأصول، ومعرفة تاريخ التشريع والمرتكزات العقلائية؛ لما قام للمسلمين سوق، ولتعطلت سائر الحرف والفنون، وإن من المعلوم بضرورة المذهب أن الله تعالى لم يلزم كل فرد أن يكون متخصصاً في معارف الدين، وهذا ما جعل العقلاء في كل فن يرجعون إلى أهله.

  الدليل الخامس: دليل العقل أو ما يسمى بدليل الانسداد. وهو بحسب تقرير السيد الخوئي (رحمه الله) يتكون من ثلاث مقدمات:

  الأولى: أن العامي يعلم بثبوت أحكام إلزامية في حقه، وهي واضحة لا تحتاج إلى استدلال، فكلنا يعلم بوجوب الصلاة والحج والصوم، وأن لهذه الواجبات كيفية وشروط و موانع .

  الثانية: أن العامي يعلم بوجوب الخروج عن عهدة هذه الأحكام.

  الثالثة: أنّ طريق الخروج عن هذه الأحكام لا يخلو عن أربعة :

 الطريق الأول : الاجتهاد. وهو غير مقدور لغالب المكلفين ولو كان مقدوراً، فيعلم العامي أنه ليس بواجب، ولعل عدم وجوبه من الضروريات.

  الطريق الثاني : الاحتياط. وهو ـ أيضاً ـ غير مقدور، وعلى تقدير القدرة عليه فليس بواجب للعلم بعدم ابتناء الشريعة على العسر والحرج .

  الطريق الثالث: أن يعمل العامي بظنه في أي مسألة. وهذا باطل لأن العامي لا يحتمل أن يكون مطلق الظن طريقاً للخروج عن عهدة التكاليف لوجهين:

الأول: أنّ الظن إنما ينشأ من النظر في أدلة الأحكام والعامي لا ينظر في أدلة الأحكام فلا يحصل عنده ظن.

 الثاني: أنه على تقدير حصول ظن عنده، فليس ظنه أقرب إلى إصابة الواقع من وهمه، لأنّ الظن الذي لا يستند إلى النظر في الأدلة ليس بأقرب من الوهم ، فكيف يجعله الشارع حجة في حقه دون الوهم؟!

  الطريق الرابع: التقليد. وهذا الطريق يتعين بعد إثبات بطلان الطرق الثلاثة السابقة. وبعد تمام هذا الدليل يستكشف العقل أنّ الشارع قد نصب طريقاً للخروج عن عهدة التكاليف، وليس هذا الطريق إلا التقليد.

  الملاحظة الثانية: هي الخلط بين دليل العقل والسيرة العقلانية،  فقد اعتبر المشكل السيرة العقلائية دليلاً عقليّاً، و لعل السبب وجود مادة (ع ق ل) في الدليلين.

مع أن الاستدلال بالسيرة ليست استدلالاً بدليل العقل، وإنما هو استدلال بسكوت المعصوم (عليه السلام) وعدم ردعه على أنه يمضي السيرة ويقرها، وهذا استدلال بسكوت المعصوم (عليه السلام) على حكم الشارع فأين هو من دليل العقل؟!

  فهذه أدلة التقليد وكلها مهمة وذات قيمة علمية لا ينبغي تجاهلها في عملية الاستدلال. نعم، يختلف العلماء في تمامية دليل هنا أو دليل هناك وهذا الاختلاف بسبب انفتاح باب الاجتهاد وحيوية الفقه الشيعي لا يقلل من أهمية الدليل عند من يعتمد عليه.

هل يوجد دليل على بطلان العمل بلا تقليد؟

  الشبهة الثانية: هي أن القول ببطلان العمل بلا تقليد لم ترد فيه آية أو رواية، وإنما هو من ابتداع رجال الدين المتأخرين.

   الجواب: يرد على هذه الشبهة عدة ملاحظات:

  الأولى: أنه أتضح من الأدلة السابقة أن التقليد له تاريخ ممتد إلى زمن ظهور المعصومين (عليهم السلام) وهذا ما تقتضيه طبيعة الأمور فإنه ليس بإمكان كل شخص أن يتخصص في العلوم الدينية، كما ليس بإمكان كل شخص أن يتصل بالمعصوم (عليه السلام) لأخذ الحكم منه، فلا بد من وجود فقهاء يتعلمون القواعد الكلية وكيفية استنباط الأحكام لكي يبينون للناس معالم دينهم، إذ في مقابل ذلك ليس إلا بقاء أغلب المكلفين غير القادرين على الاجتهاد والاحتياط بلا طريق يحدد وظيفتهم الشرعية، والشارع ارفع شاناً من أن يهمل الأمة بهذا النحو، و ما وقع فعلاً بدلالة جملة من الروايات ـ تقدم بعضها ـ هو الإرجاع إلى أهل التخصص

  الثانية : التقليد ليس واجباً بعينه بل هو أحد خيارات ثلاثة، وبإمكان المكلف أن يتركه ويسلك الاجتهاد والتقليد، فإن على المكلف بمقتضى علمه بوجود تكاليف إلزامية أن يفرغ ذمته، فإن تمكن بالعلم الوجداني كما في الاحتياط أو الاجتهاد المنتهي إلى نتيجة قطعية، فإن له العمل بقطعه، وله ترك ذلك وسلك طريق الحجة المعتبرة وهي فتوى الفقيه، لأدلة جواز العمل عن تقليد.

  الثالثة : ليس الحكم ببطلان العمل بلا تقليد حكماً شرعيّاً لكي نبحث عنه في الكتاب والسنة ـ كما توهم المشكل ـ وإنما هو حكم عقلي والمراد به هو أن الإنسان إذا علم باشتغال ذمته بواجب يعاقب على تركه لا يقره عقله على الإتيان بأي فعل في مقام الامتثال، بل يقول له : لا بد أن تأتي بما تقطع أنه مفرغ للذمة ومخلص من العقاب، ولا طريق إلى ذلك بالنسبة إلى غير المجتهد وغير المتمكن من الاحتياط إلا التقليد، لأن دليل حجية التقليد القطعي يفيد الأمن من العقاب على تقدير العمل بالتقليد ومخالفة الواقع، إذ للعبد أن يحتج يوم القيامة بأن الله تعالى جوز العمل بالتقيد، وهو قد عمل وفق رأي فقيه جامع للشرائط .

  الرابعة: عدم وجود ما يدل على تعريف التقليد بالمباشرة، وعدم اهتمام القدماء بتبيين حقيقته، لا يكشف عن حدوث أصل التقليد كما يحاول أن يصور المشكل، وهذا من الغرائب جدّاً.

  فإن سيرة المسلمين سنة وشيعة على الرجوع إلى الفقهاء، ولم يعرف للشيعة طريقة خاصة تميزهم في ذلك كالاعتماد على الاجتهاد فقط أو الاحتياط فقط أو أن الكتاب والسنة شرعة لكل وارد، ومن حق كل إنسان بقطع النظر عن مستواه الثقافي أن يرجع إليهما ويحكم  فهمه، ولو كانت لهم طريقة خاصة لنقلت؛ إذ الدواعي تقتضي النقل في كتب الخاصة والعامة، كما هو الحال في جميع السير العملية التي تمتاز بها فرق خاصة عن سائر الفرق الإسلامية.

 نعم، عدم تعرض المتقدمين ـ إن تم ـ يدل على توسع الفقه في تفاصيل المسألة وتدوينها لا أن نفس المسألة حادثة، وتوسع الفقه وتطوره غير منكور، بل هو من خواص فقه الشيعة لتفردهم بفتح باب الاجتهاد ومواكبة متطلبات الحياة المتجددة.

  حكم التقليد عند القدماء

وقد نص الفقهاء على جواز الإفتاء و التقليد وتعرضوا لشروط المفتي وبينوا وظيفة العامي من قديم الأيام:

1ـ قال السيد المرتضى (رحمه الله) في بيان عدم جواز العمل بما في الكتب من الروايات من دون تحصيل العلم وجواز العمل بقول الفقيه والمفتي : (أعلم أنه لا يجوز لعالم ولا عامي الرجوع في حكم من أحكام الشريعة إلى كتاب مصنف، لأن العمل لا بد من أن يكون تابعا للعلم على بعض الوجوه، والنظر في الكتاب لا يفيد علما، فالعامل بما وجده فيه لا يأمن من أن يكون مقدما على قبيح. ولا يلزم على هذه الجملة جواز العمل بالفتيا وتقليد المفتي، لأن هذا العمل مستند إلى العلم، وهو قيام الحجة على المستفتي، بأن له أن يعمل بقول المفتي، فيأمن لهذا الوجه من أن يكون فاعلا لقبيح. وليس كل هذا موجودا في تناول الأحكام من الكتب ) الرسائل ج 2 ص 332.

 2ـ قال الشيخ في المبسوط ج 8 ص: 168(إن الحاكم فيما يخبر به غيره بمنزلة المفتي والمستفتي إذا أفتى عالم عاميا بشيء كان فرضه ما أفتاه يعمل به ويعتمد عليه، كذلك هاهنا ).

3ـ قال العلامة الحلي (رحمه الله) في المسائل المهنائية ص101 : (مسألة 165 ) ما يقول سيدنا في كتب الأصحاب، هل يجوز تقليدها أم لا، وهل يفترق بين من مات منهم أو هو حي أم لا، وإذا كان الإنسان يعرف خط مصنف الكتاب ورأى خطه على ذلك الكتاب بقراءته وسماعه له هل يصح تقليد ذلك الكتاب والحال هذه أم لا، وأي كتب الأصحاب ينبغي ان نرجع إليه. أفتنا في ذلك مفصلا مبينا.الجواب : لا يجوز تقليد الكتب. نعم يجوز الرجوع في الاستفتاء إلى خط المفتي إذا علمه، فإن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يفتون بالمكاتبة، ولو لا تسويغ الرجوع إليها لم يكن لها فائدة. مسألة ( 166 ) ما يقول سيدنا في الإنسان، هل يجب عليه السعي إلى المفتي إذا احتاج إلى ذلك أم يكفيه خطه ومكاتبته، فإذا كانت المكاتبة كافية للقادر على السعي أو لمن لا يقدر على السعي وهو لا يعرف خط المفتي كيف يكون الحال، وإذا كان يعرف خط المفتي هل يجزيه خطه من غير سعي إليه وإن كان قادرا على السعي. بين لنا ذلك بفضل اللَّه .الجواب: نعم يكفيه المكاتبة إذا عرف خطه وأنه أفتاه غير ساه ولا غافل، وإذا لم يعلم أحدهما وجب عليه السعي إليه أو الاستناد إلى من يخبر عنه من الثقات).

   وقال في التذكرة ج 9 : (سألة 13 : العلم إما فرض عين أو فرض كفاية أو مستحب أو حرام. فالأول..... الثاني : العلم بالفقه وفروع الأحكام، وعلم أصول الفقه وكيفية الاستدلال والبراهين .... إلى أن يصلح للإفتاء والقضاء .ولا يكفي المفتي الواحد في البلد، لعسر مراجعته على جميع الناس). وقال فيه أيضاً : (مسألة 268 : يجوز لفقهاء الشيعة، العارفين بمدارك الأحكام، الجامعين لشرائط الحكم الإفتاء بين الناس. ويجب عليهم ذلك حال غيبة الإمام ( عليه السلام ) .

   وقال في الايضاح ج1 ص 339 : (وللفقهاء الحكم بين الناس مع الأمن من الظالمين وقسمة الزكوات والأخماس والإفتاء بشرط استجماعهم لصفات المفتي وهي الإيمان، والعدالة، ومعرفة الأحكام بالدليل، والقدرة على استنباط المتجددات من الفروع من أصولها ).

  4ـ قال المحقق في الشرائع في بحث صفات القاضي : (ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت (عليهم السلام)، الجامع للصفات المشروطة في الفتوى، لقول أبي عبد الله (عليه السلام) : " فاجعلوه قاضيا، فإني جعلته قاضيا فتحاكموا إليه")وكلامه هذا صريح بجواز الإفتاء وفق شروط خاصة، والحكم بجوازه يدل عرفاً على جواز عمل المستفتي لأن الارتكاز المتشرعي كان قائما على جواز الاستفتاء والافتاء للعلم في زمانه (رحمه الله).وهذه الفتاوى مستفادة من الأدلة السابقة وفي مقدمتها إرجاع الأئمة للفقهاء فصحيحة شعيب العقرقوفي، قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل قال: عليك بالأسدي. وفي صحيحة عبد الله ابن يعفور، قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) انه ليس كل ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني، فقال ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنه سمع من أبي ،وكان عنده وجيهاً.

هل نص الشيخ المفيد (رحمه الله) على أن التقليد حادث؟

الشبهة الثالثة️: ذكر بعض الكتّاب أن التقليد حادث ولا أصل له عند المتقدمين، واستدل بكلام الشيخ المفيد (رحمه الله) عن التقليد في كتابه (تصحيح اعتقادات الإمامية)، فقد ذكر أنه (رحمه الله) نهى عن التقليد الذي نعرفه اليوم مستعينا بالروايات الناهية عن الإتباع والتقليد. ونقل منها عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "إياكم والتقليد، فإنه من قلد في دينه هلك إن الله تعالى يقول : (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ)، فلا والله ما صلوا لهم ولا صاموا، ولكنهم أحلوا لهم حراماً، وحرموا عليهم حلالاً، فقلدوهم في ذلك، فعبدوهم وهم لا يشعرون". ونقل غيرها من الروايات ثم علق الشيخ المفيد قائلاً: (ولو كان التقليد صحيحاً والنظر باطلاً لم يكن التقليد لطائفه أولى من التقليد لأخرى، وكان كل ضال بالتقليد معذورا، وكل مقلد لمبدع غير موزور، وهذا ما لا يقوله أحد).

الجواب: يرد على هذه الشبهة عدة ملاحظات منها:

  الملاحظة الأولى: هي أن ما له موضوعية في مسألة الرجوع إلى الفقهاء، نفس العمل بفتواهم كخبراء، سواء سمي ذلك في اللغة تقليداً أم لا، ولهذا اختلفت تعبيرات الروايات في بيان رجوع العامي للفقيه، فتارة عبرت بالتقليد وهو الدارج اليوم على ألسنة الفقهاء وغيرهم، وأخرى عبرت بغير ذلك ومن التعبيرات:

  1ـ الأخذ. ففي صحيحة عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُهْتَدِي وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ جَمِيعاً عَنِ الرِّضَا ع قَالَ قُلْتُ لَا أَكَادُ أَصِلُ إِلَيْكَ أَسْأَلُكَ عَنْ كُلِّ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَعَالِمِ دِينِي أَفَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثِقَةٌ آخُذُ عَنْهُ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَعَالِمِ دِينِي فَقَالَ نَعَمْ.

  2ـ الرجوع، كالتوقيع الشريف : (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) .

  3ـ المفزع والمستراح، كصحيحة يونس بن يعقوب قال : كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام ) فقال : أما لكم من مفزع ؟ ! أما لكم من مستراح تستريحون إليه ؟ ! ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النصري ؟ .

  الملاحظة الثانية: جميع العناوين التي تقدمت تشترك في إفادتها إتباع العامي للفقيه، والاتباع مفهوم عام قد يكون حسناً وقد يكون قبيحاً، والقبيح شرعاً هو التقليد المنهي عنه أو الذي لا دليل على مشروعيته، لا ما دلت الأدلة السابقة على جوازه.

والتقليد المنهي عنه تقليد أهل الأهواء والبدع والظنون ففي رواية المحاسن عن أبي جعفر (عليهما السلام)، قال خطب علي أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس، فقال : أيها الناس إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع ،وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يقلد فيها رجال رجالاً.

  الملاحظة الثالثة: خلط الكاتب بين التقليد في أصول الدين و الاعتقادات وهو الملحوظ في كلام الشيخ المفيد (رحمه الله) وبين التقليد في الفروع الذي تقدمت الأدلة على جوازه، والفقهاء من قديم الأيام يؤكدون على أن الأصل عدم جواز العمل بالظن، وأن التقليد لا يغني عن الحق في نفسه ولا يكتفي به العقل إلا إذا دل دليل على اعتباره، والدليل القائم على اعتباره بالنسبة إلى العامي خاص بالتقليد في الفروع، فيبقى التقليد الظني ليس حجة فـي الأصول.

  والذي يرشدك إلى صحة ما ذكرناه أن جميع الفقهاء الذين قالوا بجواز التقليد في الفروع ثم كتبوا رسائل في العقيدة وتعرضوا فيها لمسألة التقليد في العقائد قالوا بضرس قاطع لا يجوز التقليد فيها، فهنا مسألتنا لا ينبغي الخلط بينهما :

  الأولى: مسالة التقليد في العقائد، و في العقائد ينبغي إتباع ما يفيد العلم، وقد أطلقت جملة من الروايات على من يتبع المعصوم عنوان المقلد وذمت اتباع غير أهل البيت (عليهم السلام) الذين يجعلون أنفسهم في عرض أهل البيت واعتبرتهم مقلدة وذمت تقليدهم .

  وأين هؤلاء الذين اتخذوا سبيلاً غير سبيل أهل البيت (عليهم السلام) من فقهائنا (أعزهم الله) الذين يعتمدون في استدلالهم على ما روي عن الأئمة (عليهم السلام) وجعلون أنفسهم تبعاً لهم في ما يقولون؟!

  الثانية: التقليد في فروع الدين، وهو الذي يقول الفقهاء بجوازه.

  وبهذا يتضح ضعف قول بعضهم: (إن الرواية تقول (من قلد في دينه هلك) ومن المعلوم أن الدين جامع للأصول والفروع) .

  ووجه الضعف من عدة جهات:

  منها : إهمال السياق التاريخي القائم على إفتاء الفقهاء من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) الأخبر برواياتهم وعمل الناس بفتاوهم والأخذ عنهم، ففي الوسائل ج 11 ص 169 عن أحمد بن محمد، عن عدة من أصحابنا قالوا: قلنا لأبي الحسن - يعني: علي بن محمد (عليهما السلام) -: إن رجلًا مات في الطريق وأوصى بحجة وما بقي فهو لك، فاختلف أصحابنا فقال بعضهم: يحج عنه من الوقت فهو أوفر للشيء أن يبقى عليه، وقال بعضهم: يحج عنه من حيث مات، فقال (عليه السلام): يحج عنه من حيث مات.

   وإنما ذكر أصحابنا آراءهم للعمل، ولم يعترض الإمام (عليه السلام) على إصدارهم الحكم، بل أصر ذلك وصوب موقف جماعة منهم، وفي رواية عبد الملك بن أعين نقل فتوى زرارة و أنه أمرهم أن يهلوا بالحج الوسائل ج8 ص 176، وفي جملة من الروايات الإرجاع إلى آحاد الفقهاء، وأمر بعضهم على الجلوس للفتوى، وكل ذلك يدل على أن التقليد في الفروع جائز وليس منهيّاً عنه ما دام في طول بيانات المعصومين(عليهم السلام)، وقد كتبت بعض الكتب الفتوائية في زمن السفراء (رحمهم الله) و بإشراف منهم ككتاب التكليف الذي كتبه الشلمغاني، ولما انحرف نقل الشيخ (رحمه الله) في الغيبة ص 389 عدم نهي الحسين بن رح عنه ونقل قول الإمام العسكري (عليه السلام) : ( خذوا بنا رووا و ذروا ما رأوا)، أي إن فساد عقيدته لا يلزم منه ترك العمل بما في كتابه ولم يكن كتاب رواية بل فتاوى .نعم، من المحتمل قوياً أنه نقل متون الروايات كما هو الحال في كتب المتقدمين بداية التأليف الفقهي.

   ومنها : أن هذا كلام مطلق، ففيه نهي عن (التقليد) بشكل مطلق سواء كان لفقيه إمامي أم لغيره، وفي الأصول أم الفروع، يستند إلى طريقة صحيحة فلا الاستنباط أم لا، وهو قابل للتقييد كأي أطلاق، والأدلة السابقة تقيد هذا الإطلاق بالتقليد في الفرع حيث تثبت فيه الجواز، ولو كان لسانه غير قابل للتقييد أمكن رفع اليد عنه لمخالفته الأدلة السابقة القطعية الدالة على جواز التقليد .

   وبهذا نقف على جواب مثل ما رواه الحر العاملي (رحمه الله) : (عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال، ومن أخذ دينه من الكتاب والسنة زالت الجبال ولم يزل ).

  فإن المقصود به ليس عدم جواز الاعتماد على الفقيه المأمون المعتمد على الكتاب والسنة، كيف ؟! والروايات كثيرة على جواز تقليده وجعل الأئمة(عليهم السلام) من يفتي وهي تفيد القطع كما تقدم. وإنما المراد الاعتماد على الذين كانوا في زمن ظهور الأئمة (عليهم السلام) يعتمدون على العقل الوهمي الظني، والأقيسة والرأي، والاستحسان في عرض الكتاب والسنة، ويتخذون سبيلاً غير سبيل الأئمة (عليهم السلام)، وأما الذي يعتمد على الكتاب والسنة فإن هذه الرواية ليست فقط لا تنهى عن تقليده، بل تدل على مشروعية تقليده، لأنها وصفته بالثابت الذي تزول الجبال ولا يزال؛ لأنه مِن ( مَن أخذ دينه من الكتاب والسنة زالت الجبال ولم يزل )، ومثل هذا حقيق بأن يعتمد عليه في أخذ معارف الدين عنه ، لأن الركون إليه ركون إلى من هو أثبت على الحق من الجبل .

  لقد ورد النهي عن إتباع غير المعصومين (عليهم السلام)، غير أن الرجوع إلى الفقيه بعد إرجاع المعصومين إليه من إتباع المعصومين، وهو تقليد ممدوح، وبهذا قد تكون بعض روايات النهي عن التقليد ناظرة إلى الرجوع إلى فقهاء لا يعتمدون منهج أهل البيت (عليهم السلام).

  إن مشكلة بعض الباحثين تكمن في العجلة، و الغفلة عن كثير من مقدمات الاستدلال و أصوله، وفصل روايات أهل البيت (عليهم السلام) عن السياق التاريخي، وتجريدها عن ملاحظة سائر الروايات الصادرة عنهم والتي تشكل بضمها رؤية وافية للموضوع، وبعبارة أخرى : بعض مشاكلنا سببها الفوضى الثقافية، والثقة المفرطة، وتكلم غير المتخصص في المسائل التخصصية، ومن ضعف مستواه العلمي يكفيه الاشتراك اللفظي بين معنيين مختلفين يطلق عليها لفظ (التقليد) لكي يسري الحكم من أحدهما إلى الآخر.

هل التقليد مرتبط بالرسالة العملية؟

الشبهة الرابعة: إن مسألة التقليد من بدعة القرن العشرين، لأن أول مرجع تقليد كتب ما يسم بـ (الرسالة العملية) هو السيد محمد كاظم اليزدي (1274 – 1337هـ).

  الجواب: يظهر من هذا الكلام أمران:

   الأمر الأول: أن المشكل لا يعرف معنى التقليد، فليس للتقليد معنى غير الرجوع إلى الخبير لأخذ الحكم الكلي للعمل به، وقد و قع كلام بينهم في تحديد هذا الرجوع ، ولكن لم يقل أحد أن من حقيقته وجود كتاب يطلق عليه (رسالة عملية)، إذ ليس الكتاب إلا وسيلة تسهل كيفية تناول العامي للحكم الشرعي ، ووجود هذه الوسيلة لا يعني حدوث تغير في مفهوم التقليد، وإني أخشى أن يأتي مشكل آخر فيقتدي بصاحب الشبهة فيقول : التقليد في زماننا هذا حادث (بدعة) لأنه لم يكن الفقيه في زمن الشيخ الطوسي (رحمه الله) يستعين بالانترنت في إجابة الاستفسارات أو يستعمل الهواتف الذكية في إيصال الرسالة العملية!

  الأمر الثاني: جهل صاحب الشبهة بتاريخ كتابة الرسائل العملية فهو يعتقد (بأن أول مرجع تقليد كتبها السيد اليزدي)، وقد غاب عنه أن تاريخ المرجعية الممتد كان لا ينفك في كل زمان عن وجود كتاب يشتمل على الفتوى دون الوجوه الاستدلالية من أجل العمل، ومن تلك الكتب:

  1ـ كتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلي (676ﻫ ).

  2ـ إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان للعلامة الحلي (726 ت) قال عنه المحقق الطهراني في الذريعة: (يعد أحد الآثار الفقهية في مجال الفتوى) ،ومثل كتابه هذا كتاب تبصرة المتعلمين.

  3ـ كتاب نجاة العباد لشيخ مشايخ السيد اليزدي أعني صاحب الجواهر الذي توفي في سنة (1266 هـ) أي قبل ولادة السيد اليزدي بثمان سنوات، وله كتاب آخر كتبه كرسالة عملية وهو هداية الناسك .

هل ورد نهي عن الاجتهاد؟

الشبهة الخامسة: هي أن التقليد رجوع إلى المجتهد، وقد نهت الروايات عن الاجتهاد و الرأي ، فلا قيمة لفتوى المجتهد المستندة إلى اجتهاده و رأيه، ومن الروايات ما رواه مسعدة بن صدقة، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): (من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادَّ الله حيث أحلَّ وحرَّم فيما لا يعلم)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (أعداء الدِّين مقلِّدة الفقهاء أهل الاجتهاد ولم يرونه يحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمَّتُهم...)، وعنه (عليه السلام) : (وأما الرد على من قال بالاجتهاد، فإنهم يزعمون أن كل مجتهد مصيب على أنهم لا يقولون إنهم مع اجتهادهم أصابوا معنى حقيقة الحق عند الله عز وجل، لأنهم في حال اجتهادهم ينتقلون عن اجتهاد إلى اجتهاد، واحتجاجهم أن الحكم به قاطع قول باطل، منقطع، منتقض، فأي دليل أدل من هذا على ضعف اعتقاد من قال بالاجتهاد والرأي)، وفي كتاب (إلزام الناصب) عن الإمام علي (عليه السلام): (إذا خرج القائم ينتقم من أهل الفتوى بما لا يعلمون، فتعساً لهم ولأتباعهم). وفي طبعة أخرى (لما لا يعلمون).

  والجواب : توجد عدة ملاحظات :

   1ـ هي أن المشكل قد اختلط عليه الأمر والتبس بسبب التشابه اللفظي بين الاجتهاد و الرأي المقصودين في الروايات، وبين الاجتهاد والرأي المقصود في عبارات الفقهاء، فهو لم يقف على السياق التاريخي لمفردة (الاجتهاد) و (الرأي)، و منظور روايات النهي، وهو ما كان عليه بعض العامة من ترك حديث الثقلين، و العمل بالظن والقياس و الاستحسان، وجعل ظن الفقيه هو العمدة في الحكم الشرعي، وهذا ما تشهد له الروايات المتقدمة ، ففي رواية (وأما الرد على من قال بالاجتهاد، فإنهم يزعمون أن كل مجتهد مصيب)، وهذا الاجتهاد مرفوض عند علمائنا؛ لأنهم يرون الواقع ما بينه المعصوم، و وظيفة الفقيه أن يعتمد القواعد العلمية لمعرفته، وهو قد يصيبه وقد لا يصيبه.

وما قام به المشكل نظير أن يعتمد شخص على روايات النهي عن القياس للإثبات بطلان أدلة وجود الله تعالى، لأنها تسمى في اصطلاح أهل المنطق بالقياس ! مع أن القياس في الروايات له معنى آخر يعرف بدراسة تاريخ التشريع والفرق والمذاهب الموجودة في زمن صدور النص.

   ولو كان كل ما يطلق عليه لفظ الاجتهاد قبيح محرم، فما يصنع المشكل مع الروايات الآمرة بالاجتهاد؟!

 ومنها : رواية سماعة، قال: سألته ـ أي الإمام الصادق (عليه السلام) - عن الصلاة باللَّيل والنهار إذا لم يرَ الشمس، ولا القمر، ولا النجوم، قال: «اجتهد رأيكَ، وتعمَّد القبلةَ جُهدَكَ).

 ومنها: رواية سليمان بن خالد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يكون في قفرٍ من الأرض في يوم غيمٍ، فيُصلِّي لغير القبلة، ثمَّ يصحى فيعلم أنَّه صلَّى لغير القبلة، كيف يصنع؟ قال: (إنْ كان في وقتٍ فليُعِد صلاته، وإنْ كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده).

   2ـ بعض هذه الروايات ضعيفة من الناحية السندية، منها (أعداء الدِّين مقلِّدة الفقهاء أهل الاجتهاد ولم يرونه يحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمَّتُهم...)،وهي أجنبية عن تقليد الفقهاء التابعين لأهل البيت (عليهم السلام)، لأن المتبع فيها من يعلم التابعون أنه (يحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمَّتُهم)، فهي ناظرة إلى ما ذكرنه من الاجتهاد في قبال أقول أهل البيت(عليهم السلام).

   3ـ بعض هذه الروايات لا تذم الاجتهاد و الرأي من رأس، وإنما تبين عقاب من لا يعمل بما ينتهي إليه من حكم شرعي كما في (إذا خرج القائم ينتقم من أهل الفتوى بما لا يعلمون، فتعساً لهم ولأتباعهم).

  و لست من الذين يرجعون جميع محاولات إبداء الرأي أو طرح بعض مفاهيم إلى مؤامرة تريد العصف بالمذهب الحق وحرف الناس عن تعاليم أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن في نفس الوقت لا ينبغي أن نتجاهل وجود مخططات من هذا القبيل قد يساهم في انجاحها بلا قصد بعض المثقفين البسطاء فيما إذا تأثروا بالأطروحات الهزيلة وقدموها على أنها رأي حق يشكل تطويراً في الفكر وأسس التعقل، و إن المأمول من المؤمن المثقف الواعي أن تكون ثقافته عالية جدّاً وواعية وعميقة و أكبر من أن يقع فريسة العبارات المنمقة التي تفتقر في معناها ومحتواها إلى الضوابط العقلائية عند التبني والكتابة والحوار، وإلا سيكون ضحية السطحية والطرح المترهل، وسوف يقدم خدمة للمشككين الضالين وهو لا يعي .

 إن مشكلة بعض المروجين لهذه الشبهات أنهم لم يكلفوا نفسهم دراسة العلوم الدينية ومقدماتها، ولم يملكوا القدرة الكافية على تحديد المفهوم، والفرز الدقيق بين المدعيات، و إقامة الأدلة وترتيبها بطريقة علمية صحيحة، كما إنهم لم يحيطوا خبرة بالموروث الروائي ومصادره، وكلمات الأعلام، ومع ذلك يكلفون أنفسهم فوق طاقتهم، فيخوضون خوض الأعمى في حقل ألغام، والطريف أن بعضهم يرفع عقيرته متحديّاً يطلب من أكبر الأسماء المناظرة، لكي يخدع البسطاء، فيوهمهم أن كلامه حق، ولهذا كره الكماة نزاله لا ممعناً هرباً ولا مستسلماً، مع أن عذر العلماء أنه قابع في قعر الجهل حتى صار قاصراً بسبب ما ران على بصيرته عن مشاهدة الأضواء، ولو أن اسكافياً اعترض على علماء الفلك، و أخذ يصرخ قائلاً : لقد كذبتم، فلا وجود للشمس والقمر، و لا الكواكب والمجرات، وإني أدعوكم للمناظرة والنقاش، فإنه لن يلتفت إليه أحد منهم، وكان عذرهم واضح عند ذوي النهى.