اغتصبوا «الغدير».. لماذا لم يحارب الأئمة (ع) الحكام لاسترداد الخلافة؟

من الأمور الفطرية التي ظهرت كقوانين حاكمة على البشرية هي إدارة امور الاسرة ثم توسعت بتوسع المجتمع البشري فمع اتساعه الى قرية ومدينة ظهرت الحاجة الملحة الى إدارة شؤون المدينة وبرزت التشريعات وسن القوانين وما يذكر من تشريعات الأمم السالفة كالحضارة في بلاد وادي الرافدين والمناطق المجاورة لها انطلقت النواة الأولى لتكوين الدولة وصارت على ما هي عليه اليوم من أنظمة وقوانين تحكم المجتمع البشري من تنظيم الأمور الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعسكرية وبقية الأمور.

ولا يخفى على كل مسلم ان دين الإسلام هو دين الفطرة التي فطر الناس عليها لذا تجد ان الإسلام يؤكد على هذه الحقيقة في اية استخلاف الانسان لهذه الأرض واستعمارها وان صلاح الناس هو بالدولة وتنظيم شؤونهم وخير مثال على تأسيس وتأطير احكام الدولة بصيغتها الأولية ما صنعه النبي الاكرم صلى الله عليه واله حينما قدم مهاجرا من مكة الى المدينة فأول عمل قام به هو تنظيم شؤون الرعية التي هي النواة الأولى لتأسيس دولة الحق وهذه نقطة مهمة ان الله اعطى مواصفات خاصة لمن يتراس هرم الحكم في الإسلام صحيح ان إدارة شؤون الناس من الأمور العقلائية وجاء الإسلام واقر الكثير منها ولكن الله سبحانه وتعالى يريد ان يصل بالبشرية الى درجة السعادة والاستخلاف الحقيقي في الأرض لذلك امرنا بالرجوع الى من امر بطاعتهم واتباعهم " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا"[1] فمن المسلم به عند المسلمين ان القائد لدولة الإسلام هو النبي الاكرم محمد صلى الله عليه واله " النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ...[2]"  وان الاحق بالحكم لتمثيل الله في الأرض لان الحاكمية لله سبحانه وتعالى فجعل لمن يمثله مميزات خاصة لكي تكون هذه الحكومة خالية من الظلم والفساد حكومة عادلة و من نصبه النبي في حياته على انه خليفة له من بعده واخذ البيعة له من المسلمين وهو سيد الوصيين  عليه السلام في بيعة الغدير[3]. ولكن الامة انقلبت على اعقابها يوم السقيفة بعد شهادة النبي الاكرم صلى الله عليه اله فانحرفت عن الخط ا لذي رسمه النبي صلى الله عليه واله للامة من بعده وكان ذلك بداية الشؤوم والانحراف الطويل وبداية الظلم والفواجع والماسي في كل النواحي حيث ورد في الزيارة الجامعة:

" ببيعتهم التي عم شؤمها الاسلام وزرعت في قلوب اهلها الآثام وعقت سلمانها وطردت مقدادها ونفت جندبها وفتقت بطن عمارها وحرفت القران وبدلت الاحكام وغيرت المقام واباحت الخمس للطلقاء وسلطت اولاد اللعناء على الفروج وخلطت الحلال بالحرام واستخفت بالإيمان والاسلام وهدمت الكعبة واغارت على دار الهجرة يوم الحرة وابرزت بنات المهاجرين والانصار للنكال والسؤة والبستهن ثوب العار والفضيحة ورخصت لأهل الشبهة في قتل اهل بيت الصفوة وابادة نسله واستئصال شافته وسبي حريمه وقتل انصاره وكسر منبره وقلب مفخره واخفاء دينه"[4].

فاقصي الائمة عن الحكم وانحرفت الامة عن مجرى الرسالة الإلهية فهنا يتبادر في اذهان الكثير من الناس الذين ينظرون الى الائمة عليهم السلام بانهم مظلومون لماذا اتخذوا جانب السكوت وعدم المطالبة بحقهم في الحكم فان الحق يؤخذ بحد السلاح لا بالسكوت وتحمل اشد أنواع الظلم والعذاب نقول هذا التفكير خاطئ لأنه ينظر الى الأمور من ناحية سلبية فإننا اذا نظرنا الى حياة الائمة عليهم ودرسناها بصورة كلية لراينا ان المعصوم يتحرك في محور رئيسي وهو الحفاظ على الإسلام سواء كان على راس السلطة التي هي من حقه او كان خارجها ولذلك المعصوم لا ينظر الى الحكم بشكل شخصي بقدر ما كانت المسالة مصلحة الإسلام والرسالة فمن اجل حفظ بيضة الإسلام ، فإقامة الدولة بنظرهم عليهم السلام  لا يتوقف كما يتوهم البعض على حمل السلاح ومحاربة مغتصبي حقهم في الحكم بل على العكس من ذلك وقد بينوا ان الامر يتوقف على اعداد جيش عقائدي يؤمن بالمعصوم ايمانا مطلقا وبرسالته التي تحقق الأهداف الإلهية فنجد ان امير المؤمنين عليه جلس في بيته "  «لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت امور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة"[5]

فعلى الرغم من غصب مقام الخلافة من الائمة عليهم السلام الا انهم كانوا يحملون مسؤولية عظمى هي الحفاظ على الرسالة والأمة الإسلامية من الانهيار الى الهاوية فمن تأمل في حياتهم عليهم السلام وتنوع ادوارهم يلاحظ الجانب المشترك هو الحفاظ على الهوية الإسلامية من الضياع والحفاظ على صورة الإسلام من الانمحاق التام فنرى الامام علي عليه السلام يتصدى للانحراف وتعرية الحكام عن زيف دعواهم واذا سالت عن توليه الحكم فنقول انه وجد المصلحة في ذلك حيث وجد العدة والعدد لنصرة الإسلام فنحن لو طالعنا حياة الائمة عليهم السلام نجد ان الأدوار مختلفة لكن الهدف واحد نجد ان الامام الحسن عليه السلام صالح معاوية  من اجل الحفاظ على الإسلام والحفاظ على النخبة من الصحابة التي حملت على عاتقها نشر مفاهيم الإسلام الصحيح [6]

وفي موقف اخر حين تعرض الإسلام لخطر محدق يمحي هويته نرى ان الامام الحسين عليه السلام انبرى للدفاع عن الإسلام وهو يعلم ان مصيره القتل لم يكن طالبا للحكم فإنه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا ما لهم في الأرض شبيهون[7] مع ثلة مؤمنة الذين وصفهم الامام الحسين عليه السلام أما بعد: فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا"[8]. فنجد منهم عليهم السلام موقف المعارض للسلطة الحاكمة آنذاك

وفي جانب اخر نجدهم صلوات الله عليهم في موقف الناصح والمسدد لقرارات السلطة اذا صبت في مصلحة الإسلام اذا خيف على الامة من الانحراف والاضرار برسالة سيد المرسلين فنجدهم سواء في الجانب العسكري او الاقتصادي يدفعون بالامة الإسلامية الى بر الأمان فنجد الامام الباقر عليه السلام حينما هدد ملك الروم المسلمين بشان النقد المسكوك آنذاك فتكتب عبدالملك بن مروان في ذلك الى الامام الباقر عليه السلام وامرهم الامام الباقر بسك النقود داخل الأراضي الإسلامية بنقش سورة التوحيد في جانب وذكر رسول الله صلى الله عليه واله في جانب اخر وبذلك اعطى الامة الإسلامية الاستقلال في اهم جوانب الاقتصاد.[9]

وهكذا نجد تصديهم للجانب العقائدي حين تصيب الامة شبهة تزلزل اعتقادهم يتصدى المعصوم وهو في احلك الظروف وهذا ما رواه الراوندي في الخرائج "عن علي بن الحسن بن سابور قال: قُحط الناس بسر من رأى في زمن الحسن الأخير ( عليه السلام ) فأمر المعتمد بن المتوكل الحاجب وأهل المملكة أن يخرجوا إلى الإستسقاء ، فخرجوا ثلاثة أيام متوالية إلى المصلى يستسقون ، ويدعون فما سقوا . فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء ومعه النصارى والرهبان ، وكان فيهم راهب ، فلما مد يده هطلت السماء بالمطر! وخرج في اليوم الثاني فهطلت السماء بالمطر ، فشك أكثر الناس وتعجبوا وصَبَوْا إلى النصـرانية ، فبعث الخليفة إلى الحسن وكان محبوساً فاستخرجه من حبسه وقال: إلحق أمة جدك فقد هلكت !فقال له: إني خارج في الغد ، ومزيلٌ الشك إن شاء الله .

فخرج الجاثليق في اليوم الثالث والرهبان معه، وخرج الحسن ( عليه السلام ) في نفر من أصحابه فلما بصر بالراهب وقد مد يده ، أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده اليمنى ، ويأخذ ما بين إصبعيه ، ففعل وأخذ من بين سبابته والوسطى عظماً أسود ، فأخذه الحسن ( عليه السلام ) بيده ثم قال له: إستسق الآن . فاستسقى وكانت السماء متغيمة فتقشعت وطلعت الشمس بيضاء ! فقال الخليفة: ما هذا العظم يا أبا محمد؟ فقال: هذا رجل مر بقبر نبي من أنبياء الله ، فوقع في يده هذا العظم ، وما كشف عن عظم نبي إلا هطلت السماء بالمطر ) [10]

لكنهم في قبال ذلك كانوا يعدون المؤمنين لتحمل مسؤوليتهم في معارضة الظلم والاستبداد واستعدادهم لاستقبال دولتهم دولة العدل الإلهي على يد الحجة بن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف فهو الذي يقوم بالسيف ويطالب بحق ال محمد في الخلافة ويفتح الله على يديه مشارق الأرض ومغاربها عجل الله فرجه وسهل مخرجه وجعلنا من أنصاره وجنده ورزقنا الشهادة بين يديه انه سميع مجيب.

الهوامش:

[1] النساء:59.

[2] الأحزاب:6.

[3] انظر كتاب الغدير العلامة الشيخ الاميني

[4] المزار الكبير محمد بن المشهدي

[5]  نهج البلاغة (صبحي الصالح) الخطبة ٧٤ ص ١٠٢،بحار الأنوار ج ٢٩ ص ٦١٢ الرقم  ٢٧.

[6] انظر صلح الامام الحسن: الشيخ راضي آل ياسين

[7] عيون اخبار الرضا ج2 الحديث 58 ص  268 الحديث المشهور عن الامام الرضا الذي يرويه عنه الريان بن شبيب.

[8] الارشاد: الشيخ المفيد، ج2 ص91.

[9] انظر المحاسن والمساوئ للبيهقي ص467-469، وانظر البداية والنهاية 9/122.

[10] الخرائج:ج1، ص442