حقوق الإنسان والمشروع العلوي

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

المحور الأول: الركائز القانونية للحق الإنساني.

هناك أربعة ركائز ذكرها علماء الحقوق:

الركيزة الأولى: الموضوعات.

هي عبارة عن المجالات التي يتمتع الإنسان فيها بالحق، الأمن، الصحة، التعليم، الملكية وتقرير المصير، هذه هي الموضوعات أي المجالات التي يثبت للإنسان حق فيها بمقتضى لائحة الحقوق العالمية.

الركيزة الثانية: الشكل المنطقي.

الحق هو تزاوج بين الحرية والواجب، كل حق إذا قمت بتحليله تراه ينحل إلى ركنين: حرية وواجب، مثلا: عندما نقول للإنسان حق الملكية يعني أن الإنسان له الحرية أن يتملك الثروات بأساليب متعددة ولكن في نفس الوقت كما له الحرية عليه أيضا واجب وهو أن لايتعدى إلى أملاك الآخرين وأن لا يسلبها، أن لا يزاحم بملكه ملك الآخرين، إذن كل حق يتشكل من حرية وواجب وهذا ماورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”الحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها عند التناصف لايجري لأحد إلا جرى عليه ولا يجري على أحد إلا جرى له“.

الركيزة الثالثة: العقد الاجتماعي.

هو انتخاب المجتمع، تباني المجتمع الإنساني على هذه الحقوق، العقد الاجتماعي نقل المجتمع البشري من الفوضى والاستقلال إلى المجتمع المدني الذي تسوده لغة القانون فلا يعلو أحد فوق القانونولا يتميز أحد على غيره أمام القانون.

الركيزة الرابعة: السلطة.

دور السلطة حماية الحقوق، حماية الحريات، رفع التزاحم بين المصالح وبين الحقوق إذا حصل تزاحم فيما بينها.

 

المحور الثاني: المعيار الفلسفي لثبوت حقوق الإنسان.

الحديث في هذا المحور عن المعيار في ثبوت الحق وكيفية تطبيقه على ثروات الأرض، لذلك نذكر هنا ثلاثة ثوابت يعتمد عليها المعيار في ثبوت الحق:

الثابت الأول:

أن هناك فرقا بين العلة الفاعلية والعلة الغائية كما يقول الفلاسفة، الحق يحتاج إلى هذين العاملين، فالعمل علة فاعلية والهدف علة غائية، مثلا: الإنسان عندما يمارس الرياضة لأجل المحافظة على صحته إذن الرياضة علة فاعلية والصحة المطلوبة علة غائية، العمل علة فاعلية والهدف علة غائية، الإنسان يمارس الصلاة ليستحضر ذكر الله (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) الصلاة علة فاعلية وذكر الله المطلوب علة غائية، الحقوق تعتمد على هذين الركنين: علة فاعلية وعلة غائية.

مثلا: المرأة تلد بمجرد أن تلد يتكون اللبن في ثديها والغاية أن يصبح غذاء لهذا الطفل الوليد، إذن صارت علة غائية، الغاية والهدف من وجود هذه المادة اللبنية في ثدي المرأة أن توفر الغذاء لهذا الوليد، هذا هو الهدف، هذه هي العلة الغائية، إذن بهذه العلة الغائية ثبت أن للوليد حقا في اللبن، إنما ثبت له حق في لبن أمه لأن الغاية من وجود لبن أمه هو توفير غذاء له، نحن الآن نحتاج إلى علة فاعلية، بمجرد أن يقرب فم الطفل من ثدي أمه بطريقة غريزية يمد فمه ويلتقم اللبن من ثدي أمه، يعني أن هذه العملية تعتبر علة فاعلية من خلالها يستوفي حقه من الغذاء، إذن هذا الحق اعتمد على ركنين: علة غائية أن الهدف من وجود اللبن غذاء الطفل، وعلة فاعلية مايقوم به الطفل من عملية الامتصاص هي عمل يريد به استيفاء حقه في هذا الغذاء، فالحق اعتمد على علة غائية وعلة فاعلية.

الثابت الثاني: هل أن الطبيعة التي نعيش فيها طبيعة هادفة؟

كيف نقول أن للإنسان حق في ثروات الطبيعة، من أين؟ من أين للإنسان حق في طاقات الطبيعة، بترول، غاز، وسائر الطاقات والمعادن، من أين أتى هذا الحق؟ لأن الطبيعة خلقت هادفة، لأن الطبيعة خلقت ذات غايات، وذات أهداف.

بعد الانفجار العظيم مايقرب من أربعمائة مليون سنة الكون كان يعيش ظلام، ثم تولدت نجوم عملاقة وضخمة لم تعمر طويلا، وإنما ولدت وأنتجت عناصر أثقل من العناصر البدائية البسيطة كالهيدروجين والهيليوم، أي انفجرت هذه النجوم العملاقة ونثرت ونفثت هذه العناصر في الفضاء، وبسبب الجاذبية تشكلت كواكب وجسيمات صلبة، فالمجرات الموجودة الآن لم تأتي إلا بعد سبعة مليار سنة من الانفجار، يعني أن هذه المجرات تعتبر الجيل الثالث للنجوم، نجوم تعاقبت وانفجرت إلى أن وصلنا إلى الجيل الثالث، هذه المجرات التي نعيشها، هذه المجرات أيضا جاءت من تلك العناصر الثقيلة، تشكلت بسبب الجاذبية، فالشمس التي نحن نعيش عليها، نحن نعيش على ضوئها ودفئها وحرارتها، هذه الشمس من أين أتت؟ هي نفسها، هذه الشمس التي أتت بعد ثمانية مليار سنة من الانفجار تقريبا هي خليط من تلك العناصر التي نفثتها النجوم العملاقة، تكونت الشمس ببركة الجاذبية وكونت حولها بنات لها، ماهي بناتها؟ عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، زحل، أورانوس، نبتون... إلخ هذه كلها تكونت حول الشمس من الشمس نفسها، فالأرض بنت الشمس انفصلت عنها وبردت وبعد مئات الملايين من السنين دبت الحياة على الأرض، بدأت تلك الخلية، أول خلية حياة على الأرض من الماء ونوع من الطين، تؤكد الدراسات العلمية الآن أن الخلية الحية تكونت من الماء ونوع معين من الطين (وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) بدأ الإنسان وبدأ خلق الإنسان من طين، الآيات المباركات تؤكد على هذه النقطة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) الصلصال هو الماء الممتزج بالطين، وفي آية أخرى: (إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ).

هذه السلسلة من أول يوم من الانفجار إلى أن تكون الإنسان، إذا قرأها الإنسان العاقل ماذا يفهم منها؟ ماذا يستنتج من هذا التسلسل؟ يستنتج الإنسان المتأمل الباحث من هذا التسلسل عدة نتائج:

النتيجة الأولى:

أن الطبيعة هادفة ولم تأت جزافا، بل تخطيط من مرحلة إلى مرحلة إلى أن تهيأت الحياة على الأرض وجاء هذا الإنسان العملاق الذي سيطر على الطبيعة والفضاء كله بتخطيط وعبر مراحل، إذن الطبيعة هادفة (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ*مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) وقال في آية أخرى: (وما خَلَقْنَا السماء وَالأرض وما بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ*لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ) إذن لايوجد لعب ولا يوجد جزاف مسألة هادفة، الطبيعة هادفة، يعني اجتمعت العلة الفاعلية والعلة الغائية، العلة الفاعلية الله بقدرته صنع هذا التسلسل، والعلة الغائية أن هذا التسلسل جاء من أجل ولادة الحياة على الأرض، وولادة الإنسان الحي على الأرض ليقوم بإعمار الكون وإعمار الأرض.

النتيجة الثانية:

أن هذه الأرض أمنا، الأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا ومنها نولد، هذه الأرض ضمت كل عناصر الكون، فالإنسان الذي هو ابن الأرض ضم كل عناصر الكون ”أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر“ هذا الإنسان يختصر الكون كله، يختصر الوجود كله، وهذا المعنى أشارت له الآية القرآنية: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ).

النتيجة الثالثة:

 

أن هناك علاقة أسرية بين الإنسان وبين الطبيعة، خلقت الطبيعة له وخلق هو للطبيعة يكمل بعضهما بعضا، لولا الطبيعة ماولد الإنسان، ولولا الإنسان ماولدت الطبيعة، هو لها وهي له، كل منهما يكمل الآخر، إذن هناك علاقة أسرية أشار إليها القرآن الكريم في قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) وقال: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا).

النتيجة الرابعة:

بما أن هناك علة غائية، يعني أن الهدف من وجود الطبيعة خدمة الإنسان، إذ للإنسان حقوق في الطبيعة وثرواتها وكنوزها، ذكر الإمام أمير المؤمنين  كيف أن للإنسان حق في هذه الأرض وثرواتها، قال: ”من أحيا أرضا مواتا فهي له وعليه طسقها يؤديه إلى الإمام“، كان هناك رجلان يلحقان طيرا، أحدهما استطاع أن يقبض على الطير والآخر ينظر، فقيل لمن الطير؟ قال : ”للعين مارأت ولليد ماأخذت“ المسألة مسألة جهد، مسألة عمل، من عمل وصل إلى نتيجة عمله وملك نتيجة عمله.

الثابت الثالث: مسألة الملكية.

كيف يعالج الإسلام هذه المسألة، وكيف نظر إليها النهج العلوي للإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب ؟ عندما نرجع إلى كتاب «اقتصادنا» للسيد الشهيد السعيد سيد محمد باقر الصدر صفحة 308 عندما يتحدث حول جهاز التوزيع، فثروة الأرض للإنسان، فكيف يتم توزيع هذه الثروة؟ أي ماهي أدوات توزيع الثروة؟ يشير إلى نقطة فيها خلاف بين المذهب الرأسمالي وبين المذهب الإسلامي، كلاهما مذهب اقتصادي، هذا الخلاف حول الحاجة، هل الحاجة أداة إيجابية لاكتساب الثروة أم أنها أداة سلبية؟

المذهب الرأسمالي يقول بأن الحاجة أداة سلبية، عامل سلبي في اكتساب الثروة، فالمذهب الرأسمالي يعتبر الإنسان سلعة تخضع لقانون العرض والطلب في السوق، فيقول كلما زادت الحاجة زادت الأيدي العاملة في السوق، وإذا زادت الأيدي العاملة في السوق وقل طلب الشركات ورؤوس الأموال صار العرض أكثر من الطلب، العمال أكثر من الحاجة، وإذا زاد العرض على الطلب قلت الأجور، صار لكل عامل أجر ضئيل، وكلما زادت الحاجة وزاد عدد العمال قل الأجر إلى أن يصل إلى حد أن العامل لايستطيع أن يوفر قوت يومه، إذن صارت الحاجة عامل سلبي في اكتساب الثروة، لم تصبح الحاجة عاملا إيجابيا في اكتساب الثروة، وهذا هو المنظور الرأسمالي.

أما المنظور بالمذهب الاقتصادي الإسلامي يقول بأن الحاجة عامل إيجابي، فهناك أداتان لاكتساب الثروة:

 

الأداة الأولى: العمل.

فالإنسان إذا أنتج عملا امتلك نتيجة عمله، سواء كان عمله استخراج المادة كأن يستخرج البترول من الأرض ويقوم بتصفيته ويحوله إلى مادة قابلة للانتفاع والاستهلاك، أو كان عمله تطوير المادة، فالحديد مادة يحوله إلى سيارة، أو إلى جهاز آخر، ورد عن أمير المؤمنين علي : ”من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه“ أنت وعملك وكفاءتك العملية، ”قيمة كل امرء مايحسنه“ كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي ، لذلك عندما نقول أن الإنسان يملك نتيجة عمله فهذا شيء طبيعي في الإنسان، الحق كما يقول علماء القانون منتزع من طبيعة الإنسان، فأقوى غريزة لدى الإنسان هي غريزة حب الذات، من الغرائز المتفرعة على غريزة حب الذات هي غريزة التملك والسيطرة، وبما أن للإنسان غريزة التملك والسيطرة، فالإسلام أعطاه حق التملك بمقدار مايعمل وماينتج تلبية لهذه الحاجة الغريزية الموجودة لدى الإنسان، إذن العمل أداة من أدوات توزيع الثروة، يعطى من الثروة بمقدار ماأنتج.

الأداة الثانية: الحاجة.

الناس ثلاث فئات: فئة تملك قدرة عقلية وقدرة فنية وطاقة جبارة تستطيع أن تكتسب ثروات هائلة أكثر من حاجتها السنوية، هذه الفئة تكتسب الثروة بعملها وإنتاجها، والفئة الثانية لديها طاقة لكن لاتمتلك الطاقة الكبرى فلا تستطيع بطاقتها إلا أن تكتسب مقدار قوتها وحاجتها السنوية أو الشهرية أو اليومية، وهناك فئة لاتمتلك طاقة، إما لشلل عقلي، وإما لشلل بدني، فهو لايمتلك طاقة إذن لايمتلك عمل فكيف يكتسب ثروة؟ وماهو طريقه لاكتساب الثروة؟ من هنا كانت الحاجة أداة لاكتساب الثروة كما أن العمل أداة لاكتساب الثروة، هذا الإنسان المشلول له نصيب من ثروات الأرض (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) هذا الإنسان المشلول له نصيب من الثروة، وكيف يصل إلى نصيبه؟ عبر الحاجة، عبر الضمان الاجتماعي، يجب أن توفر الدولة ضمانا اجتماعيا يكون طريقا لاكتساب هذا المشلول للثروة، وهذا ماكان يؤكد عليه الإمام أمير المؤمنين ، الإمام علي  في البصرة رأى رجلا يتسول ويتكفف الناس، قال: «ماباله يتسول؟» قالوا: هذا نصراني خدم وكبر إلى أن عجز عن العمل فأصبح يتسول، قال: «ويحكم! استخدمتموه حتى إذا كبر وعجز عن العمل تركتموه يتكفف الناس! أعطوه من بيت مال المسلمين». هو نصراني لكن يعطى من الخزينة من بيت المال يعطى من الضمان الاجتماعي لأن الحاجة أداة من أدوات اكتساب الثروة، إذن من هنا نفهم أنه ليس فقط العلة الفاعلية طريق لاكتساب الثروة أي العمل، قد تكون العلة الغائية أيضا طريقا لاكتساب الثروة وهي الحاجة بما انه يحتاج إلى جزء من الثروة والثروة خلقت لإشباع حاجته فله حق في الثروة نفسها.

تحدثنا عن الملكية ببعدها الاقتصادي، لكن عندما نأتي للملكية ببعدها القيمي، ببعدها الأخلاقي فكيف يراها الإمام أمير المؤمنين علي ؟ الملكية ببعدها القيمي والأخلاقي ترجع إلى ماذكره القرآن الكريم هناك آيتان في القرآن إذا تأملنا فيهما وجدنا أن الملكية الشخصية ماهي إلا أداة لخدمة الملكية العامة ليس إلا، القرآن الكريم يقول: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) ثروة السفيه لاتسلم له لأنه مبذر ومسرف إذن هذه الثروة تسلم لمن؟ تسلم للأوعياء العقلاء الذين يستثمرون هذه الثروة وينموها لتكون وسيلة للملكية العامة (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) يعني أموال هؤلاء هي قيام لكم ولاقتصادكم، قيام لثروتكم ومعيشتكم، هذا معناه أن الملكية الشخصية ماهي إلا أداة لخدمة الملكية العامة، لذا لاتظن أنك لو امتلكت عقارات وشركات أنها ملك لك وحدك بل كل ماأعطيت من ملك ماهو إلا أداة لخدمة المصلحة والملكية العامة لتوفير العيش الكريم للمجتمع بأسره لذلك قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) من هذا المنطلق ركز الإمام علي  على هذا البعد أن الملكية الفردية أداة للملكية العامة، قال علي : ”ماجاع فقير إلا بما متع به غني“ هذه الثروة ملك للجميع هذا حاز أكبر من حاجته بقي الآخر يحتاج إلى جزء من الثروة ”وماوجدت نعمة موفورة الا والى جانبها حق مضيع“ الإمام علي  دقيق عندما يقول: ”إن معايش الخلق خمسة: الأمارة، والعمارة، والتجارة، والإجارة، والصدقات، فأما وجه العمارة فقوله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) فأعلمنا سبحانه وتعالى أنه قد أمرهم بالعمارة ليكون سببا لمعايشهم بما يخرج من الأرض“ وقال : ”اتقوا الله في عباده واعلموا أنكم مسؤولون حتى عن البقاع“ فالأرض أو البقعة التي تسكن عليها أنت مسؤول عن تنبيتها وعن صحتها وسلامتها، أنت مسؤول عن إعمار الأرض وعن سلامة الأرض من الأوبئة والتلوث، أنت مسؤول في معالجة التغير المناخي والاحتباس الحراري، مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، وقال علي : ”لكل ذي رمق قوت“.

المحور الثالث: الشخصية القانونية الحقوقية في نهج الإمام علي ابن أبي طالب .

علي  مصدر الحقوق ورؤية علي  للكون وللإنسان رؤية حقوقية تتجلى في عدة مجالات، هناك دراسة صادرة من جامعة أهل البيت  في مجلة جامعة أهل البيت  الحقوق والحريات في منظار علي ابن أبي طالب ، هناك عدة حقول ومجالات لهذه الحقوق التي رسمها الإمام أمير المؤمنين علي :

المجال الأول: المجال الشخصي.

ماهي الحقوق الشخصية؟

الصورة الأولى: حق الإنسان في الحياة.

من القصص الغنية بتراث أمير المؤمنين  جيء إلى الخليفة بامرأة زانية والعياذ بالله وهي محصنة وكانت حامل، شهدوا عليها وثبتت عليها جريمة الزنا، أمر الخليفة برجمها، فقام إليه علي ابن أبي طالب  وقال له: «إن كان لك سبيل عليها فأي سبيل لك على مافي بطنها؟» قال: فماذا أصنع؟ قال: «دعها حتى تلد ثم ترضع فإذا وجدت لولدها من يكفله رجعت إليك ثم أقم عليها الحد». هكذا المحافظة على حق الحياة هذا الجنين له حق الحياة وبعد الحياة له حق الكفالة.

ومن القصص الأخرى أن أبو موسى الأشعري كتب إلى الإمام إن أبي الجسر دخل على امرأته فوجد عليها رجلا فقتله، فماذا نصنع؟ فقال : «إن جاء بأربعة شهود يشهدون على ماقال وإلا دفع برمة الرجل» - أي يدفع دية الرجل الذي قتله -. فليس كل من ادعى هذه الدعاوى يؤخذ بها فحق الحياة حق لايتغاضى عنه ولا يتنازل عنه، لذلك الإمام أمير المؤمنين  نص على هذا الحق.

الصورة الثانية: حق الإنسان في سمعته.

في هذه الأيام كل شخص يستخدم وسائل التواصل للتنفيسعن نفسه سباب وقذف الآخرين واستعراض لسمعة الآخرين وحرماتهم بدون حدود وأدب، بدون أي ضوابط قانونية أو شرعية.

الإمام أمير المؤمنين  اتخذ قانون في هذا المجال أي إنسان يعتدي على سمعة إنسان آخر يعزر حفاظا على حرمات الناس، وعلى كرامة الإنسان التي قال عنها الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

الصورة الثالثة: حق الإنسان في الثروة.

الإمام علي  بمجرد أن استلم الخلافة ساوى بين المسلمين في العطاء، لافرق بين القرشي وغيره، إذا كان مسلم أسود أو أبيض، عربي، موالي لايوجد فرق، ساوى بينهم في العطاء وألغى الامتيازات التي كانت لقريش على غيرها، وللعرب على غيرهم، وللمهاجرين والأنصار على غيرهم، كل هذه الامتيازات ألغاها، صعد وخطب على المنبر في أول يوم، أول خطبة خطبها بعد استلامه الخلافة، قال: «أيها الناس أنتم عباد الله والمال مال الله يقسم بينكم بالسوية لافضل لأحد فيه على أحد». جاء رجل من الأنصار ومعه عبد له أعتقه وجاء به إلى المسجد والإمام  يوزع بيت المال، يوزع الخراج، أعطاه ثلاثة دراهم وأعطى لعبده ثلاثة دراهم، ساوى بينه وبين عبده، فاعترض على الإمام  قال: ياأمير المؤمنين كيف تساوي بيني وبين عبدي، تعطيني ماأعطيته وأنا سيده لم أعتقه إلا قبل يومين! قال : «ياهذا لقد نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلا»، وقال: «أيها الناس إن آدم لم يلد عبدا ولا أمة وإن الناس كلهم أحرار ولكن الله خول بعضكم بعضا».

المجال الثاني: الحقل السياسي.

ماذا وضع الإمام أمير المؤمنين علي  في مجال السياسة من الحقوق؟

أولا: حق التعبير عن الرأي.

أكبر فرقة واجهت الإمام هي فرقة الخوارج، قاتلوا الإمام وحاربوه ومع ذلك الإمام أعطاهم حق التعبير عن الرأي، فالإمام علي  خاطب الخوارج عندما ظهروا أمامه وخالفوه وقال: «لكم علينا ثلاث: أن لانمنعكم مساجد الله تذكرون فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم معنا ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا»

هناك مجموعة امتنعوا عن مبايعة الإمام علي  ومنهم سعد ابن أبي وقاص لم يبايع الإمام علي  وجاء الناس به وقالوا له: بايع فقال: لا حتى يبايع الناس، فقال الإمام علي : «خلوا سبيله»، وعبد الله ابن عمر لم يبايع الإمام علي ، جيء به قالوا له: بايع، فقال: لا حتى يبايع الناس، قالوا: ائتنا بكفيل يضمن أنك تبايع إذا بايع الناس، قال: لاأرى لي كفيلا، فقال الإمام علي : «دعوه فأنا كفيله»، لم يرغم أحد على بيعته ترك لهم المجال يعبرون عن رأيهم وإن اختلفوا معه في طريقة الحكم.

من صور الحقل السياسي التي أبدعها علي ابن أبي طالب  اليوم لدينا في كل دولة سلطة تشريعية مضافا للسلطة التنفيذية أي أن القانون تطور في المجتمع البشري وفصل بين السلطات، سلطة تشريعية، وسلطة قضائية، وسلطة تنفيذية، السلطة التشريعية هي مجلس الشورى، هي مجلس الأمة، بتعبيرات مختلفة، هذه الفكرة طرحها الأمام أمير المؤمنين علي  عندما قال في العهد لمالك الأشتر: ”وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء في تثبيت مايصلح عليه أمر بلادك وإقامة مااستقام به الناس قبلك“

المجال الثالث: الحقل الاقتصادي.

ماهي الحقوق التي وضعها الإمام أمير المؤمنين  في المجال الاقتصادي؟

الحق الأول: حق الإنسان في أن يتملك نتيجة عمله ”من أحيا أرضا مواتا فهي له“، ”من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه“.

الحق الثاني: أن الدولة وظيفتها حماية الملكيات والأموال، لذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علي  في هذا المجال: ”إن لي عليكم حقا ولكم علي حق فأما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم“، وقال: ”الناس كلهم عيال على الخراج“ كل إنسان له نصيب من بيت المال.

المجال الرابع: الحقل الاجتماعي.

الإمام علي  اهتم كثيرا بموضوع الحاجة الجنسية والعاطفية كحق اجتماعي للأمة وللمجتمع الذي عاش فيه، نذكر هنا بعض الموارد التي تعرفنا بمدى اهتمام الإمام  بتغطية هذه الحاجة، جاءت امرأة إليه وهو جالس مع أصحابه وقفت على رأسه وقالت: ماترى أصلحك الله وأثرى لك أهلا في فتاة ذات بعل أصبحت تطلب بعلا بعد إذن من أبيها، أترى في ذاك حلا؟ استغرب من كان معه، قال لهم : «أمسكوا»، فقال لها: «أحضري لي زوجك» فحضر زوجها فطلقها منه وزوجها برجل آخر، فقيل له: كيف؟ قال: «إن زوجها لايقدر على وصالها فشكت منه» فالإمام كان يراعي حاجة هذه المرأة للإشباع سواء كانت حاجة جنسية أو حاجة عاطفية، ربما كان الرجل عننين أوعاجز عن هذا الأمر فاحتاجت المرأة إلى رجل آخر فطلقها من زوجها وزوجها رجلا آخر.

وفي قصة أخرى، عبدالله ابن أبي بكر زوجته عاتكة بنت زيد ابن نفيل في وصيته قال أعطيك بستانا في الطائف على أن لاتتزوجي بعدي أحدا، فمات زوجها واحتاجت إلى الزواج وزوجها عاهدها قال أعطيك بستانا في الطائف على أن لا تتزوجي بعدي أحدا، فجاءت إلى الخليفة تستفتي ماذا تصنع وهي محتاجة إلى الزواج فاستفتى الإمام أمير المؤمنين علي  فقال الإمام: «ترد البستان إلى أهله وتتزوج» ردت البستان إلى ورثة عبد الله ابن أبي بكر وتزوجت.

ووجد شابا يستمني بيده، فضربه على يده وزوجه من بيت مال المسلمين، فكان يعنى بتغطية هذا الأمر، مجتمعنا الآن يعيش مشكلة الزواج فالشاب إلى مابعد الثلاثين من عمره لايستطيع أن يتزوج لثقل تكاليف الزواج، ولا يوجد جهة تتعهد بمساعدته وإعانته، بتوفير بعض تكاليف الزواج له، بالتأخر في الزواج تنتشر الأمراض، تنتشر ألوان الشذوذ وتنتشر العلاقات غير المشروعة.

إذن الإمام علي  صورة رائعة للشخصية الحقوقية، صورة جذابة في تاريخ الإنسان للمجتمع الإنساني في كونه شخصية حقوقية نهجا وعملا وسلوكا، الإمام أمير المؤمنين علي  قال: ”ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعامه بقرصيه ألا وإنكم لاتقدرون على ذلك ولكن أعينونا بورع واجتهاد وعفة وسداد“ وقال: ”لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات أن يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل باليمامة أو الحجاز من لاعهد له بالشبع ولاطمع له بالقرص أأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر“.