تحدّيات خطيرة تواجه الأسرة السعيدة

قال سيدنا ومولانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( ما بُني في الإسلام بناء أحب إلى الله من التزويج ) مكارم الأخلاق : ص ١٩٦ آمنا بالله صدق سيدنا ومولانا رسول الله (صلى الله عليه وآله).

نتحدث في هذه الليلة حول الأسرة السعيدة المتماسكة ، والتحديات المعاصرة ، ونتحدث في هذا الموضوع ضمن نقاط ثلاث :

النقطة الأولى : في أهمية الأسرة .

النقطة الثانية : في ذكر بعض التحديات الخطيرة .

النقطة الثالثة : في ذكر بعض الأمور المهمة في بناء الأسرة ، واستمرارها بنحو متماسك .

أهمية الأسرة:

النقطة الأولى: من الواضح جدّاً أن الأسرة أمر مهم، ومهم جداً ،فالأسرة هي البناء الأساسي للمجتمع ، والحاضنة الأولى التي تتلقى الفرد بالتعليم، والتربية ، والتنشئة ، و إذا كانت الأسرة سليمة فإنه سوف يكون المجتمع سليماً ، و إذا كانت تعاني من مشاكل داخلية و تصدعات في علاقتها فإن ذلك سينعكس على المجتمع بشكل عام، فإن نسبة الأسرة إلى المجتمع كنسبة الخلية إلى جسم الإنسان، فإن الخلايا هي البنى الأساسية لتُكون الجسم ، و الجسم يتأثر بالتفاعلات الموجودة داخل الخلايا ، و سلامة الجسم تابعة لسلامتها ، وسقمه تابع لسقمها ، و الأمر كذلك بالنسبة للأسر والمجتمع بشكل عام ، فإذا أردنا صلاح المجتمع فلابد أن تنصلح الأسرة.

أمران يبينان الأهمية:

وقد أكدت تعاليم الإسلام على أهمية الأسرة بذكر أمرين :

الأمر الأول : هو عظم الأسرة ، فالباري (تبارك و تعالى) في القرآن قد أمتن بنعمة قابلية إنشاء أسرة و وجودها يقول تعالى: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } النحل 72 ، فهذه منة ونعمة يذكرها الله (تبارك و تعالى) في كتابه ، و يتمن بها على خلقه.

يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( ما بُني بناء في الإسلام أحب إلى الله من التزويج)، و بمقتضى هذه الرواية ا إذا كان عند لأعزب أموال ، ودار الأمر بين أن يبني بها مسجداً أو يتزوج، فالأحب إلى الله تعالى أن يتزوج ؛ لأنه ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله من التزويج .

الأمر الثاني : هو الغرض من التزويج ، وفوائده ، وتوجد فوائد كثيرة بيّنتها النصوص الشرعية:

الفائدة الأولى : تلبية نداء الفطرة ، فإن الإنسان فطر على أن يميل إلى تكوين أسرة ، و أن يكون عنده أبناء ، يقول (تبارك وتعالى): { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} الروم 21 ، و نداء الفطرة لا يمكن أن يسكن ويستقر إلّا في ظل الأسرة، فالأسرة سكن للمشاعر والأحاسيس واستقرار للنفس ، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (من أحب فطرتي استن بسنتي ومن سنتي النكاح ) غوالي اللآلئ: ج3 ص 283 النكاح فطر إلهية ، فطر على أصل إنشاء الأسرة، و فطرة على طلب الذرية بواسطة الأسرة ، قال تعالى: ﴿ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ﴾ الأنبياء 89، { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } الفرقان 74 ، فطلب الذرية فطرة ، وإشباع الفطرة بالنحو المرضيّ إنما يكون في ظل الأسرة .

الفائدة الثانية : هي استقامة الإنسان ، فغرائز الإنسان خصوصاً الغريزة الجنسية تضغط عليه و تُفقده التوازن على مستوى التفكير و المشاعر والإرادة ، وعلى مستوى العمل ، و بالزواج وتكوين الأسرة يتحصل الإنسان على الاستقرار من جهة ضغط الغراز ، ولعله لهذا روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ( من تزوج فقد أحرز نصف دينه فيتق الله في النصف الباقي ) ميزان الحكمة :ج ٢ ص ١١٧٩، فبالزواج يستطيع أن يُحقق نصف الاستقامة ؛ لأنه تخلص من ضغط الشهوة والغريزة ، استطاع أن يتوازن نحواً من التوازن ، فيتق الله في النصف الباقي .

و لاحظوا استعارة القرآن للفظ (اللباس) ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ البقرة : 187 ، فإن (اللباس) يقوم بثلاث وظائف :

الوظيفة الأولى : الستر

الوظيفة الثانية : التجمل والتزين .

الوظيفة الثالثة : الحفظ والوقاية من الحر أو البرد .

و كل واحد من الزوجين بالنسبة إلى الآخر يقوم بهذه الوظائف الثلاث ، فكل واحد ي ستر للآخر، يُفضي إليه بمشاعره و أحاسيسه ،و أيضاً هو زينة ، المؤمن مرآة المؤمن ، اختياركَ للزوجة ، اختياركِ للزوج دليل رجاحة العقل أو فقدان الحكمة ورجاحة العقل ، فإذا كان الاختيار مناسباً كان ذلك زينة للمرء : لا تسأل عن المرء واسأل عن قرينة ، كما أن كل واحد يُحقق الاستقرار العاطفي للاستقامة العملية، و يقوم بدور الحفظ .

الفائدة الثالثة : هي إدامة الإعمار الإلهي في الأرض بإيجاد الذرية الصالحة ، فلا يمكن أن يوجد المرء ذرية صالحة إلا في ظل أسرة ، ففي الرواية يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): ( ما يمنع المؤمن أن يتخذ أهلاً ،فلعل الله أن يرزقه نسمة ،يُثقل بها الأرض بلا إله إلا الله ) مكارم الأخلاق ص١٩٦ ، فالذرية فائدة وغرض ومقصد من الزواج .

الفائدة الرابعة : هي المعونة والمساعدة،فكل واحد من الجنسين ( الفتى والفتاة) يحتاج إلى معونة الآخر ، فهو يحتاج إليه في تطوير نفسه ، و يحتاج إليه في تربية ذريته تربية صحيحة ، و يحتاج إليه في مواجهة ضغوط الحياة، وتعقيداتها ، ومشاكلها ، يقول الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) ( ثلاثة أشياء لا يُسأل المؤمن عنها ... وذكر منها ... زوجة صالحة تُعينه ) ميزان الحكمة ج ١ ص ٨٤١، فهي تُعينه في استقامته ، في سكن مشاعره ، و تربية أولاده ، و وضعه الاقتصادي ، و بخدمتها في المنزل .

التحديات الخطيرة:

النقطة الثانية: في ذكر بعض التحديات المعاصرة ، وهي كثيرة ، ونقتصر على ثلاثة تحديات منها :

الحذر من الغزو الفكري:

التحدي الأول : هو الغزو الثقافي ، و الأفكار الوافدة من الشرق والغرب لا سيما أفكار اليسار الليبرالي، و الذي يُقدم مفهومين خطيرين جداً يُهددان الأسرة :

المفهوم الأول : هو (النزعة الذاتية والفردانية) ، فالفكر الملحد مبني على أن الإنسان مجرد كتلة مادية ، و قد حدث وفق تطور مادي خاص ، فهو خاضع لقانون البقاء للأقوى ، وتحرك الكائن الحي نحو جلب منافعه ودفع مضاره ، وقد تحدثنا عن هذا المفهوم المادي الموغل في المادية في مناسبة سابقة ، و ذكرنا أن نتيجته هي تجريد الإنسان من القيم الأخلاقية ، فهو فكر لا قيميّ يُحوّل الإنسان إلى مجرد شخص آناني ، يسعى من أجل تحقيق مصالحه ، و استخدام الآخر للظفر بملذاته، ولا يُقيم وزناً لمفاهيم فاضلة ، من قبيل الإثار ، والتنازل ، والتضحية .

المفهوم الثاني : مفهوم (الجندر) الذي يزعم أتباعه بأن الفرق بين الرجل والمرأة من حيث الجنس ، وكون هذا رجل وتلك امرأة ، وهذا فرق بيولوجي فرضته الطبيعة التي أوجد رجلاً أوجدت امرأة ، وأما من حيث الذكورة والأنوثة وهو ما يعبر عنه بـ(الجندر) فلا يوجد فرق طبيعيّ تكويني، وإنما يوجد سياق اجتماعي يكتسبه المرء من المجتمع ، فالرجل ليس بالضرورة ذكراً ، المرأة ليست بالضرورة أنثى ، فقد يكون الرجل أنثى وتكون المرأة ذكراً، بفعل التربية والتنشئة والعلاقات الاجتماعة، و بالتالي من الخطأ أن نُقسم الأدوار ، و نجعل أدواراً خاصة للمرأة في الأسرة تختلف عن أدوار الرجل ، فقد يكون الرجل هو الأنثى، فيعطى دور المرأة ، وتكون المرأة هي الذكر فتعطى دور الرجل، كما ليس من الضروري أن تكون أسرة أو تكون الأسرة بهذا الشكل المتعارف ، فيمكن أن يوجد أربع رجال أناث من حيث الجندر ، و يتزوجون بامرأة واحدة هي ذكر من حيث الجندر!

كلام غير معقول .. ومن يستمع إليه لأول وهلة يتعجب ، وقد يضحك ، ولكنه كلام يطرحه مفكرون في الغرب، و بقوة ، ويقاتلون من أجل فرضه على جميع المجتمعات البشرية، و يصدقه كثيرون في الغرب و القليل في الشرق، لوجود أساليب متعددة لفرضه، وبعضها يعتمد التضليل ، و العقد النفسية ، والقوة والتهديد ، و شراء الأتباع من خلال تقديم أنواع مختلفة من الدعم المادي والمعنوي، و قد أخذ هذا المفهوم أبعاداً مختلفة في ظل الحرية الليبرالية المنفلتة، فوجود من يرى نفسه حيواناً ، ويطلب من الأخرين التعامل معه ككلب أو قط، فيلبس لباس الحيوان، ويقيد كما يقيد الحيوان، ويأكل من طعامه ، ويعيش معه، وما دام الإنسان قد استرخص نفسه ، و انحطت في عينه، وأخذ ينظر إليها كمادة متطورة ؛ فإنه سوف يكون لعبة في يد الشيطان ، ووساوس النفس، وسوف ينحدر أكثر فأكثر ، وقد تحدثت الروايات عن ما يقع في آخر الزمان، وذكرت من ذلك ما يشيب الرأس عند سماعه.

إن لهذين المفهومين ، وهو ( الفردانية ، و الجندر) دور كبير في تفكك الأسرة في المجتمع الغربي ، و لو طالعنا الإحصاءات التي تُذكر لوضع الزواج في المجتمع الغربي لوجدنا أن من النادر جدّاً أن ينجح ، و يكفيك أن مكتب الإحصاء للجماعات الأوربية يورستات(Eurostat) ذكر أنه من عام( 1965م) إلى عام ( 2013م) تضاعف الطلاق في جميع دول أوربا 28مرة .

و الإحصاءات تتحدث عن 53% من الزيجات الواقعة في أمريكا تنتهي بالطلاق ، وهذا يعني أن أكثر الزيجات تنتهي بالفشل ، و في السويد 65% ، في بلجيكا 70% ، السبب هو ترويج مثل هذه الأفكار التي يراد أن تروج الآن في مجتمعنا.

التحدي الثاني : هو التحدي الإعلامي ، و حتى يتضح التحدي الإعلامي أذكر مثالين :

المثال الأول : ما تقدمه الأفلام والمسلسلات من نماذج خيالية للأسرة لا وجود لها في الواقع، فهي تُقدم علاقات وردية و تعيش الرومنسية على طول الخط ، و في كل لحظاتها ، فالزوجان يتنقلان من سوق إلى سوق ، ومن بلد إلى بلد ، و طعامهم في المطاعم الفاخرة، ويسكنون أفخر المنازل، ويستخدمون أفخر الأثاث، وهذه الصورة تؤثر على رغبة الفتى والفتاة ، و توقعات الفتى ، و توقعات الفتاة ، فيكون الطموح أكر بكثير من الواقع الطبيعي المتاح ، فإذا تحقق الزواج ودخل الزوجان في العلاقة الواقعية ، لا العلاقة الخياليّة ؛ يُصابان بالإحباط؛ لأنهما لم يجدا الزواج الذي رسم في ذهنهما بسبب الأفلام ، والمسلسلات، وما يعرضه مشاهير السوشيال ميديا المزيَّفين، والمزيِّفِين للواقع ، وبالتالي عند أقل مشكلة لا يستطيعان أن يستمرا في الزواج ، و لا يستطيعان الحفاظ على بيت الزوجية .

المثال الثاني : هو ما يُقدم في الإعلام ـ أيضاً ـ من أن الطلاق حل سهل جدّاً لأتفه المشاكل الأسرية ، فالإعلام يصور المرأة أسيرة في بيت الزوجية ، و يوهمها أن كرامتها في أن لا تتنازل في أي شيء، وعلى الزوج أن يوفر لها ما تشاء متى تشاء ، وأنها إذا دخلت في مشكلة مع زوجها ثم اختارت الطلاق فإنها تصبح بذلك أسعد ، وجملة من الفتيات يتصورن أن ما يُعرض على التلفاز أمر واقعي، بينما ما يُعرض لوحة منقوصة ، هو جزء من اللوحة، و توجد أجزاء مخفية كثيرة ، لا تنفك عنها جميع الأسر بعد الطلاق ، من وجود مشاكل عائلية ، و اقتصادية ، وعاطفية ، و ترتبط بالأولاد و تربيتهم العاطفية و الأخلاقية ، فكل هذه الأمور تُغيّب ، و النتيجة هي وصول رسالة خاطئة إلى المجتمع مفادها أن الطلاق حل سهل، و بإمكان أي فتاة أن تطلب الطلاق عند أي مشكلة، مع أن أعظم المشاكل في كثير من الأحان تبدأ بعد الطلاق. نعم ، الطلاق حل في بعض الظروف، لأن ضريبته أخف من الاستمرار ، ولكن ما يروج اليوم إعلاميّاً يؤدي إلى فهم خاطئ، وهو أن الطلاق هو الحل السحري في كل مشكلة .

التحدي الثالث : هو التحدي الاقتصادي ، فالحياة تطورت وتعقدت ، وسائل المعيشة و الاتصال و الموصلات تطوراً كثيراً ، وكثرت ، و هذا ما يقتضي في كثير من الأسر أن يعمل الأب ولأيام و شهور خارج البلد بعيداً عن أسرته ، بل هذا الوضع قد يؤدي إلى أن يعمل الأبوان خارج البيت ، ولا يوجد عندنا مشكلة في أن يعمل الأبوان خارج البيت، مع الالتزام بالضوابط الشرعية، لكن هذا العمل ـ شئنا أم أبينا ـ ينقطع فيه التواصل الدائم بين الزوجين وبين الآباء والأبناء، وبالتالي قد تترتب عليه أمور سلبية ، منها ضعف العلاقة بين الزوجين ، و بين الآباء والأبناء ، فتفتر العلاقة العاطفية ، ويضعف التأثير ، فلهذا ينبغي أن تلتفت الأسر التي حرمها وضعها الاقتصادي من التواصل الدائم إلى خطورة الوضع لو أهمل أمر تقوية الروابط العاطفية ، فالمسئولية عليها أعظم .

أمور مهمة في تنشية الأسرة السعيدة:

النقطة الثالثة: وهي في ذكر بعض الأمور المهمة التي بها يمكن أن تنشأ الأسرة السعيدة المتماسكة مبنية على القيم والأخلاق الإسلامية .

و في الحقيقية توجد أمور كثيرة بيّنتها التعاليم الإسلامية ، أقتصر على ذكر أربعة منها :

الأمر الأول : هو معرفة أهداف الزواج وغاياته بنحو دقيق ، فإن الزواج تلبية لنداء الفطرة، و استقرار للروح ، و سكن للمشاعر ، و إدامة للعمارة الربانية التي يريدها الله (تبارك وتعالى) بإيجاد الذرية الصالحة ، وهو تعاون ومشاركة .

إذا كان المرء واعياً بهذه الأهداف، عنده عزيمة ورغبة في تحقيقها فإنه سوف تكون عنده فطنة ، فيعرف كيف يُعالج المشاكل فيما إذا حدثت ، يعرف كيف يتغافل و يتنازل عندما يكون التغافل هو الموقف المناسب للحفاظ على المكتسبات الكبيرة؛ لأنه يملك هدفاً أسمى، و يريد أن يُحققه بوعي وفطنة ، الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه) : ( صلاح التعايش والتعاشر ملئ مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل ) ميزان الحكمة : ج ٣ ص ٢٢٨٨. فالذي يملك أهداف سامية عالية يتغافل عند الصغائر من أجل تحقيق الأهداف العالية ، فالتغافل فن ينبغي أن تتحصل الزوجة عليه، و ينبغي أن يتحصل عليه الزوج، وليس ضعفاً كما يتصور بعض الذي لا يملكون وعياً كافياً في إدارة أمورهم .

الأمر الثاني : هو أن تُبنى العلاقة الزوجية والأسرة مع معرفة تامة بالحقوق ، فعلى كل شخص أن يعرف حقوقه ، وحقوق الآخر ، فعلى الزوج أ، يعرف حقوق زوجته ، و على الزوجة أن تعرف حقوق زوجها ، و على الأبناء أن يعرفوا حقوق الآباء ، وعلى الآباء أن يعرفوا حقوق الأبناء ، فإن الكثير من المشاكل الأسرية بسبب عدم معرفة الحقوق بالدقة ، فيظن أحد الأطراف أنه لا يأخذ حقه، و أن الطرف المقابل مقصر ، بينما في الواقع الطرف المقابل ليس مقصراً بل مُتفضل .

قصة من الواقع:

ذكر لي أحد المؤمنين قائلاً : أنا كنت دائماً أقول لزوجتي : أنا متفضل عليك لست مقصراً، في كل موقف وعند أي مشكلة ، إلى أن جاء يوم من الأيام قالت لي : كم تصرف في الشهر؟ هل تصرف 4آلاف ريال أو 5آلاف؟

سوف أدفع هذه المبلغ في هذا الشهر، وأنت قم بدوري لمدة شهر، دعنا نتبادل الأدوار، فأنا أصرف على البيت وأنت تتولى مهامي ، فتقوم بالتغسيل و الكنس و الطبخ ، و تعتني بالأولاد وتنظفهم عند الحاجة.

يقول هذا المؤمن: قبلت العرض ، وليتني لم أقبل ، فقد رفعت الراية البيضاء ، وبعدها أخجل أن أقول : أنا ليست مقصراً، فقد رأيت أن المبلغ الذي أصرفه مبلغاً زهيداً مقابل الجهد الذي تقوم به.

و لهذا ينبغي أن تُعرف الحقوق وبدقة حتى لا تحدث مشاكل مبينة على تصور أن الطرف المقابل مقصر ، وهو ليس كذلك .

الأمر الثالث : هو بناء الأسر تحت مظلة مرضاة الله (تبارك وتعالى) ، و قربة إليه.

من الصحيح وجود رغبة غريزية و فطرية في الزواج ، فكل طرف يميل إلى شريكه، و يطلب الولد في أعماق كينونته ، لكن مع ينبغي أن يبني كل طرف نفسه ويوطّنها على أن يتزوج قربة إلى الله تعالى ، و لكي يُحقق الأهداف الإلهية ، و يُحقق الأغراض التي أرادها الله (تبارك وتعالى) ، و عند الإمام السجاد (صلوات الله وسلامه عليه) كلمة جميلة جدّاً ، وكل كلامه جميل، فقد قال: (من تزوج لله ولصلة الرحم توجه الله تاج الملك ) عوالي اللئالي : ج ٣ ص ٣٠١ ، فإن الله تعالى يُحقق له الاستقرار ، و يجعل الأمور له مستتبة ، ( من تزوج لله ) أي: من يدخل في نطاق الأسرة وهو يعتقد أنه يريد أن يرضي الله (عز وجل) ، و يقدم لأجل الله (تبارك وتعالى) ، فإنه سوف يتنازل عن حقه لله (تبارك وتعالى) ، و بهذا سوف يكون ناجحاً في الحفاظ على كيان الأسرة ، مثلاً إذا وجد أن الطرف المقابل لا يقدر عطائه ، و يُعاند و لا يقبل التنازل ؛ فإنه سوف يتنازل لأجل الحفاظ على الأسرة ، و الحفاظ على أبنائه ، لأن الله تبارك وتعالى قال : ﴿ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ﴾ سورة آل عمران: 195 ، فإذا كان الإنسان لا يُقدر فإن الله (تبارك وتعالى) يقدر ، و إذا كان عملك و تضحيتك وما تقدمه ضائعاً عند شريكك أو عند والدك أو ولدك أو أعد أقربائك فإنه ليس ضائعاً عند الله (تبارك وتعالى) ، ولك عليه أجر عظيم ، محفوظ في الآخرة ، وقد يظهر أثره في الدنيا.

إن هذه النظرة الإيمانية في العلاقات الزوجية هي نظرة المؤمن الذي يعتقد بوجود الله ويصدق بوعده (تبارك وتعالى) ، فالإيمان حصانة من الظلم والتعدي داخل نطاق الأسرة ، بل الإيمان داع إلى البذل ، والإيثار ، والتغافل، والتضحية ، لعله لهذا أكدت الروايات على اختيار المؤمن التقي أو المؤمنة التقية ، يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): ( تزوج المرأة لثلاثة ، لجمالها ، لمالها ، لدينها فاظفر بذات الدين ترتب يداك ) ميزان الحكمة : ج ٢ ص ١١٨١ ، ويقول (صلى الله عليه وآله) : ( زوجها تقي فإن إن أحبها أكرمها ، وإن أبغضها لم يظلمها ) مكارم الأخلاق : ٢٠٤، فينبغي على الفتاة المؤمنة الواعية أن تنظر أولاً إلى الإيمان ، لا تأخذ قرارها من المسلسلات و الأفلام ، أو الغريزة، وإنما من تعاليم رسول (صلى الله عليه وآله) ، فأولاً الإيمان والخلق ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه) الكافي : ج ٥ ص ٣٤٧ ، فكم امرأة تزوجت غنياً جميلاً وهي تعيش في سجن وعذاب ، وامرأة تزوجت فقيراً ليس جميلاً، وهي تعيش في جنة الإيمان والمودة ، فالمؤمن إذا قرأ ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( ما أكرمهن إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم ) ، لا يقدم على سبها وسبها أهلها أو التضييق عليها؛ لأنه لا يريد أن ينظر سول الله إليه فيراه لئيماً، الأمر كذلك بالنسبة المرأة المؤمنة ، فإن النصوص الدينة تردعها عن سوء العشرة ، و ترغبها في حسنها.

الأمر الرابع : هو الاهتمام بالتواصل العاطفي داخل الأسرة ، من الضروريّ جدّاً أن يهتم الزوجان بالجلوس مع بعض ، ويجعلا وقتاً متسعاً لذلك ، وأن يجلس الآباء مع الأبناء ، في الرواية يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( جلوس المرء بين أهله أحب إلى الله من اعتكاف في مسجدي هذا ) ميزان الحكمه ج 5 ص 101، ومفاد هذه الرواية هو أن جلوسك مع أهلك في آخر ليالي شهر رمضان أحب إلى الله من أن تعتكف في المسجد ، لكن للأسف الآن كثير من الرجال يجلسون في الاستراحات ، من أول الليل إلى آخره ، فالمرأة أمام التلفزيون وهو مع الشباب في الاستراحة ، مع أن الرواية تقول إن الجلوس معها أفضل من الاعتكاف في مسجده ، وهؤلاء المساكين قد أضاعوا ثواب ذلك بالجلوس أكثر في الاستراحات ونحوها ، مع أن جلسات الاستراحات في كثير من الأحيان تشتمل على صرف العمر في ما لا ينفع.

إن الجلوس مع الأهل يقوي أواصر المحبة ، و يشد العاطفة ، و يجعل كل طرف أكثر تأثيراً في الآخر ، فيؤثر الآباء بنحو أقوى،فتنساب التعاليم، والقيم ، والمعتقدات، والآداب من الجيل الماضي إلى الجيل اللاحق بنحو سلسل.

تواصل الشيعة من عوامل قوتهم:

لماذا من الصعب جدّاً اختراق المجتمع الشيعي ؟ ومن الصعب أو شبه المستحيل أن يخرج الشيعي من الإيمان بعقيدة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) ؟

الجواب : لذلك عوامل متعددة ، وفي مقدمتها أن المجتمع الشيعي مجتمع متواصل ، ويقد خلق له بيئة متماسكة من خلال مناسبات أهل البيت (عليهم السلام) ، فنحن في الحسينات نلتقي مع أننا من أسر مختلفة، ولكن يضمنا مكان واحد ، و على رأسنا سقف واحد، وتجمعنا أهداف واحدة، و ويجذبنا شخص واحد ، وهو الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) ، إننا نأتي بأبنائنا ، و يجتمع الكبير والصغير ؛ لكي نحافظ على العقيدة الواحدة ، وقد ورثناها من الأمهات والآباء (جزاهم الله خيراً ، رحم الماضين ، حفظ الباقين) ، ولابد أن نحافظ عليها ، ثم نورثها الأبناء من بعدنا.

وَرِثْنَـاهُنَّ عَنْ آبَـاءِ صِـدْقٍ وَنُـوْرِثُهَـا إِذَا مُتْنَـا بَنِيْنَـا

*تقرير: سماحة الشيخ علي ياسين الحاجي