’شرنقة الحس’ : أين الأدلة الحسّية على ولادة الإمام المهدي؟!

كتب آية الله الشيخ السند: الأدلّة والمعطيات الحسّية في ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)

الكثير من التساؤلات بأقلام الكتّاب السابقين واللاحقين من الكتّاب الإسلاميّين يرفعون هذا الاعتراض، وهو: لماذا لا يكون في الإيمان والاعتقاد بالإمام المهدي (عليه السلام) معطية حسّية؟

إنَّ المعطية الحسّية موجودة فيما تناقلته وروته الإماميّة من أتباع مدرسة أهل البيت في ظلّ الظروف القاهرة الأمنية الكابسة الخانقة من دولة بني العبّاس، وهذا بيّن لدى كلّ المسلمين، أنَّ الدولة العبّاسية استقدمت الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري من المدينة المنوَّرة، وأقامت عليهما رقابة عسكرية حتَّى في بيتهما (عليهما السلام)، وفي بعض الأخبار الروائية والتاريخية التي يروونها أنَّ عشرة من جلاوزة وعلماء بلاط بني العبّاس كانوا يمكثون في بيت الإمام الحسن العسكري للرقابة، إلى هذا الحدّ كان هناك استنفار أمني بدرجة قصوى لدى الدولة العبّاسية تجاه الإمام الحسن العسكري وتجاه الإمام الهادي، خمداً لأنفاس الإمامة حسب ما يتوهَّمون لإطفاء نور إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، وتحسّباً من مجيء ولدهم الثاني عشر الموعود بأن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ضمن هذه الظروف القاهرة الخانقة الكابسة الظالمة لدولة عظيمة آنذاك،

يقول: لِمَ لا تبدي لي مسحة حسّية وردية؟! وكأنَّما هو يتنكَّر إلى المعطيات الموجودة التي أجمعت عليها البشرية والمسلمون آنذاك في ذلك الظرف التاريخي الخانق، ورغم ذلك هناك معطيات حسّية كثيرة، لكن كيف يسوغ لمسلم يقرأ القرآن الكريم ويهتدي ويسترشد من القرآن الكريم أن يجعل من الحسّ المحور الأوّل والأخير ويترك الدلائل الوحيانية البرهانية الأخرى، وهذا القرآن يفنّد اليهود والنصارى ويضلّلهم ويسلب عنهم الإيمان بسبب أنَّهم جعلوا الحسّ مصدراً لمعرفتهم واعتقادهم وإنكارهم لبقاء حياة النبيّ عيسى، وأنَّه صفّي وقتل وأعدم وأبيد، وكان ذلك نتيجة للركون إلى الحسّ، والقرآن الكريم يقول: أتتكم البيّنات في التوراة والإنجيل، وها هي في القرآن الكريم البيّنات الوحيانية التي هي أرفع شأناً ودرجةً وحجّيةً وبياناً ونوراً وهدىً من ضآلة مستوى الحسّ، فالقرآن الكريم - كما مرَّ بنا - دائماً يشدّد النكير على حصر الاستناد إلى هذا المنهج المعرفي الخاطئ، بأن يستند الإنسان إلى مصدر معرفي نازل ويجعل منه المحور الأوّل ويترك مصادر المعرفة العالية،

رغم كلّ ذلك فيأتي في مثل هذا القرن وفي قرون عديدة أخرى من الكتّاب الإسلاميّين من يقول: أين المعطيات الحسّية؟!

وهذا القرآن ينادي بأنَّ الحسّ ليس هو كلّ المصدر للمعرفة، وهلاَّ قال: أين البيّنات من القرآن؟ أو أين البيّنات من الأحاديث النبوية؟

فربَّما يكف عن الترنّم واللهج بهذا الإشكال، لأنَّه يرى في الآيات القرآنية وفي الأحاديث النبوية بيّنات ساطعة ناصعة نيّرة هادية إلى هذه العقيدة الشريفة، لكنَّه أخذته العزّة بالإثم فيقول: ومن أحالك على غائب لم ينصفك، فكيف بمن أحالك على مستحيل؟!

وهذا القرآن الكريم ينبئنا عن أنَّ عمر النبيّ نوح زاد على الألف؛ لأنَّ دعوته كانت تقلُّ عن ألف سنة إلاَّ قليل، أمَّا حياته فأكثر من ذلك، وها هو القرآن الكريم ينبئنا عن حياة النبيّ عيسى وبقائه عند الله عز وجل ونزوله للمشاركة والإسهام في دولة الإصلاح الشاملة في الكرة الأرضية، ومع ذلك ترى التشرنق بشرنقات حسّية ملبوسة يجعل منها الركن الأصيل لمنبع العقيدة، لو أتونا وناقشونا في الأحاديث النبوية الدالّة، ولو أتونا وناقشونا في الأحاديث المتواترة، أو في البيّنات القرآنية على ذلك، لكنّا نعمل به، أمَّا أن يتشدَّقوا ويتشرنقوا من خلال لفيف حسّي محبوس،

فهذا هو الذي يخطّئه القرآن الكريم، إذ يقول: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ)، هذا اختلاف جارٍ في الأمّة الآن، كالذي حصل من اختلاف في حياة النبيّ عيسى وظهوره وامتداد عمره، إذ هو مثل ضربه الله في القرآن للمهدي من آل محمّد ليكون لنا عظة وعبرة، ومنهجية معرفية سطَّرها لنا لكي نحتذي ونتربّى عليه، فلماذا ننبذ القرآن وراء ظهورنا، فتعالوا بنا نستمسك بالرؤية المنهجية المعرفية التي يرسمها القرآن الكريم لهيكلة العقل الإسلامي، فلا يمكن أن نقزّم العقل الإسلامي والعقل البشري في الإدراك الحسّي وملابساته وهيولاه الهلامية المحدودة، أبداً، بل لا بدَّ أن ننطلق إلى مصادر معرفية كثيرة، ترى كثيراً من نقاشاتهم -وقد جمعت- في كثير من المصادر تستند إلى وسوسات الحسّ ومصادر حسّية من القتل والإعدام والتصفية، وأنَّ الدولة العبّاسية كانوا في حصار آبائه وأجداده، فكيف إذن يتمكَّن من التخلّص والتملّص منهم؟!

وما شابه ذلك من هذه الإشكالات التي ينبغي للمسلم أن ينأى عن البناء والتبنّي والاستمساك بها.

فأحدهم يرى أنَّ الاعتقاد بالنبيّ عيسى وحياته وأنَّه سوف ينزل ويظهره الله بعد هذا الأمد الطويل من تغييبه وبقاء حياته لإنجاء البشرية ما هو إلاَّ تخدير!، وهذه المقالة ليست حديثة، بل يتردَّد ويتشدَّق بها الكثير في الكتب القديمة في قبال العقيدة بالإمام المهدي، مع أنَّ هذا الارتباط والعقيدة بحياة وبقاء النبيّ عيسى ونزوله وظهوره لمساندة الإمام المهدي هو برهان قرآني قويم، وهناك تقارن لهاتين العقيدتين اللتين هما عقيدتان قرآنيتان، بل هما عقيدة واحدة، ومع كلّ ذلك يذهب إلى أنَّ الاعتقاد بحياة النبيّ عيسى وظهوره مخدّر، ويقول بموته ويستدلّ عليه بقوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) (آل عمران: 54 و55)، فقد توفّاه الله ومات، ولا تقع نجاة البشرية على يده ويد الإمام المهدي في دولة الإصلاح الشامل، بل يجب أن لا نخدّر عزائمنا وهممنا وطاقاتنا وتفكيرنا بمثل هذه العقائد،

هذا القائل يريد أن يجحد وينكر هذه العقيدة تحت ذريعة أنَّها عقيدة مخدّرة عن الحيوية والحركة والنشاط والفعالية، وأنَّ الاعتقاد بأنَّ النبيّ عيسى حيّ ليس له أصل، مع أنَّ كلمة (مُتَوَفِّيكَ) ليست بمعنى وفاة الموت؛ لأنَّ القرآن الكريم كما مرَّ بنا يستعمل الوفاة سواء في الحالة المنامية أو في حالة الموت المعهودة: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (الزمر: 42)، فيطلق عليه التوفّى، فهذا التوفّي هو نوع من حالة منامية، باعتبار عروج النبيّ عيسى في الفضاء يلازم نوعاً من الإرباك البدني أو الفسيلوجي، فحيطة من الله للنبيّ عيسى جعلت له مثل حالة منامية أو حالة المثالية التي هي قريبة من حالة الموت، إلى أن رفعه إليه، وهو عند الله باقٍ،

هذا القرآن الكريم يعدنا: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (النساء: 159)، يعني أنَّ القرآن الكريم يعد بظهور ونزول النبيّ عيسى، وكذلك في سورة الزخرف: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ…)، إلى أن تقول الآيات: (وَإِنَّهُ)، يعني ابن مريم النبيّ عيسى (عليه السلام)، (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (الزخرف: 57 _ 61)، فجعل نزول النبيّ عيسى علماً للساعة، وهذه أحاديث الفريقين المتواترة في ذلك، وهذه الآيات المتعدّدة الدالّة على ذلك، وهذه عقيدة أصيلة في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية، بل وفي التوراة والإنجيل أيضاً.

فهذا التنكّر والجحود لهذه العقيدة من هذا القائل، وهذه المقالة كما مرَّ مذكورة في كتب قديمة عديدة، نظراً لما وجدوه من الصلة الوطيدة الوثيقة بين الاعتقاد بحياة النبيّ عيسى وظهوره باعتباره مصلحاً معدّاً ومدَّخراً من قبل الله تعالى مع العقيدة بحياة الإمام المهدي وبقائه وخفائه وإعداده الإلهي ليكون مصلحاً في نهاية المطاف للبشرية، وإن كان هو يمارس دوره إلى الآن في ظلّ الخفاء والسرّية، وأمَّا إشكالية الخمود أو إشكالية التخدير والخدر والتسويف الذي ربَّما ينتاب الأمّة نتيجة الاعتقاد بهذه العقيدة، فهذا توهّم بارد، وهذا مقال كاسد؛ لأنَّ هذه العقيدة ليست هي مصدراً ومبعثاً للخمود، بالعكس فهي منطلق ومنشأ للحركة والحيوية ولبقاء الأمل، وعدم اليأس وعدم الإحباط، وأن يكون الإنسان دوماً في ضخ أمل رحب واسع الأفق ينطلق فيه؛ لأنَّ المنهج في سُنّة الله في الإصلاح لا على الجبر ولا على التفويض، والسرّ والحكمة الإلهية في جعل سنن التغيير الاجتماعي والإصلاح الاجتماعي في الأمر بين الأمرين؟ لأنَّه لو كانت جبرية أوجبت التخدير والخمود، وأنَّ الله هو الذي يفعل كلّ شيء، وبالتالي ليست هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الأمّة لتقوم بدورها في الإصلاح والإعداد للإصلاح العالمي الشامل الإلهي، وإن كان تفويضاً فسوف يسبب الجمود والخدر والإحباط، لأنَّه إذا كانت المعطيات هي بمقدار ما هو موجود في أيدي البشر والمجتمعات البشرية، فإذا تغلَّب الظالمون وتغلَّبت تلك الأنظمة الجائرة والرأسمالية والإقطاعية وتغلَّبت قوى الشرّ، ولم يكن هناك من منفّس فالمفروض أنَّه ليس بيد الله أي إسهام _ والعياذ بالله _ فلو افترضنا هذه المقالة، فالتفويض أيضاً سوف يسبب انقطاع الأمل والإحباط، وهذا على خلاف القول بأنَّه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، هذه ديناميكية محرّكة حيوية دائماً للقيام بالمسؤولية، ولعدم التخاذل وعدم التهرّب من ساحة المسؤولية وساحة الحدث.

فالاعتقاد بعقيدة الإمام المهدي وعقيدة النبيّ عيسى وأنَّهما حيّان في قدرة الله، وأنَّهما معدّان ومدَّخران للإصلاح الإلهي العامّ الشامل الكبير، هذا الطابع وهذا المجال في الحقيقة لا يدعو إلى التخدير، وإنَّما يكون مبعثاً للأمر ومنطلقاً لفسح رحب الأفق، وبالتالي يكون هناك نوع من الدور المتزاوج البشري والإلهي في إعطاء مسار التغيير يد إسهام فيه، فلا تفويض ولا جبر وهذه هي نظرية وعقيدة مدرسة أهل البيت، ليست فقط في الفعل الفردي، بل حتَّى في الفعل الاجتماعي كما مرَّ أنَّ الإصلاح لا يرسمه القرآن الكريم أو ترسمه الأحاديث النبوية، أو ترسمه الكتب السماوية بأنَّه نحو إلجاء وإكراه من الله وبـ (كن فيكون)، فليس من سنن الله ذلك، بل سنن الله أنَّه أمر بين أمرين، إسهام من السماء، وإسهام بشري أيضاً في الإصلاح البشري، وليس تفويضاً يوكل إلى البشر لكي يحبط أو ييأس عند عجزهم؛ لأنَّه لا معين ولا ناصر لهم، ولا هو إلجاء. إذن هذه الحالة الحيوية الناشطة وهذه الحالة المتحرّكة باعثة دائماً النشاط وعدم اليأس وعدم الاغترار بعجز النفس أو عجز البشر، بل هي أمر بين أمرين، فالحيوية إذن كامنة في الاعتقاد بعقيدة الإمام المهدي وظاهرة النبيّ عيسى (عليهما السلام).