المرأة تتصدى فتنجح: امرأة فرعون وبلقيس أنموذجاً

قص القرآن الكريم بعض الأحداث ومعالم الحياة لأقوام وأشخاص من الأمم والمجتمعات السابقة. ولم يكن الهدف من هذه القصص تدوين التاريخ ولا التسلية، بل هو التعليم بذكر القدوة العملية في مجال الخير، وذكر أمثلة الانحراف والشر للتحذير منها. فهي أمثلة للعمل والاتباع وليست لمجرد المعرفة النظرية.

كما أن هذه القصص تمثل موقف الإسلام لموقع المرأة في نظام القيم والحقوق والواجبات، لذا فمن المهم التعرض لنماذج ممن ذكرهن القرآن الكريم كأمثلة للأقتداء، وقد عرض لذكر جملة من النساء اللاتي قمن بأدوار بارزة في مجتمعاتهن في مسيرة الإيمان والإصلاح، وقد حفلت التوراة والإنجيل بشواهد اخرى لا ريب في صدق بعضها وسلامة ما ورد في شأنها من التحريف.

وحفل تاريخ الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وآله والمعصومين والتابعين بنماذج من النساء المسلمات الاتي قمن بأنشطة تعبر عن مواهبن وكفاءتهن، كامرأة فرعون والسيدة مريم وابنتي شعيب وبلقيس ملكة سبأ ففي الوقت الذي قمن فيه بأعمال كبرى ومارسن أدواراً قيادية في شعوبهن ضاهين فيها الرجال ممن تصدوا للقيادة في شعوبهم، كن في الوقت نفسه مثالاً للانضباط والكمال في نطاق الأسرة والأمومة والزوجية.

وإذ نفحص عن سبب هذه المواهب والكفاءات فيهن، فإنا نجدها في الحصول على فرص الرجل في التربية والجو الاجتماعي وتيسير الحصول على الخبرات العملية المناسبة، والثقافة والتعليم المناسبين.

إن كل ذلك أدى الى ظهور المواهب والكفاءات العقلية والنفسية والزوجية الموجودة في المرأة بحسب الفطرة وأصل الخلقة، وتكاملها بحيث تتوازن في شخصية المرأة، كما يحدث ذلك بالنسبة للرجل الذي تتاح له هذه الفرص.

ونتعرض فيما يلي الى النسوة اللاتي ذكرناهن كأمثلة لمن قد قمن بأنشطة وتولين مسؤوليات في الحياة العامة، منها السياسي ومنها الاجتماعي والثقافي، ولم يقتصر دورهن على الحياة العائلية والأمومة والزوجية، والعبادة والنشاط الروحي. وقد قمن بهذه الأنشطة بماهن نساء يمثلن صنف المرأة لا استثناء من هذا الصنف. وقد جعلهن الله تعالى مثلاً للذين أمنوا رجالاً ونساءً.

امرأة فرعون مثال المرأة المجاهدة في سبيل الدعوة

قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ) التحريم: 11 ـ 12. إن الله تعالى جعل امرأة فرعون مثالاً للذين آمنوا (رجالاً ونساءً) يحتذى في وعي الدعوة والقيام بتبعات هذا الوعي بالانخراط في هذا الجهاد من اجل نشرها والدفاع عنها.

فقد كانت امرأة تعيش كسائر نساء أهل زمانها، وكانت في قمة المجتمع وفي مركز السلطة بكل ما يوفره هذا الموقع من سلطان وترف، وكانت محاطة بمظاهر القوة والسلطة التي يوفر وسائلها الحكم ورئاسة الدولة.

ولكنها مع ذلك كله، عندما تلقت الدعوة الإلهية و وعتها قامت بمسؤوليات الإيمان والتزاماته، لا على صعيد سلوكها الفردي فقط، بل على مستوى المجتمع، فتخلت عن موقعها المتميز وواجهت آلة السلطة، وقوى المجتمع السياسي الديني الوثني، في سبيل نشر الدعوة.

إن الله تعالى ضرب هذا المثل للرجال والنساء، وربما للرجال قبل النساء، في الالتزام العملي بقضايا الإيمان باعتباره صيغة لحياة المجتمع العامة ـ سياسياً واقتصادياً وكرامة ـ وليس باعتباره سلوكاً عبادياً شخصياً فقط، وهذا ما يدل عليه الالتزام، ما حكاه الله تعالى في قولها: (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

بلقيس ملكة سبأ: مثال المرأة الناجحة في قيادة الدولة وإدارة المجتمع

قال تعالى: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)النمل: 29 ـ 35.

قص الله تعالى في هذه الآيات سلوك ملكة سبأ تجاه تهديد خارجي باجتياح مملكتها الفتية: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) النمل: 23، ونلاحظ في هذا النص القرآني أن الملكة بلقيس جمعت الملأ، وعرضت عليه المشكلة الطارئة، وهي دعوة النبي سليمان الى الإسلام، وما يتضمنه من تهديد في حال الرفض. فلم تستقل برأيها في اتخاذ الموقف تجاه المشكلة وتفرض على أركان دولتها وعلى شعبها موقفاً استبدادياً، فهي لم تستسلم للتهديد، ولم تستجب للدعوة، وفي نفس الوقت لم ترفضها وتعلن التحدي، بل تصرفت بحكمة، وعبرت بتصرفها عن وعي عميق للمسؤولية، فعقدت مجلس شورى: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) النمل: 32، ويبدو انهم توصلوا الى أن مملكة سبأ قادرة على مقاومة الغزو والدفاع عن نفسها، وهذا يعكس ـ فيما يبدو ـ موقفاً سلبياً من دعوة النبي سليمان عليه السلام، يقوم على رفض التهديد والدخول في الإسلام. فكانت حصيلة المشاورات قول أركان الدولة: (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) النمل: 33، إلا أن الملكة عبرت عن حكمة وشعور بالمسؤولية، فلم تتصرف باندفاع انفعالي، بل بنت موقفها على رؤية سياسية حضارية. فشخصت طبيعة السلطة الطاغوتية الفرعونية التي يمارسها ملوك الدول المعاصرة لمملكة سبأ على شعوبهم وعلى من يستضعفونه من الدول الأخرى، وهي طبيعة لا يجوز الاستسلام لها والخضوع لمطالبها: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) النمل: 34، فالقرار المبدئي هو قرار المقاومة والدفاع.

ولكنها لاحظت أمراً غفل عنه قومها في طبيعة رسالة سليمان عليه السلام انه عنونها (بسم الله الرحمن الرحيم) وهذا يؤكد أن سليمان ليس ملكاً طاغية كغيره من الملوك في ذلك العصر، وهذا يقتضي التريث في اتخاذ القرار، والقيام باختبار سياسي لمعرفة حقيقة الدعوة، وانها دعوة للاستلحاق والاستعباد، او أنها دعوة من سنخ آخر تقتضي حواراً سلمياً، ولا تقتضي المجابهة والحرب، فقالت للملأ: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) النمل: 35، وكانت عاقبة ذلك أن اكتشفت بلقيس وقادة المملكة أن دعوة سليمان لا تهدف الى الاستيلاء والاستحواذ واحتلال دولتهم، فآمنت واتبعت هدى الله، وجنبت بلادها وقومها الحرب والدمار والقتل والبوار.

إن هذا المثال يكشف عن أن شخصية المرأة مؤهلة للحكم والقيادة كالرجل، وأنها كالرجل أيضاً يمكن أن تقود الى خير ويمكن أن تقود الى شر، بل هي نتيجة تربية خاصة وثقافة معينة درجت بعض المجتمعات عليها.

بل قد صرح القرآن الكريم أن وضع بلقيس السابق على الإيمان كان نتيجة مناخ ثقافي خاص، ولم يكن نتيجة قصور ذاتي فيها، قال تعالى: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ....... قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) النمل: 42 ـ 44.