لم يكن ’سياسياً’.. الطف حدث كوني!

الطف حدث كوني

لم تكن السقيفة مؤامرة قام بها اشخاص محدودين لابتزاز الامام علي (ع) حقه في الخلافة، والاستحواذ عليها. بل هي تعبير واقعي عن الطبيعة الانسانية في الصراع بين الخير والشر، فالانسان ملتقى الاضداد يجمع في نفسه الخير والشر بدرجات متفاوتة، حيث يظهر منها حسب الظرف الذي يعيشه، وتكون طبيعة الواقع المعاش هو المحك الحقيقي الذي يظهر مافيه.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

  

حين جاء الاسلام دخل فيه الناس طواعية وكرها.. إسلاما واستسلاما. وقد كان فيهم النبي ص كما حدد القران الكريم بقوله (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية26). حيث شاءت الحكمة الالهية في الخلق ان يكون الانسان مختارا، لايتعرض لعامل قسري يحدد اختياره، بل هو في محك دائم يمتحن قدرته ومثابرته على اختيار الحق او ترديه في مهاوي الطمع والرغبة في اختيار الشر.   

إن التصور الذي يقدمه الكثيرون لمهمة النبي محمد (ص) على أنه جاء ليصنع الناس على شاكلة خيّرة صالحة.. وبالتالي فأي قدح بالمسلمين الذين كانوا معه هو قدح في نجاح النبي الاكرم (ص) وقدراته كنبي مرسل.. هو تصور خاطئ. حيث ان مهمته هي جعل الناس امام صورة جلية للحق لاشبهة فيها ولا امكانية للاعتذار إذا ما اختار احدهم الباطل

لهذا فحين انتقل النبي (ص) الى الرفيق الاعلى تاركا في الناس شريعة المحجة البيضاء، وعدد لايحصى من الاحاديث الدالة عمّن يحملهم على تلك المحجة ويدلهم على معالم الطريق. كان اولئك المسلمون على المحك والامتحان الصعب. لقد كان المسلمون طوال فترة الدعوة في ضنك وعوز وخوف فكانوا في ذلك على حال من تلاشي دلائل الشر والطمع، ولكنهم قبيل وفاة النبي (ص) وبعد وفاته، قد تغير بهم الحال وصارت لهم دولة يلوح في افاقهم الاتساع وانهمار المال الوفير الى خزائنها وتتوفر فيها المناصب. هنا تحركت نوازع الشر والطمع. وخير من صور ذلك المنقلب هي الزهراء (ع) في خطبتها إذ تقول "فلما اختار الله لنبيّه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرّة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم  فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً".   

وعليه فإن حرب الامام علي (ع) في السقيفة ليست مع عصبة متشخصة بل عموم المجتمع الذي استحكم الطمع والرغبة في ابنائه. فمالوا عنه. وهذا ماحدا بالامام (ع) ان يصبر ويسكت عن حقه لانه كإمام معصوم هو النور الذي تحتاجه الناس ولاحاجة له بإمرتهم ماداموا راغبين في المسلك المنحرف.  

غير أن هذا لايعني ان الامام المعصوم يلقي الحبل على الغارب أو يترك الامة تركا مطلقا، حيث أن الانحراف عن جادة الاسلام لها مجال محدود من وجهة نظر الامام، فإن تجاوزوه كان عليه التدخل. وهذا المجال مرهون بالمساس بمادة الاسلام وجوهرها، أن صار الوضع الى مايحيق به الضياع هب المعصوم (ع) للدفاع عنه والمحافظة عليه.. وبالنسبة الى الامام الحسين (ع) فقد واجه مساسا كاد ان يضيع الاسلام ويجعله أثرا بعد عين. وذلك بأن يعتلي عرش الخلافة رجل كيزيد بن معاوية الرجل الذي يكفي في بيان ماهو عليه من الانحلال والفساد، أن اهل المدينة حين وصلت اليهم انباء ماحدث في الطف من قتل الحسين (ع) واهل بيتهم أرسلوا وفدا لملاقاة يزيد والاطلاع على حقيقته، فلما رجع الوفد قالوا لاهل المدينة جئناكم من عند شخص لا دين له، شرّاب للخمر زانِ قاتل للنفس المحترمة، ويلاعب الكلاب.. وليس الامر محصورا بتولى شخص كذاك الخلافة وإنما الامر الجلل الذي كاد ان يودي بالاسلام هو رضوخ الامة لحكمه واستسلامها لإمرته، حيث قد تبددت كل روح في الناس للوقوف بوجه الباطل وضاعت فيهم القدرة على مواجهة الفساد. وهذا ماجعل للطف ميزة متفردة ألا وهي أنها لم تكن حدثا سياسيا محصورا بصدام مسلح بين حاكم منحرف وثائر ينشد الثورة عليه. بين هي حدث تاريخي يحمل في طياته الدرس البليغ والصورة للمثال للاحرار الذين يرفضون الظلم والطغيان والفساد.. أن الكوفة وجيش الشام والغاضرية ويزيد وغيرها من مفردات يرد ذكرها في ثورة الامام الحسين (ع) لم تكن تمثل حقيقة الحدث بل هي مفردات مادية تجلت فيه حركة الامام الحسين الكونية. وتجسدت من خلالها صورة الموقف الاسطوري لتحدي الحق المطلق بالباطل المطلق.. وإلا فإن الحسين (ع) قد ثار على يزيد وحث الناس بكل ما استطاع للثورة على يزيد وقد اعتزله الناس، نجد الناس قد ثاروا على يزيد نفسه في موقعة الحرة والامام السجاد (ع) اعتزلهم ورفض الثورة.