عادة رمضانية جميلة مهددة بـ ’الانقراض’!

ونحنُ على أعتاب شهر رمضان المبارك تمرُّ عليَّ ذكرى أولِ شهر رمضانٍ صمته، وكان ذلك في شهر حزيران من سنة 1984، وعمري كان  اثني عشر عاماً؛ لأني امتحنت البكالوريا للسادس الابتدائي في ظهيرة تلك الأيام في متوسطة المصطفى، وكان الجوُّ حاراً.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

كنتُ أخرج من الامتحان وكانت المنظمة الحزبية بُنيت للتو قرب المدرسة وفيها صنبور ماءٍ مفتوح، فأشرب منه بعد انتهاء الامتحان فلم أكن اتحمَّل العطش.

وحين أدخل البيت كانت هناك حنفية ماءٍ في البيت تحت سوباط العنب، والانبوب الذي يتصل بها مدفونٌ تحت الأرض من أوله إلى آخره، فأشرب منها أيضاً ماءً بارداً وآكل من ورق العنب.

وحين أدخل الحمام للاغتسال كنت أشرب ماءً أيضاً.

وأمضيتُ نصف الأيام صائماً، ونصفها الآخر أشرب الماء وآكل ورق العنب، كلُّ ذلك خلسة.

وكُنَّا نفطُرُ في الحديقة، وكانت خيراتُ المائدة كثيرة، نوعان من العصير، وطبق الباقلاء، وشوربة العدس لا يكادان يُفارقان المائدة.

هذا غير مالذَّ وطاب.

وكانت قراءة القرآن سحابة النَّهار، وتلاوة دعاء الافتتاح والأدعية القصار المُلحقة به بعد الإفطار حتماً مقضياً وأمراً لازما.

وكنتُ أقرؤها في كتاب (ضياء الصالحين) فلقد كانت كتابة (مفاتيح الجنان) بالخط الفارسيِّ، وطباعته قديمة فلم استسغ القراءة فيه،أضف إلى أن بعض الأدعية القصار موجودةٌ في الضياء ولا تُوجد في المفاتيح.

ثم نشاهد البرامج الرمضانية والمسلسلات،وربَّما أكلنا بعض الحلوى أو الآيس كريم.

وعُرض مسلسل (الزنكلوني) أول مرة.

وكنَّا نصعد بالتلفاز اليوغسلافي الكبير إلى السطح، فنشاهد برامجه هناك، كان يعمل على اللمبة الكهربائية يحتاج نحو عشرين ثانيةً ليشتغل.

ثم ننام في الثانية عشرة أو الواحدة مساءً.، لنستيقظ بعد ساعةٍ للسحور، فمنَّا من يصعد ومنَّا من ينزل وينام هناك.

والصوم في الصيف خيرٌ من الصوم في الشتاء وأجمل.

فلم  أشعر بلذَّة الصوم إلَّا في الصيف، حيث تصارع ألمَ الجوع،شدَّة العطش.

كنتُ استمع إلى إذاعة الكويت بعضاً من نهار، وبعض برامج صوت الجماهير.

وجاء الصيام في الشتاء فلم أشعر بتلك الروحانية التي كانت في صيام الصيف.

ولقد دأبنا على الذهاب إلى كربلاء ليالي الجمعة أنا وبعض الرفقة الطيبة فنفطر هناك.

هذا عليه الخبز والطرشي والفاكهة،

وذاك عليه المقليات من كباب بيتٍ أو المشويات من الدجاج،

والثالث عليه شيءٌ آخر.

وسمعتُ دعاء الافتتاح يُتلى من العتبة الحسينية في التسعينيات أيام الحصار، فلم اسمع تلاوةً أخشع ولا أمتع من تلك التلاوة إلى يومك هذا.

وسألت رفيقيَ عن القارئ فلم يعرفاه.

وكانت هناك عادةٌ جميلةٌ في شهر رمضان اختفت اليوم أو هي في طريقها إلى الاختفاء.

وهي أن تُخرج كلَّ ليلة جمعةٍ شيئاً من طعام الفطور إلى الجيران في الحيِّ، حتى يصل العدد إلى العشرة منهم، وكان بعنوان الثواب عن ميتٍ معيَّن.

وكان الجيران يصنعون مثل ذلك.

وفي ليالي القدر تكون ذروة هذا التقليد الجميل، الذي يشدُّ عرى الالفة، ويقوي أواصر المحبة، وينفع الميت في قبره، والحيَّ في رزقه.

وكُنَّا ليلة القدر نختم القرآن، فمنَّا من يختمه مرةً أو مرتين في الشهر، وفينا من يختمه ثلاثا.

نُشعل الشموع في إناءٍ فيه طينٌ وياس، والبخور يتصاعد من الأعواد التي نُصبت هناك، وكنَّا نهدي الختمات إلى روح أبي - رحمه الله تعالى -

ولم نكن نعرف بثبوت الرؤية كما اليوم  عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، بل كان بعضُ الجيران ممن يثق فيه أهل الحيِّ يذهب في الصباح إلى براني السيد الخوئي - قُدِّس سره - ثم يأتي ضُحىً  يُخبر أهله بأنَّ اليوم أول شهر الصيام، وتقوم زوجته بإرسال أولادها ليُخبروا الجيران، فمنهم من كان يعرف من أمس، ومنهم من عرف اليوم، ومنهم من لا يدري فعرف منهم، وكنَّا دائماً من الصنف الثالث، فنعدلُ بالنيَّة من الصيام المستحب ليوم الشك إلى الواجب لشهر رمضان.

كانت أياماً جميلةً ما أحلاها.