لماذا لم يثر الحسين (ع) في عهد معاوية؟!

إن الحسين (ع) قد عاصر معاوية مع أبيه وأخيه، وعاصره بعد أخيه نحوا من عشر سنوات كان الحسين (ع) وحده مهوى الأفئدة ومحط آمال المعذبين والمشردين والمضطهدين، ولم يترك معاوية خلال تلك المدة الطويلة من حكمه بابا من أبواب الظلم إلا وانطلق منه: فقتل المئات من الصلحاء، وعذب وشرد، واضطهد الملايين بلا جرم ارتكبوه، ولابيعة نقضوها، وكان ذنبهم الأول والأخير هو ولاؤهم لعلي وآل علي (ع)، وكان القدوة لجميع من جاء بعده من الأمويين فيما ارتكبوه من الجرائم والاستهتار بالقيم والمقدسات، وهو الذي كان يعمل ويضع الأسس لتحوير الإسلام وتحقيق ما كان يحلم به أبو جهل و أبو سفيان وغيرهما من طواغیت قريش، ولم يكن ولده يزيد إلا صنيعة من صنائعه و سيئة من سيئاته، فلماذا، والحالة هذه، ابتعد عن الثورة في عهد معاوية مع وجود جميع مبرراتها في حين أن المبررات التي دفعته للثورة على یزید کانت امتدادا لتلك التي كان يمارسها معاوية؟ 

والجواب: 

كاد الحق أن يدال له من الباطل يوم صفين ، وأدرك الخصم ـ معاوية ـ أن المحاكمة إذا كانت كلها إلى السيف فستظهر كلمة الله ولاریب، وستكون نهاية الأحزاب الثانية عين نهايتهم الأولى، أدرك الباطل ذلك بدهائه: فجنح للمخاتلة.. وأعد القذيفة.. ورفع المصاحف.. وقذف النار !!. 

أجل، انه قذف النار فهلعت قلوب، وعقدت ألسن، وأظلمت بصائر، ونقضت عهود، والتجأ الحق إلى اغماد السيف، وبدأ يعالج الحادث ويصد الغارة. 

وطال الموقف، ولا محيد للموقف من أن يطول، واغتيل القائد الأعلى 

للحق في حادث من حوادث الفتنة، فتأزم الموقف واشتدت حراجته. 

وانتدب الإمام الحسن السبط (ع) للقيادة الكبرى بعد مقتل أبيه (ع)، فما تراه فاعلا؟ أيشهر السلاح؟.. ما الذي جد ياترى؟ هل تم علاج الموقف بعد قتل علي (ع) ليمتشق الحسين (ع) السيف؟ هل ثاب المخدوعون إلى رشدهم ليستعيد الحق موقفه الأول؟ 

لا. لا. ان الموقف لا يزال به بعد به على دقته وعلى شدة حراجته، وإذن، فلابد من اغماد السيف، وإتمام العلاج. 

وأغمد الحسن (ع) السيف، فقال التاريخ والمؤرخون: صالح الحسن خصم أبيه، وتنازل له عن حقه. 

لا. لا. لم يصالح الحسن (ع) خصمة، ولم يتنازل عن حق، ولكنه استضعف العقيدة في جنوده، و كيف يلقى عدوه بجند ليس لهم قلوب؟!. 

أغمد الإمام الحسن (ع) السيف و أعلن الهدنة، فمكن بذلك للناس أن يروا الحكم الأموي على سجيته رأي عين، وأن يبرز أمامهم بخصائصه وأهدافه عارية مفضوحا دون طلاء ولا تزویق..  للناس كافة.. وليس للعراقيين فقط، ولا للمصريين والحجازيين و اليمانيين معهم، بل حتى لأهل الشام، فقد كانت المخادعات والمخاتلات الأموية تستر عليهم وجه الحقيقة طول أيام الحروب. 

ومكّن للناس كلهم . شاميهم وعراقيهم . أن يستمعوا إلى الحاكم الأموي الأعلى في يوم . ساباط - ذاته وهو يفضح خطته، ويعلن هدفه، ويكذب دعاواه الطويلة العريضة التي خادع الناس بها طوال السنين. 

أن يستمعوا إليه وهو يقول لهم: إنه لم يقاتلهم ليصوموا ولا ليصلوا ولا ليحجوا ولا ليزکوا، لم يقاتلهم ليقيم ركنا من أركان الإسلام هم تارکوه، إذن، فعلى ماذا أطلت الدماء؟ ولماذا رفعت المصاحف؟ بل ولماذا هتف بدم  عثمان؟ إنه قاتلهم ليتأمر عليهم فأعطاه الله ذلك وهم كارهون. 

هذه هي الغاية وكل ما سواها فوسيلة، حتى القرآن إذ رفعه يوم صفين، نعم، حتى القرآن فقد كان وسيلة لا غاية، وحتى دم عثمان، إنما هي القوة والإمرة على الناس وهم راغمون کارهون. 

من الإمام الحسن (ع) للناس كلهم -شاميهم وعراقيهم- أن يستمعوا إلى معاوية يقول لهم هذا بصراحة لم تعهد له في يوم من الأيام، ولقد كان هذا وحده سببا كافيا للإتيان على بناء دولته من القواعد لو كان في البصائر والضمائر بقية من نور، وتلت الحوادث والأعمال والأقوال من معاوية و من عماله وبطانته تشرح المجمل وتضع النقاط وتكشف المستور من مناهج هذه الدولة. 

ومواقف الحسن (ع) و أقواله وسيرته إلى جنب ذلك تعرف الناس سبيل الهدی الذي اجتنبوه، ومناهج العدل الذي خذلوه والناس تسمع وتبصر وتعي وتزن؛ بملء أسماعها وأبصارها و أذهانها و عقولها، فأي اجراء اسلامي يستطاع في تلك الظروف هو أكبر من ذلك و أجدى للأمة؟

وكان من أثر هذه التمهيدات التي قام بها السبط الأول (ع) أن ترنح بناء الدولة الطاغية عند الضربة التي سددها شقيقه وخليفته الإمام الحسين (ع) ثم هوى الصرح و تدكدك البناء. 

ولم يكن الحسين (ع) أقل ادراكا لواقع المجتمع العراقي من أخيه الحسن  (ع) فقد رأى من خيانته وتخاذله واستسلامه للضغوط والمغريات مثل مارأى أخوه وأبوه من قبله، لذلك كله فقد آثر التريث ريثما يتوفر لشهادته أن تعطي النتائج التي تخدم الإسلام وتبعث اليقظة والروح النضالية في نفوس المسلمين، وراح يعمل على تهيئة المجتمع العراقي للثورة وتعبئته لها بدل أن يحمله على القيام بها في عهد معاوية حتى لا تكون نتائجها لصالحه وحده. 

لقد مضى على ذلك في حياة أخيه وبعد وفاته، ففي حياة أخيه حينما فاوضته وفود الكوفة في الثورة على معاوية بعد أن يئسوا من استجابة الحسن (ع). 

قال لهم أبو عبد الله (ع): «صدق أخي أبو محمد فليكن كل رجل منكم حلسة من أحلاس بیته مادام معاوية حيا[1]

وبعد أخيه (ع) كتب له أهل العراق يسألونه: أن يوافقهم على الثورة، 

فأصر على موقفه و کتب إليهم في جواب رسائلهم كتابة جاء فيه: 

وأما أخي فأرجو أن يكون الله قد وفقه وسدده فيما فعل، وأما أنا فليس من رأيي أن تتحركوا في عهد معاوية فالصقوا بالأرض واكمنوا في البيوت واحترسوا من الظنة والتهمة مادام معاوية حيا. 

إلى كثير من مواقفه التي تؤكد أنه كان يرى أن الثورة في عهده لا تخدم مصلحة الإسلام والمسلمين شيئا وأن الخلود إلى السكينة والابتعاد عن كل مايثير الشبهات وضغائن الأمويين عليه وعلى شيعته وأنصاره في حياة معاوية أجدی المصلحة الإسلام، وفي الوقت ذاته كان يعمل لإعداد المجتمع العراقي وتعبئته . بانتظار اليوم الذي يطمئن فيه لثورته وشهادته أن تعطي النتائج المرجوة. 

وبالفعل فقد ازدادت الدعوة في عهد الحسين (ع) عنفا وشدة في أكثر المناطق الإسلامية وبخاصة بعد أن جعل معاوية ولاية العهد لولده الخليع المستهتر، وكان لكل حدث من أحداث معاوية صدى مدوي في أوساط المدينة حيث الإمام الحسين (ع) الرجل الأول الذي تتجه إليه الأنظار من كل حدب وصوب. 

وقد أحس الأمويون في الحجاز بهذا الواقع ودب في نفوسهم الخوف من نتائجه، فكتب مروان بن الحكم إلى معاوية يحذره من التغاضي عن الحسين (ع) وأنصاره. 

وجاء في كتابه إليه: إن رجالا من أهل العراق ووجوه الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي (ع)، وإني لا آمن وثوبه بين لحظة وأخرى، وقد بلغني استعداده لذلك فاكتب إلي برأيك في أمره[2]). 

ولم يكن معاوية في غفلة عن ذلك وكان قد أعد لكل أمر عدته بوسائله التي كان يهيمن بها على الجماهير المسلمة. 

والحسين (ع) يعرف ذلك ويعرف أن ثورته ستنجلي عن استشهاده، والاستشهاد بنظره لا وزن له ولا قيمة إذا لم يترك على دروب الناس وفي قلوبهم وهجة ساطعة يسيرون على ضوئه في ثورتهم على الظلم والطغيان وفراعنة العصور في كل عصر وزمان. 

إن معاوية يدرك ويعي ما للحسين (ع) من منزلة في القلوب، وبأن ثورته عليه ستزجه في حرب يعكر عليه بهاء انتصاراته التي أحرزها في معركة صفين،، وفي صلحه مع الإمام الحسن بن علی (ع)، ولو قدر لها أن تحدث يومذاك فسوف يعمل بكل ما لديه من الوسائل لكي يتخلص منه قبل استفحالها، وقبل أن يكون لها ذلك الصدى في الأوساط الإسلامية، ولو بواسطة - جنود العسل - التي كان يتباهى بها وقد استعملها للفتك بأخصامه السياسيين: كالحسن بن علي (ع)؛ وسعد بن أبي وقاص؛ ومحمد بن حذيفة؛ وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد؛ والأشتر النخعي، بعد أن أحس بخطرهم على دولته وأمويته العنصرية الحاقدة. 

ولو تعذر عليه ذلك، فسوف يمارس جميع أشكال الاحتيال والتضليل والمراوغة، حتى لا يكون لشهادته ذلك الوهج الساطع الذي ينفذ إلى الأعماق، ويحرك الضمائر والقلوب ضد دولته وأعوانها، ولكي يبقى أثرها محدودا لا يتجاوز قلوب أهله ومحبيه و شیعته إلى حين، ثم يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع الذكريات والأحداث. 

ولعل ذلك هو الذي اضطر الحسين (ع) إلى التريث وعدم مواجهة معاوية بالحرب، ودعوة أصحابه و شيعته الذين كانوا يراسلونه ويتوافدون عليه بين الحين والآخر إلى أن يلتصقوا بالأرض، ويكمنوا في بيوتهم، ويتحرسوا من كل ما يثير حولهم الظنون و الشبهات، ما دام معاوية حيا، كما جاء في بعض رسائله إليهم. 

وكما كان يعرف معاوية وأساليبه، كان يعرف أن خليفته الجديد محدود في تفكيره، ينساق مع عواطفه و شهواته و تلبية رغباته إلى أبعد الحدود بارتكاب المحارم والآثام والتحلل من التقاليد الإسلامية والنزق في تصرفاته ومعاملته الأخصامه، ومن أجل ذلك وقف المسلمون من بيعته موقفا يتسم بالحذر والتخوف على الإسلام والمسلمين واعتبروها من أخطر الأحداث على مصير الأمة ومقدراتها. 

ومن ثم لم يكن من خلقه ولا باستطاعته مواجهة شهادة الحسين (ع) وتغطيتها بالاساليب التي اعتاد أبوه تغطية جرائمه بها، وكان كما يصفه البلاذري: من أبعد الناس عن الحذر والحيطة والتروي صغير العقل متهورة سطحي التفكير لا يهم بشيء إركبه[3]) . 

فلقد كان من أبعد الناس عن أن يواجه ثورة الحسين (ع) باسلوب أبيه، ولا بد أن يواجهها بالاسلوب الذي يتفق مع شخصيته وهو ما حدث في النهاية بالنسبة إليها وإلى غيرها من المشاكل التي واجهته خلال السنين الخمس التي حكم فيها بعد أبيه، وكانت تربيته المسيحية أو نشأته في الوسط المسيحي مع أمه میسون تأبى عليه أن يلتزم اسلوب أبيه في الاحتفاظ بالغشاء الديني الذي كان يسد له على أفعاله وتصرفاته ويتستر به لدى العامة من الناس دجلا وتضليلا كما يدعي الكثير من الباحثين.

الهوامش:

[1] الأخبار الطوال: ۲۲۱، الإمامة والسياسة ۱۱۷

[2] رواه الكشي

[3] أنساب الأشراف..