إشكالية ناقشها العلماء: أخبار الآحاد وظنية الأحكام الشرعية

إنّ جملة من الأحكام الشرعية الفرعية ظنية الطريق، بمعنى أنها لم تصل إلينا من طريق التواتر أو الآحاد المحفوفة بالقرائن المفيدة للقطع بالصدور، وإنما وصلتنا من طريق أخبار الآحاد المجردة، وخبر الواحد يفيد الظن، والظن لا يغني من الحقّ شيئاً.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

فكيف نعتمد على خبر الواحد الثقة في الشريعة، والحال أنه يفيد الظن بالحكم الشرعي؟ هذه الإشكالية ناقشها العلماء في كتب أصول الفقه، وذكروا لها عدة أجوبة، وسنقتصر على ما يناسب المقام فنقول في الجواب: إنّ القاعدة الأولية والأصل الأولي هو عدم حجية الظن، وحرمة العمل به، إلا إذا قام دليل خاص على حجية بعض أفراده، فتخرج عن تلك القاعدة الأولية بالتخصيص، فيجوز العمل به. سؤال: هل هناك دليل على حجية خبر الواحد الثقة في الشريعة؟ الجواب: ذكر العلماء عدة أدلة على حجية خبر الواحد، وسنذكر ما استقرّ عليه رأيهم أخيراً فنقول:

 الدليل الأول: بناء العقلاء: سيرة العقلاء قائمة على العمل بخبر مَن يثقون بقوله ويطمئنون إليه، ويأمنون كذبه، في جميع أمورهم، والشارع المقدس لم يردع عن هذه السيرة، حيث كانت هذه السيرة بمرأى ومسمع من الشارع، والمسلمون بما هم عقلاء قامت سيرتهم من القديم وإلى اليوم، على العمل بخبر الثقة في الأحكم الشرعية وغيرها.  وحيث أنّ الشارع لم يردع عن هذه السيرة، فيسكتشف بالقطع واليقين أنه راضٍ عن هذه السيرة، فيكون خبر الواحد حجة يجوز العمل به، وخارج عن الدليل الناهي عن العمل بالظن تخصيصاً.  ولو ردعَ الشارع المقدس عن هذه السيرة لوصلَ إلينا نهيه، كما وصلَ منعه عن العمل بالقياس، مع أنّ العامل بالقياس أقل بكثير من العامل بخبر الواحد الثقة، وقد بلغت الروايات المانعة عن العمل بالقياس إلى خمسمائة رواية تقريباً، ولم يصلنا في المنع عن العمل بخبر الثقة رواية واحدة! فيستكشف من ذلك كشفاً قطعياً أنّ الشارع قد أمضى سيرة العقلاء في العمل بخبر الثقة . وهذا الدليل هو عمدة ما تمسك به المتأخرون في إثبات حجية خبر الواحد.

آيات تنهى عن العمل بالظن

 قد يقال: إنّ الآيات الناهية عن العمل بالظن كافية في الردع والمنع عن هذه السيرة مثل قوله تعالى: (وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلّوكَ عَن سَبيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَ) [الأنعام: ١١٦] وقوله: (إِنَّ الَّذينَ لا يُؤمِنونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمّونَ المَلائِكَةَ تَسمِيَةَ الأُنثى ’ظنية’ وَما لَهُم بِهِ مِن عِلمٍ إِن يَتَّبِعونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغني مِنَ الحَقِّ شَيئًا) [النجم: ٢٧-٢٨]

نقول في الجواب: أولاً: إنّ هذه الآيات لا تصلح للردع، وذلك لأنّ هذه السيرة مستحكمة راسخة عميقة لها جذور وامتداد واسع بين العقلاء بحيث أنها موجودة عند كلّ عاقل.  هكذا سيرة لو أراد الشارع أن يمنع ويردعَ عنها، لا يكتفي في نهيه بإطلاق آية قرآنية، بل لا بد أن تكون هناك أدلة خاصة قوية بحيث يوجِدَ انقلابا وتغييراً، بالضبط كما فعل مع القياس، فإنّ القياس مع أنه لا توجد سيرة عقلائية عليه، ولا يوجد له امتداد ورسوخ وتجذر عند العقلاء، لم يكتفِ الشارع بإطلاق الأدلة الناهية عن العمل بالظن، فنراه يؤكد على النهي عن العمل بالقياس بالخصوص.  فالشارع المقدس لو كان غير راضٍ عن العمل بخبر الثقة - مع سيرتهم على العمل به في جميع المناحي - للزم عليه أن يبين ذلك، لا أقل كما بيّنَ موقفه من القياس الذي هو موقف واضح لا يشوبه أدنى شك.

إذاً: فنحن نحتاج الى أدلة شرعية ناهية عن العمل بخبر الثقة، لها من قوة الوضوح بمقدار ما لسيرة العقلاء من التجذر والرسوخ في العمل بخبر الثقة . وهذا الدليل مفقود، فالنتيجة: أنّ الشارع راضٍ عن العمل بخبر الثقة، والآيات غير صالحة للردع عن هذه السيرة.

ثانياً: إنّ سيرة المتشرعة من زمان النبي (ص) إلى زماننا، قائم على العمل بخبر الثقة، في جميع أمورهم الدينية والدنيوية، فإنّ أغلب المكلفين الذين كانوا في زمان النبي (ص) والأئمة (ع) لم يأخذوا أحكامهم من نفس النبي (ص) والإمام (ع) مباشرة وبدون واسطة، وبالأخص النساء، لا سيما أهل القرى والبوادي والبلدان البعيدة، فإنّ هؤلاء كانوا يرجعون إلى الثقات العارفين بالأحكام الشرعية الذين سمعوا الحكم من المعصوم (ع .( وعملهم هذا في الحال الذي جميعهم يقرأون الآيات الناهية عن العمل بالظن . فلو كانت هذه الآيات ناهية ورادعة عن العمل بخبر الواحد، لانقطعت سيرتهم عن العمل بخبر الواحد في زمان الأئمة عليهم السلام.

النتيجة: إننا نقطع ونجزم بأنّ هذه الآيات غير صالحة للردع عن سيرة العقلاء القائمة على العمل بخبر الثقة.

ثالثاً: إنّ المراد من الظن في الآيات الناهية ترجيح أحد الطرفين استنادا إلى الخرص والتخمين، لا ترجيحاً بسبب عقلائي، كما قال سبحانه: (وَإِن هُم إِلّا يَخرُصونَ) ويشهد بذلك مورد الآية من تسمية الملائكة اُنثى، فكانوا يرجحون أحدَ الطرفين بأمارات ظنية وتخمينات باطلة، فلا يستندون في قضائهم الى الحس ولا إلى العقل، بل إلى الهوى والخيال، وأينَ هذا من قول الثقة أو الخبر الموثوق بصدوره الذي يرجع إلى الحس وتدور عليه رحى الحياة ويجلب الاطمئنان وسكون النفس.  وهناك بيانات أخرى أدق وأعمق مما ذكرناه، يصعب على غير المتخصصين في علم الأصول فهمها، فنكتفي بما ذكرنا.

الدليل الثاني: الروايات المتواترة تواتراً إجمالياً، الدالة على حجية خبر الواحد، وهي على طوائف:

الطائفة الأولى: الأخبار العلاجية الدالة على أنّ حجية الأخبار في نفسها كانت مفروغاً عنها عند الأئمة (ع) وأصحابهم، وإنما توقفوا عن العمل من جهة المعارضة، فسألوا عن حكمها.

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بالرجوع الى أشخاص معينين من الرواة، كزرارة بن أعين ويونس بن عبد الرحمن وأبو بصير الأسدي وزكريا بن آدم.

الطائفة الثالثة: الأخبار الآمرة بالرجوع الى الثقات كقوله: لا عذر لأحد في التشكيك عما يرويه ثقاتنا. وقد ادعى البعض تواتر هذه الطائفة بالخصوص. الطائفة الرابعة: الأخبار الآمرة بحفظ الروايات واستماعها وضبطها والاهتمام بشأنها.  وهذه الأخبار متواترة إجمالاً، بمعنى: صدورُ بعضها عن المعصوم، ومقتضاه الالتزام بحجية الأخص منها المشتمل على الخصوصيات المذكورة في هذه الأخبار، فيحكم بحجية الخبر الواجِد لجميع تلك الخصوصيات باعتبار كونه القدر المتيقن من هذه الأخبار، وهو الخبر الجامع لعدالة رواته ووثاقتهم، فيكون الحجة هو الخبر الصحيح الأعلائي، ثم وجدنا في خبر صحيح أعلائي ما يدل على حجية خبر الراوي الثقة، بدون اشتراط العدالة.

النتيجة: أنّ خبر الواحد الثقة حجة .