تاريخ المآتم الحسينية (2): عزاء الحسين (ع) يتحول إلى شعيرة «رسمية»

بعد عصر المأمون العباسي زاد التضييق على أئمة اهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، وبلغ أوجه في عصر المتوكل، لكن انتشار الشيعة بمختلف مذاهبهم وزيادة اعدادهم أجبر مؤسسة الخلافة العباسية على تخفيف القيود، وقد ورد أن الخليفة العباسي المنتصر ابن المتوكل، سمح للناس بزيارة كربلاء في عام 248هـ١، كما أمر بإعادة بناء مزار الحسين عليه السلام٢، ومنع التعرض للشيعة بالأذى٣ ولم يضيق الخلفاء من بعده على زوار الحسين كما فعل المتوكل، وإن لم تخل المرحلة من تضييق على الشيعة في فترات متقطعة كما حدث أبان حكم الحنابلة لبغداد، قبل استيلاء البويهيين على الحكم٤ لكن الشيعة استمروا بزيارة الحسين في كربلاء خاصة أيام عاشوراء وعرفة ومنتصف شعبان.

وتدل النصوص الواردة عن عصر الغيبة الصغرى (260 ـ 329)، على إقامة المأتم في مزار الحسين عليه السلام، كما ذكر أبن الأثير عن مشاهداته بكاء الشيعة ونواحهم عند زيارة قبر الحسين عندما نقل أحداث نهاية القرن الثالث (296هـ) حيث رأى شيعياً يمنياً على تلك الحال[5]، وذكر القاضي أبو علي محسن بن علي التنوخي (384هـ)، أن أحد النعاة واسمه (ابن أصدق) كان ينعى الحسين في أيام حكم الحنابلة ببغداد، ويقول الراوي انه أراد تكليف ابن اصدق برثاء الحسين، فذهب للبحث عنه في مزاره ليلة النصف من شعبان حيث يتوافد الشيعة للزيارة فيها، فوجده هناك وعلى الرغم من خطورة ذلك قضى تلك الليلة بقراءة المراثي، وأبكى الحاضرين[6]، وورد ان (بربهاري) زعيم حنابلة بغداد 329 هـ، أمر بقتل ناعي يدعى (خلب) متخفاً في بيوت الشيعة، وذلك في نهاية الغيبة الصغرى[7]، ويقول ابن حجر عند الحديث عن الشاعر الشيعي (الناشئ الصغير)، ابى الحسن الحلا علي بن عبد الله، المولود (271ه): عن أشعاره كانت تقرا في رثاء الحسين عام 346هـ وقد بكى هو ومن حوله الى الظهر ذلك اليوم[8].

ذلك كله يدل على ان الشيعة لم يكفوا عن البكاء وإقامة المأتم الحسيني، وسعوا الى إعلان ذلك ما وجدوا الى ذلك سبيل وسمحت به الظروف، ويؤيد ذلك ما ورد عن إقامة أهل مصر المأتم عند قبور بنات الإمام الحسين عليه السلام، أم كلثوم ونفيسة، عليهما السلام، في يوم عاشوراء أيام الحُكام السنة أخشيد وكافور (323 ـ 358هـ) حيث أمر كافور جنوده بمراقبة الصحراء (طريق المعزين) لمنع الناس من الذهاب الى تلك القبور[9].

فلو لم يصبح المأتم الحسيني شعيرة رسمية في بغداد ومصر، لما ذكر المؤرخون شيئاً عن تلك المآتم، فحين قامت الحكومات الشيعية وتسلمت مراكز القرار، أضطر المؤرخون لنقل أخبارهم، ومنها المأتم الحسيني، وتبعاً لذلك جاؤوا على ذكر المآتم الحسينية السابقة.

ويمكن عد أمر الحاكم البويهي معز الدولة الديلمي بإقامة العزاء الحسيني عام (325هـ) الانطلاقة الحقيقية لاعتبار المأتم تقليداً رسمياً ترعاه الدولة، كما أصبحت إقامة المآتم الحسينية تقليداً رسمياً في مصر بعد عقد من الزمن في عهد الدولة الفاطمية[10]، وقد ذكر أبو الريحان البيروني[11] وعبد الجبار المعتزلي[12] إقامة مجالس العزاء في مختلف مدن العالم الإسلامي لا سيما الكبرى منها، وذلك ابان قيام حكومات شيعية في القرن الرابع والخامس الهجري.

وأما في بغداد فقد ترافق إقامتها بصورة علنية حفيظة باقي المذاهب الأمر الذي جر الى حدوث بعض الاشتباكات، فبعد أن أمر معز الدولة البويهي بإقامة مجالس العزاء العامة في يوم عاشوراء، أصبح ذلك شعيرة وتقليد رسمي حيث ينزل الشيعة الى الطرقات يرثون الحسين ويبكونه[13]، وقد زادت هذه الاعتراضات والاشتباكات أبان ضعف البويهيين، فلم تتمكن الدولة من حفظ الأمن، لذلك طلب بعض وزراء الدولة البويهية عدم إقامة المآتم وتم منعها لأعوام في العقود الأخيرة من عمر الدولة البويهية حفظاً للأمن وحقناً للدماء[14].

على الرغم من كل هذه الصعوبات استمرت إقامة المجالس الحسينية في بغداد حتى نهاية حكم البويهيين، ثم منعت إقامة الشعائر الحسينية في بغداد من قبل حكومة السلاجقة المتعصبيين عام (447هـ)، ومع ذلك هناك روايات عن إقامة المآتم الحسينية يوم عاشوراء عام (458هـ)، بعد عقد من سقوط البويهيين[15]، يقول الشيخ المفيد عن عاشوراء وهو أحد المعاصرين لهذه الفترة: يتجدد في هذا اليوم حزن أهل بيت النبي وشيعتهم، وعلى الشيعة الامتناع عن الملذات فيه، كما أوصى بذلك أئمتهم، وأن يقيموا المآتم، ويأكلوا كما يأكل أهل العزاء[16].

وأما في مصر فقد ذكرنا دأب المصريين على إقامتها منذ ما قبل الحكومات الفاطمية، وأن أخشيد وكافور (323 ـ 358هـ)، كانا يمنعان الزائرين لمقام السيدة نفيسة وأم كلثوم من إقامة العزاء على سيد الشهداء عليه السلام، وأصبح هذا المأتم تقليداً رسمياً بعد حكم الفاطميين لمصر سنة (335ه)، وكانت تصحبها ترتيبات حكومية خاصة[17]، واستمر ذلك حتى سقوط الدولة الفاطمية عام 567هـ.

وبعد الإطاحة بالفاطميين، أخذت الدولة الأيوبية بزمام الأمور وسعت الى طمس الثقافة الشيعية[18]، بكل قسوة فقاموا بمنع إقامة المآتم الحسينية وعاقبوا عليها بأشد العقاب، إلا ان الشيعة استمروا بإقامة شعائرهم متى سمحت لهم الظروف بذلك، فحين أرسل الأيوبيون جيوشهم لقمع أهل حلب، استنجد حاكمها بالناس، فاشترط الشيعة حرية ممارسة شعائرهم الدينية، كإقامة العزاء الحسيني، وذكر (حي على خير العمل) في الآذان، في مقابل مساعدته في رد جيوش الأيوبيين، ووافق حاكم حلب على ذلك.

ومع بداية القرن السادس ورغم سيطرة السلاجقة على ايران والعراق، استمر الشيعة في إقامة شعائرهم ومنها المأتم الحسيني، مما يكشف عن ترسخ هذه الشعيرة في ضمير الشيعة، بل الأمر تعدى ذلك الى إقامة أهل السنة عزاء سيد الشهداء، ولم يكن ذلك من باب المجاملة بين طوائف المجتمع الواحد، وإنما وجود غياب التشدد عند بعض علماء اهل السنة جعلوهم يتفاعلون مع مظلومية سيد الشهداء عليه السلام، فقد نقل الرازي القزويني في كتابه (النقض) الذي ألفه رداً على كاتب سني متعصب: يبدي الشيعة في يوم عاشوراء الجزع والفزع، ويقيمون المأتم، ويذكرون مصائب سيد الشهداء في كربلاء على المنابر، ويسردون في ذلك القصص، فيخلع علمائهم عمائمهم، ويشق العوام جيوبهم، وتنتحب نسائهم ويلطمن الخدود، واعتبره (يقصد الكاتب السني المتعصب)، اتهاماً وبدعة مرفوضة، وما ذلك إلا لبغضه آل الرسول صلى الله عليه واله، وعداوته لأولاد البتول؛ إذ بعلم العالمين أن عظماء علماء الفريقين: الشافعية والحنفية، وعلماء سائر الفرق وفقهائهم قد عملوا بهذه السنة وتمسكوا بها، وللشافعي الذي نسبت له الفرقة مراثي كثيرة في الحسين وشهداء كربلاء... ولا تحصى المراثي التي جاء بها هو وابو حنيفة في شهداء كربلاء، إذ لو كان هناك إشكال في الأمر لوقع على ابي حنيفة والشافعي أولاً، ثم ورد علينا، وإذا تتبعنا الأمر وجدنا أن الخواجة بو منصور مشادة ـ من عظماء السنة في وقته ـ كان يحي ذكرى هذا اليوم بالحزن والنواح والبكاء في اصفهان، ولم يستنكر ذلك أحد، وهل تعلم كيف كان يقيم الخواجة علي الغزنوي الحنفي المآتم في بغداد مدينة السلام ودار الخلافة؟ فقد كان يبالغ في لعن السفيانيين، ... كما كانت تقام المآتم الحسينية كل عام في يوم عاشوراء ببغداد، فيعلو فيها البكاء والنواح، وكان مجد الدين مذكر الهمداني يقيم المآتم الحسينية بهمدان في ذكرى عاشوراء على نحو أدهش اهل قم، على الرغم من سلطة المشبهة عليها وحضور الجيش التركي فيها. وكان الخواجة إمام نجم ابو المعالي ابن ابي القاسم البزاري يقيم المأتم الحسيني بنيسابور، على الرغم من كونه حنفي المذهب، فيقوم بالنواح والصراخ ونثر التراب على رأسه، ويعلم الجميع ما كان يفعل الشيخ أبو الفتوح نصر آبادي والخواجة محمود الحدادي الحنفي وآخرون في مساجد الري وخان كوشك في يوم عاشوراء، من إقامة المآتم الحسينية ولعن الظلمة. وكان الخواجة إمام شرف الأئمة أبو منصور الهسنجاني يروي واقعة عاشوراء كل عام على نحو لا يأتي بمثله احد، وذلك في حضور أمراء الأتراك وقادتهم وكبار الحنفيين، ويحظى في ذلك بدعمهم وتأييدهم جميعاً.

وقد رأى الجميع كيف روى الخواجة إمام بومنصور حفدة، من كبار اتباع الشافعي، الواقعة بيوم عاشوراء في جامع سرهنك حين حضوره في جامع سرهنك حين حضوره في مدينة الري، حيث فضّل الحسين على عثمان، ووصف معاوية بالطاغوت، كما روى الواقعة الساوي الحنفي ـ من الوعاظ المشهورين ـ في جامع طغرل بحضور عشرين الف شخص، بنحو لم يأت بمثله أحد، حيث خلع عمامته وشق جيبه. ورأى الناس ما قام به الخواجة تاج شعري الحنفي النيسابوري في يوم عاشوراء بعد الصلاة بالجامع العتيق عام 555 ه، وذلك بإذن من القاضي وبحضور العظماء والأمراء، فلو كان في الأمر بدعة كما يقول الخواجة مجبر الانتقالي، لم يأذن به اهل الفتيا، ولم يسمح به أئمة المذاهب.  

وإن لم يذهب الخواجة الانتقالي الى مجالس الحنفيين والشيعة، فلابد انه ذهب الى مجلس شهاب المشاط، الذي يبدأ كل عام بحلول محرم بمقتل عثمان وعلي وينتهي بيوم عاشوراء بمقتل الحسين، وقد قام بالنعي في المأتم عند حرم الامراء قبل عامين على نحو شق الناس جيوبهم ونثروا التراب على رؤوسهم وخلع الرجال عمائمهم وعلا بكائهم ونواحهم[19].

تزامن القرن السابع مع ظهور دولة الخوارزمشاهيين في الشرق، وسقوط السلاجقة في بغداد، وانتعاش الخلافة العباسية مجدداً، وما ورد من تقارير تاريخية عن هذا القرن، يبين استمرار المآتم الحسينية كما في القرون السابقة، بل تشير الى اتساعها احياناً؛ فقد جاء في تقرير عن العقد الأول من هذا القرن، وقبل استيلاء المغول على بغداد، إن المآتم الحسينية كانت تقام في عاصمة الدولة العباسية، وكان المستعصم العباسي قد أمر محتسب بغداد جمال الدين عبد الرحمان بن الجوزي عام 641هـ بمنع الناس عن قراءة المقتل يوم عاشوراء، لكنه سمح لهم بقرائته عند مرقد الإمام الكاظم عليه السلام[20].

ولدينا خبر آخر عن ابن النديم، يقول: إن شيعة المدينة كانوا يجتمعون في قبة عباس في البقيع يوم عاشوراء، ويقرؤون مقتل الحسين عليه السلام[21]،  كما يشير جلال الدين الرومي في أحد تشبيهاته في منظومته المثنوي المعنوي الى مآتم علنية في حلب[22].

وأخيراً يذكر السيد ابن طاووس تخصيص العشرة الأولى من محرم للمآتم والمراثي، ويدافع عن هذه الفكرة[23]، ويدل على سنة قراءة المقتل وإقامة المآتم في محرم آنذاك، إذن لم يختص يوم عاشوراء بمآتم، بل العشرة الأولى من محرم كلها أيام عزاء وحداد.

والمستفاد من هذه الأخبار والروايات أن المآتم الحسينية أخذت بالتطور والاتساع كماً وكيفاً في القرن السابع، واستمرت هذه الشعيرة لتأصلها في نفوس الناس وارتباطهم بالحسين عليه السلام.

د. محمد صالح الجويني

 ترجمة فرقد الجزائري

الهوامش:

[1] الكامل في التاريخ: 4/355.

[2] مروج الذهب: 4/51، الكامل في التاريخ: 4/ 355.

[3] مروج الذهب: 4/135.

[4] الكامل في التاريخ: 7/ 113.

[5] الكامل في التاريخ: 5/14.

[6] التنوخي، نشوار المحاضرة: 2/230، وابن النديم، بغية الطلب في تاريخ حلب: 6/2654.

[7] نشوار المحاضرة: 2/ 232.

[8] ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان: 4/238.

[9] المقريزي، الخطط، 2/ 289.

[10] الخطط المقريزية: 2/289.

[11] الآثار الباقية: 329.

[12] تثبيت دلائل النبوة: 443.

[13] المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: 14/ 210، والبداية والنهاية: 11/ 286.

[14] المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: 15/ 37.

[15] المنتظم في تاريخ الأمم والملوك:16/94، البداية والنهاية:12/114.

[16] مسار الشيعة: 43.

[17] الخطط المقريزية: 2/291، النجوم الزاهرة: 5/153.

[18] الخطط المقريزية: 2/389.

[19] القزويني، النقض: 370 ـ 373.

[20] ابن الفوطي البغدادي، الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة: 93.

[21] بغية الطالب: 2/1021.

[22] الرومي، المثنوي المعنوي: 998.

[23] إقبال الأعمال: 3/90.