البحث عن عيوب الناس... نتائجه وتداعياته

روي عن الإمام الصادق أنه قال: «إذا رأيتم العبد متفقّدًا لذنوب الناس ناسيًا لذنوبه، فاعلموا أنه قد مُكر به»[1]  .

تحفل الحياة الاجتماعية للناس بأنماط لا حصر لها من السلوكيات الطيبة الصالحة والسلبية المنفرة. وتنحصر مسؤولية الفرد في الاهتمام بما يعنيه من هذه الأعمال والسلوكيات، التي يلحظها ضمن حياته الاجتماعية اليومية، فإذا كانت نزعة الفرد نزعة صالحة وخيرة، فسينصبّ اهتمامه على السلوكيات الخيرة، وعلى النقيض من ذلك، إذا كانت نزعاته نزعات سيئة، فسيندفع للاهتمام بما يتلاءم مع تلك النزعة من سلوكيات.

إنّ الإنسان العاقل غالبًا ما يبحث عن الوجه الخيّر وأعمال الصلاح في بيئته الاجتماعية، فيزداد تحفّزًا لتمثل أعمال الخير والسلوك الحسن، وليجسّدها في حياته، في مقابل ذلك يغضّ العاقل الطرف عن الأعمال السيئة عند الآخرين، الموجودة بطبيعة الحال في كلّ مجتمع بشري. وبذلك يتجه الإنسان العاقل للاهتمام بالأعمال والسلوكيات الحسنة الصالحة، فيقف عندها ويتأمّل فيها ويتحدّث عنها، حتى يزداد تحفّزًا لتجسيدها في نفسه ونشرها في مجتمعه.

التفتيش عن المعايب

غير أنّ هناك صنفًا من الناس لا يهمّهم سوى التفتيش عن كلّ ما يشين من السلوكيات العامة. فمثل هؤلاء تراهم غارقين في البحث عن أخطاء وزلّات ومعايب الآخرين، والحديث عنها، وتناقلها على أوسع نطاق، فما لك ولمعايب الآخرين وزلّاتهم؟.

إنّ غاية ما ينبغي للمرء في هذا الصّدد هو الحذر وتوقّي الانزلاق في المعايب والأخطاء التي وقع فيها الآخرون، لا أن يحترف التفتيش والحديث في زلّاتهم وعثراتهم. ومن عجب ترى بعض الناس مولعين للغاية في التنقيب عن عثرات الناس وزلّاتهم، كما لو كانوا رادارات مسلّطة على حياة الآخرين الخاصة والعامة، وهذه من أسوأ الرذائل التي قد تعتري أيّ امرئ من الناس.

إنّ النصوص الدينية تنهى بشدّة عن تعقب زلّات الناس على أيِّ نحوٍ من الأنحاء. يقول الإمام الصادق: «إذا رأيتم العبد متفقّدًا لذنوب الناس ناسيًا لذنوبه فاعلموا أنه قد مكر به»، وتنطوي الرواية الشريفة على عدّة أبعاد، بدءًا من استنكار تعقّب عثرات الآخرين والتنقيب عن أخطائهم، واستطرادًا بلفت نظر المتورّطين في هذه الرذيلة إلى أنهم هم أنفسهم لا يخلون من عثرات، وأنّ عليهم عدم نسيان ذلك، فهم ليسوا قطعة من الكمال لا نقص فيها!، فالأحرى بهم أن يفتّشوا عن أخطاء أنفسهم ويتوقّوا الوقوع في الزّلات، ثم لتنتهي الرواية بالتحذير المغلظ بتوصيف من يقع في هذا السلوك المشين بأنه «قد مُكر به»، أي إنّه قد أوقع نفسه في فخ وورطة سرعان ما سيرى نتائجها السلبية في الدنيا والآخرة.

بين النحل والذباب

هناك سمات عديدة لمسلك المفتشين عن معايب وزلّات الآخرين، أوّلها تأمل عيوب الناس. يقول الإمام عليّ: «تأمّل العيب عيب»[2]  ، إنّ من يُمْعِنُ النظر والتدقيق في عيوب الناس، فهو بهذا السلوك إنّما يرتكب عيبًا، ولعلّ أقرب توصيف لنوعية متابعة الإنسان لأعمال الآخرين، هو ما يفعله النحل الذي لا يحطّ سوى على الورود والأزهار العبقة الرائحة فيمتص منها الرحيق، بخلاف الذباب الذي لا يعرف سوى القمامة، وكذلك الأمر مع الأشخاص، فالشخص الباحث عن زلّات وعثرات الآخرين، إنّما يتقمّص سلوك الذباب الذي يبحث في المزابل، في مقابل من يتخلّق بأخلاق النحل، حيث يهتم بالجوانب المشرقة عند الآخرين، المتمثلة في نجاحاتهم وإنجازاتهم وإيجابيّاتهم، فيتحدث عنها وينشرها ويشيع الأجواء الصالحة في مجتمعه، تحفيزًا لذاته لبلوغ ما حقّقه الآخرون.

نشر المعايب

والسمة الثانية لمسلك المفتشين عن معايب الناس هي إظهار عيوب الآخرين ونشرها على أوسع نطاق. وقد أفسحت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة المجال واسعًا أمام هذا الصنف من الناس، فمثل هؤلاء لا يدّخرون جهدًا في نشر معايب الآخرين عبر أيّ وسيلة تصل إليها أيديهم، واللافت أنّ الأخبار السلبية والكاذبة سرعان ما تنتشر انتشار النار في الهشيم، يحثّ يتداولها البعض على قاعدة «انشر تؤجر»، ودونما تمحيص ولا تدقيق لحقيقة الخبر، ولا إدراك لخطورة هذه الممارسة المضرّة بالآخرين، في مقابل ذلك لا تجد الأخبار الإيجابية التي تتحدث عن المنجزات والنجاحات عُشْرَ الاهتمام الذي تحظى به الأولى.

اختلاق المعايب

أمّا السمة الثالثة لمحترفي البحث عن عيوب الناس، فهي النزعة نحو اختلاق المعايب اختلاقًا، وتلفيقها للآخرين. ولعلّ الواحد من هؤلاء يستيقظ صباحًا فلا يجد خبرًا يسيء للآخرين فيقلقه ذلك كثيرًا، ولربما عمد عندها لاختلاق الشائعات وألصاقها بالناس جزافًا.

التشويه وسوء التفسير

كما يعمد المفتشون عن معايب الناس، في سمة رابعة، نحو إساءة تفسير أعمال وتصرّفات الآخرين. فقد يقوم الآخرون بأعمال إيجابية، غير أنّ محترفي التفتيش عن الزلّات، يعمدون إلى تشويه وإساءة تفسير تلك الأعمال الإيجابية، فبنظر صاحب النظارة السّوداء تتحول الإيجابيات والجوانب المشرقة عند الآخرين إلى معايب ومثالب يطعن عليهم بسببها.

عوامل وأسباب

هنا يبرز السؤال المهم؛ حول أسباب تورّط البعض في هذه المسلكيات الخاطئة.

حقيقة الأمر أنّ هناك أسبابًا عديدة تقف خلف هذا المسلك السيئ. ويأتي في طليعة الأسباب ما يمكن أن نصفه بالعقد النفسية عند هؤلاء، فلو أُخضع هؤلاء للفحص النفسي والسلوكي، للكشف عن طبيعة شخصيّاتهم، لاتضح كم يعانون من العقد والأمراض النفسية التي تتمظهر عندهم على هذا النحو السلبي.

ثم يأتي سوء التنافس في المقام الثاني من أسباب التورط في الإساءة للآخرين، مع لحاظ أنّ التنافس بين أبناء البشر أمر طبيعي على كلّ الصُّعد والمجالات، غير أنّ هناك من يخوض غمار التنافس من خلال زيادة نشاطه وفاعليته حتى يتفوق على الآخرين، فيما ينزع آخرون نحو التنافس السلبي وغير الشريف، الذي يعمد إلى عرقلة وتكسير المنافسين الآخرين. إنّ منافسة الآخرين على نحو خطأ، هي ما تدفع البعض نحو التفتيش عن الزلّات والمعايب لمنافسيهم.

أمّا السبب الثالث المحرك لمحترفي النبش في مثالب الناس فهو الفراغ، فالواحد من هؤلاء غالبًا لا يشغل وقته باهتمامات مفيدة، فيشعر عندها بفراغ كبير، ليقوده ذلك نحو إشغال نفسه بالتنقيب عن معايب الناس.

النتائج والتداعيات

هناك نصوص دينية كثيرة تحذّر الإنسان من التورط في هذه الخصلة الذميمة، والتفتيش عن عيوب الناس. ولعلّ أول محاذير هذا المسلك الخطأ هي انشغال المرء بمثالب الناس والغفلة عن عيوبه، كما لو أنه خالٍ تمامًا من الأخطاء والعيوب، التي من الحريّ أن يتجه نحو إصلاحها. ورد عن أمير المؤمنين أنه قال: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس»[3]  ، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: «أفضل الناس من شغلته معايبه عن عيوب الناس»[4]  ، وجاء عنه في رواية ثالثة أنه قال: «أعقل الناس من كان بعيبه بصيرًا وعن عيب غيره ضريرًا»[5]  .

وينبغي أن نلفت النظر هنا، إلى أنّ مسلك التفتيش عن الأخطاء، كما يجري على صعيد الأفراد، فهو يجري أيضًا على مستوى الجماعات. فقد تتورّط بعض الجماعات الدينية أو السياسية والاجتماعية في مسلك الإساءة للجماعات الأخرى، برصد عثراتها ونشرها عوضًا عن التفتيش عن عيوبها هي ومراجعة أخطائها.

ويحضرني في هذا الصّدد دراسة وافية للباحث الشيخ حسن بن فرحان المالكي بعنوان «قراءة في كتب العقائد»، حيث يشير في مقدمة دراسته إلى أن أبرز مشكلة وقعت فيها الفرق والمذاهب الإسلامية، هي أنّ كلّ فرقة اهتمت بالبحث عن أخطاء الفرق الأخرى، والثغرات في تراثها، فالشيعة صاروا ينقّبون عن الأخطاء في كتب أهل السنة، فيما تفرغ السنة للتفتيش عن الأخطاء في كتب الشيعة. ويخلص الباحث المالكي إلى ضرورة الاعتراف بأنّ كلّ التراث الاسلامي يعجّ بالأخطاء، فهذا التراث نتاج بشري، ينتمي إلى بيئته وعصره، وهناك ثغرات ونقاط ضعف يحفل بها التراث السني والشيعي على حدٍّ سواء، وحبّذا لو اتّجه أهل كلّ مذهب إلى إصلاح وتصحيح تراثهم. غير أنّ الحالة المتخلفة ونزعة التفتيش عن أخطاء الآخرين تجعل البعض يصبّ جلّ اهتمامه على ساحة الآخرين، ويغفل عن نفسه، وبذلك تبقى نقاط الضعف بمحلها، والثغرات في مكانها.

إنّ النصوص الدينية توجّه الإنسان المسلم إلى أن يتسامى على هذه الحالة، فلا يفتّش عن العيوب في علاقاته مع الناس. وقد توعّد القرآن الكريم بالويل لمن يسلك مسلك التنقيب عن عيوب الآخرين، قال تعالى: «ويل لكل همزة لمزة»، والهمزة هنا تأتي بمعنى سوق نقاط الضعف عند الآخرين بغرض كسر شخصيّاتهم، ولمزهم من خلال استغابتهم والتنقيص من مقامهم، وقد توعّد الله سبحانه أصحاب هذا المسلك بالويل والخزي والعذاب. وجاء عن رسول الله أنه قال: «حسب ابن آدم من الإثم أن يرتع في عرض أخيه المسلم»[6]  .

بين النقد والتشهير

وهنا ينبغي الالتفات إلى عدم الانخداع بالخوض في شخصيات الآخرين والانتقاص منهم، بادّعاء الحقّ في النقد وحرية التعبير عن الرأي، فلا ضير من مناقشة الأفكار وتقييم المواقف ضمن حدودها، أمّا الإساءة للأشخاص والتلفيق عليهم، بحجة حرية التعبير فتلك مخادعة فجّة للذات، ذلك أنّ حرية التعبير في تناول أفكار الآخرين ومناقشتها أمر صحيح، وحقٌّ مشروع، أمّا المساس بكرامة الأشخاص، والتجريح في شخصياتهم، والتشكيك في نيّاتهم، فلا صلة لذلك كلّه بحرية التعبير بتاتًا، بل هو اعتداء سافر تجرّمه الأعراف والقوانين. وتشير النصوص الدينية إلى أنّ الله سبحانه ينتقم من الإنسان المتتبع لعيوب الآخرين، وأنّ من بحث في أسرار غيره أظهر الله سبحانه أسراره، وقد ورد عن رسول الله: «من تتبع عورات المؤمنين تتبع الله عوراته، ومن تتبع الله عوراته فضحه في جوف بيته»[7]  ، وعن الإمام عليّ: «ومن تتبع عورات الناس كشف الله عورته»[8]  .

إنّ شيوع مسلك البحث عن أخطاء وزلّات الآخرين سيجعل الجميع عرضة لأخطاره. فلا يظننّ أحدٌ أنه سيكون بمنأى عن ارتدادات هذا السلوك المشين في حال استفحل في الوسط الاجتماعي، لذلك ينبغي أن ينأى الجميع عن هذه الرذيلة حتى لا يساهم في تعزيزها في المجتمع، ويكون أحد ضحاياها، ولعلّ ذلك من المعاني التي تشير إليها النصوص، بأن الله يفضح ويكشف عيوب من يمارس هذا الدور.

-----------------

[1] بحار الأنوار، ج٧٢ ص٢١٥، حديث14.

[2] غرر الحكم ودرر الكلم، ص173، حكمة 10.

[3] نهج البلاغة، الخطبة ١٧٦.

[4] جامع أحاديث الشيعة، ج١٤، ص٢٠٢.

[5] غرر الحكم ودرر الكلم، ص12، حكمة 280.

[6] حكم النّبيّ الأعظم، محمد الریشهری، ج4 ص625.

[7] الأمالي، الشيخ المفيد، ص١٤١، ح8.

[8] عيون الحكم والمواعظ، ص٤٣٨.