ما يريده الإمام الحسين (ع).. إصلاح سياسي أم اجتماعي؟!

في هذه الأيّام من شهر شعبان المعظّم الذي تصادف فيه ولادات الأئمة الاطهار عليهم السلام، يبرز السؤال التالي: "كيف نُحيي الولادة؟ ماذا يريد منّا الإمام الحسين (عليه السلام) –كأحد الأئمة المولودين في هذا الشهر المبارك-  بإحياء ذكرى ولادته؟ وماذا تريد منّا كربلاء برمزيّتها بقدسيّتها بقوّتها الجاذبة لعشرات الملايين من شرق الأرض وغربها؟

ولابدّ هنا أن نتعرّف على كيفيّة إحياء هذه الذكرى، ما هو جوهر وروح القضيّة الحسينيّة؟ ماذا أراد الإمام الحسين (عليه السلام) منّا؟ فنحن نقول: إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) وراث الأنبياء، أليس في زيارة وارث نعدّد الأنبياء ابتداءً من آدم (عليه وعلى نبّينا وآله أفضل التحية والسلام)، السلام عليك يا وارث آدم، السلام عليك يا وارث نوح، السلام عليك يا وارث إبراهيم، وهكذا نعدّد الأنبياء أولي العزم، فهو وارث الأنبياء، ما هو جوهر الوراثة من الحسين للأنبياء(عليهم السلام)، تأمّلوا في بعض الآيات القرآنية التي بيّنت جوهر وروح الحركة النبويّة وجوهر وروح الدعوة الإلهيّة التي حملها الأنبياء الى أممهم، نجد عدداً من الآيات القرآنيّة لعددٍ من الأنبياء تبيّن هذا المعنى وهذا المضمون، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ).

الإصلاح أولاً..

وكذلك عندما نقرأ قصص بعض الأنبياء التي بيّنها القرآن بالتفصيل لا على نحو الإجمال، النبيّ هكذا يبتدئ أمّته يقول لهم: هدفي وغايتي ومنهجي إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، والإمام الحسين(عليه السلام) أيضاً في بيانه الأوّل الذي بيّن فيه للأمّة لماذا وما هي الغاية أن أخرج وأضحّي بنفسي وأهل بيتي، على الرغم من أنّ بعضاً من علية القوم نصحوه بعدم الخروج قال: "لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن أأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر".

فالإمام عليه السلام يؤكد أن جوهر خروجه وكل تضحياته من أجل إصلاحكم ومن أجل إصلاح هذه الأمّة ومن أجل أداء هذه الواجبات الأساسيّة، ولكن هناك خصوصيّة في القضيّة الحسينيّة علينا أن نلتفت اليها ونعيها حقّ وعيها، لكي نعطيها حقّها من الفهم والوعي والتطبيق، الأحاديث التي وردت عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأهل البيت بكثرتها في خصوص الإمام الحسين (عليه السلام) نربطها مع البيان الأوّل للإمام الحسين (عليه السلام)، نجد أنّ في القضيّة الحسينيّة هناك عاطفة وهناك إصلاحاً، لابُدّ من الاقتران والتصاحب بين العاطفة مع ظلامة الإمام الحسين (عليه السلام) وحركته، هذه العاطفة تقترن وتتصاحب مع حركة الإصلاح، ولكن أيّ عاطفة أرادها الإمام الحسين (عليه السلام)؟ وهنا ينبغي أن يسأل كل واحد منّا انه، هل عاطفتنا هل بكاؤنا هل حضورنا الى المجالس هل زياراتنا تتطابق مع حركة الإصلاح التي أرادها الإمام الحسين (عليه السلام)؟ وسنذكر أمثلةً لذلك.

العاطفة الحقيقية

العاطفة المحرّكة للضمير والوجدان اللذين يتفاعلان مع المظلوم في قضيّته، العاطفة المحرّكة للضمير والوجدان اللذين يتفاعلان مع المصلح في حركته ضدّ الفساد، العاطفة المحرّكة للضمير والوجدان اللذين يتفاعلان مع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ضدّ الذي يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، العاطفة التي تحرّك الضمير والوجدان اللذين يتفاعلان مع صاحب الأخلاق الحميدة ضدّ صاحب الأخلاق المنحرفة، هذه هي العاطفة الحقيقيّة التي تحرّك الضمير والوجدان، أنّ المصلح إذا نادى في الأمّة أن هبّوا للدفاع عن الدين والوطن والمقدّسات حرّك هذا ضمير الإنسان لكي يضحّي بنفسه وأهله وماله في سبيل أن يحفظ الدين والوطن والمقدّسات، نوضّح أكثر بالأمثلة.. إذا حضرتُ مجلساً وبكيت وحزنت مع الإمام (عليه السلام)، والإصلاح طلب منّي أن أترك المعاملة الربويّة وإن خسرت الكثير من المال فعليّ أن أكون على استعداد لذلك، المجلس الذي أحضر فيه للبكاء والإصلاح يناديني أن أترك المعاملات المحرّمة وإن خسرت الكثير من المال فعليّ أن أكون على استعداد لذلك، المجلس الذي يحضر فيه رجل ثمّ إذا عاد الى بيته لم يظلم ولم يؤذِ أهله وزوجته وأولاده، المجلس الذي تحضر فيه المرأة المؤمنة فتبكي حتى إذا خرجت الى السوق كانت عفيفةً في حجابها وكلامها وسيرتها، وهكذا في بقيّة الأمثلة، العاطفة التي تحرّك الضمير والوجدان أنّ الإنسان يكون على استعداد للتضحية بالدنيا والمنصب والمكاسب الدنيويّة في سبيل أن يقف مع المصلح.

أمّا إذا حضر هذا الإنسان وبكى وحزن للإمام الحسين (عليه السلام) ولكنّه خرج الى السوق ولم يكن على استعداد ليترك الرّبا والغشّ والكذب والظلم، فإنّه ليس بتلك العاطفة الحسينيّة وهو ضدّ حركة الإصلاح، الإنسان الذي يحضر المجلس ويبكي لكن إذا عاد الى بيته ظلم زوجته وأهله وأولاده فليس هو بتلك العاطفة الحسينيّة، المرأة التي تحضر المجلس وتبكي الحسين ولكنّها إذا خرجت الى السوق خرجت سافرة متبرّجة، المجلس الذي يحضر فيه المؤمن ولكنّه إذا خرج الى عمله ودائرته سرق من المال العام وقصّر في وظيفته وعمله فليس هو بالذي يتعاطف مع القضيّة الحسينيّة، وهكذا في بقيّة الأمثلة.

هنا حينما تكون هذه العاطفة المجرّدة عن التفاعل مع حركة الإصلاح للإمام الحسين (عليه السلام)، كأنّ هذا الذي يبكي يقول للإمام الحسين (عليه السلام) إنّي على استعداد أن أبكي عليك يا أبا عبدالله، وعلى استعداد أن أحضر المجلس، ولكنّك إذا دعوتني الى ترك الربا والغشّ والمعاملات المحرّمة ودعوتني الى ترك الكذب والظلم والبهتان والافتراء فأنا لست على استعداد أن أترك هذه الأمور، أنا على استعداد يا أبا عبد الله أن أبكي عليك وأتفجّر حزناً على ظلامتك، ولكن لست على استعداد أن أقف مع المظلوم في قضيّته ضدّ الظالم سواءً كان هذا الظالم حاكماً أو إنساناً عاديّاً، أنا على استعداد أن أبكي عليك يا أبا عبد الله ولكن إذا رأيت منكراً يُعمل به ومعروفاً لا يُعمل به فأنا لست على استعداد أن أأمر بالمعروف أو أنهى عن المنكر، لأنّي سأخسر منصباً وأخسر مكسباً دنيويّاً، حينئذ يقول له: ما حاجتي اليك وما حاجتي الى بكائك هذا؟! الإمام يقول وهذه دعوة: إنّما خرجتُ لغاية، هدفكم في الحياة وغايتكم في الحياة، إنّما خرجت لطلب الإصلاح نعم الغاية، و(إنّما) أداة حصر، ما هي غايتي؟ ما هو هدفي؟ ما هو منهجي؟ إنّما خرجت لهذه الغاية، هدفكم غايتكم عملكم في الحياة هو إصلاح الأنفس، إصلاح الأخلاق إصلاح العمل إصلاح الأسرة الإصلاح السياسي والإصلاح الاجتماعي.

هذا هو الهدف والبكاء هو كي تتفاعلوا مع قضيّتي كمظلوم مع قضيّتي كمصلح، هذا هو الهدف الأساسي وسيلة، للوصول الى هذا الهدف أنت تبكي عليّ في المجلس، ولكنّك إذا كنت خارج المجلس ترتكب المحرّمات ولست على استعداد أن تقف مع المظلوم في قضيّته أو مع المصلح في قضيته أو مع الآمر بالمعروف في قضيّته أو مع صاحب الأخلاق الحميدة في قضيّته، أنت ما صلتُك بي حينئذ؟! هل صلتك بي أن تبكي فقط وأنا خرجت لطلب الإصلاح؟! خرجت لإصلاح أنفسكم وإصلاح أخلاقكم وإصلاح اجتماعكم وإصلاح سياستكم، إنّما هذا هو الهدف والغاية والذكرى إنّما يكون بهذه الأمور، لذلك لابُدّ أن يتقارن لابُدّ أن يكون لدينا وعي، هذا التقارن هذا التصاحب هذا التلازم بين العاطفة الجيّاشة للإمام الحسين(عليه السلام) أن أبكي لظلامته لكي يتحرّك ضميري ويتحرّك وجداني، أن أقف مع المظلوم لا في ظلامته فقط بل في قضيّته في مبادئه وأنصره وأقف معه، في زماني حينما يكون هناك مصلح يدعو للإصلاح السياسي الى الإصلاح الاجتماعي الى الإصلاح الأخلاقي الى الدفاع عن الوطن والدين عليّ أن أكون على استعداد أن أقف معه ولا أتركه لوحده، هذا هو جوهر القضيّة الحسينيّة أن أقف مع المظلوم مع المصلح مع الآمر بالمعروف في قضيّته وأنصره، وعلى استعداد أن أضحّي من أجل هذه النصرة وهذا الموقف بحياتي ودنياي وبمكاسبي ومناصبي ومالي وغير ذلك من هذه التضحيات، عاطفة تحرّك الضمير والوجدان لكي يتفاعل هذا الإنسان الحسينيّ الحقّ يتفاعل مع صاحب المبدأ مع صاحب القضيّة.

كربلاء بعظمتها بجذبها العظيم لهذه الملايين إنّما نبعت من عظم هذه المبادئ وعظم هذه القضيّة لما فيها من ظلامة، لذلك أن يكون لدينا وعي وفهم حقيقيّ لهذه العاطفة التي لابدّ أن تقترن وتتصاحب في كلّ يوم وكلّ ساعة أن نكون مع صاحب المبادئ والقضيّة، في كلّ زمان هنالك مصلح من خلاله تمتدّ الحركة الحسينيّة والنهضة الحسينيّة والعاطفة الحسينيّة، في المجالس والبكاء الصادق هو الذي يقترن بالتحرّك لنصرة هذا المصلح والوقوف معه في جميع مجالات الإصلاح لا أن نبعّض هذه المجالات، فبعضها نقف معه وننصره وفي بعضها الآخر متى ما اقتضت أهواؤنا وأمزجتنا نتركه، لأنّنا لا نعتقد بهذه المسألة، بل نقف معه في جميع مجالات إصلاحه هذا هو جوهر القضيّة الحسينيّة.

إصلاح سياسي أم اجتماعي؟!

المبدأ الثاني الذي يجب أن نحييه من خلال إحياء ذكرى هذه الولادة هو الإصلاح الشامل، فالكثير يركّز اهتمامه وكلامه ورأيه ومداولاته وحركته ويعطي أهمّية كبيرة في الإصلاح السياسيّ، نعم هو مهمّ وأساس مهمّ في الإصلاح، كما ورد في الحديث "صنفان من الناس إن صلحا صلح العالم وإن فسدا فسد العالم، العلماء والأمراء" صحيح ولكنّ الإصلاح الحسينيّ هو الإصلاح الشامل والإصلاح الذي يبدأ من الفرد بنفسه، ابدأ بنفسك ابدأ بباطنك بقلبك بمشاعرك، ماذا تحمل في قلبك تجاه الآخرين؟! هل تحمل إليهم المودّة والاحترام والتقدير والتعايش معهم بروح الأخوّة؟ أم تحمل في قلبك الحسد والغيرة والعداوة والبغضاء والنفاق وغير ذلك من الصفات التي هي من أخلاق اعداء الحسين(عليه السلام)؟ ابدأ بإصلاح أسرتك المحيط الأصغر، لدينا محيط أكبر ومحيط أصغر، ابدأ بإصلاح هذا المحيط الأصغر كي تنتقل الى الإصلاح الأكبر، ابدأ بالإصلاح في مدرستك في دائرتك في مقرّ عملك في السوق ثمّ انتقل الى الإصلاح الأكبر، الإصلاح الأخلاقي الإصلاح الاجتماعي الإصلاح الإداري الإصلاح الوظيفي، علينا أن نُعطي لهذه المجالات المتعدّدة من الإصلاح اهتمامنا وتوجّهنا وقراءتنا وحركتنا، هذه حينما تجتمع تؤدّي الى الإصلاح الأعمّ والأشمل، وأيضاً علينا أن نجمع بين الإصلاح النظري والإصلاح العمليّ، الكثير يخرج عبر وسائل الإعلام ويكتب ويتحدّث عن نظريات كثيرة ومناهج ولكنّه في مجال العمل والتطبيق تجده بعيداً، الإمام الحسين(عليه السلام) ليس بحاجة الى شعارات تُرفع ونظريات تُطرح كتابةً في كتاب أو في وسائل التواصل أو في وسائل الإعلام وغيرها، بل بحاجة الى النظريّات القليلة والكلام القليل لكن الذي يصاحبها هو التطبيق من قِبَل من ينادي بها، لذلك على الواحد منّا حينما يطرح فكرة وشعاراً ونظريّة ومنهجاً عليه أن يبدأ بتطبيق هذه النظرية وهذا المنهج.

المبدأ الآخر اغتنام الفرصة بوجود المصلح لاحظوا على مرّ التاريخ الله تعالى يهيّئ المصلحين للأمم التي تنحرف عن مسارها، فإن اغتنمت الفرصة -فرصة وجود هذا المصلح- واتّبعته وأطاعته وكانت على استعداد أن تقف معه وتنصره وتضحّي من أجله، لأنّه يحمل المنهج العادل منهج الصلاح للأمّة، حينئذٍ ستفوز بالسعادة والاستقرار والهناء في الدنيا والآخرة، وإن فوّتت على نفسها هذه الفرصة لأنّها آثرت الدنيا ومكاسب الدنيا والمناصب وغير ذلك من الأمور الدنيويّة، حينئذٍ ستخسر وتشقى، وفي كلّ زمانٍ حينما ينحرف المسار ليس فقط في زمن الأنبياء وزمن الإمام الحسين(عليه السلام)، بل ببقيّة الأزمنة الله تعالى يهيّئ قادة مصلحين يعيشون هموم الأمّة ويفهمون التحدّيات والمشاكل والمصائب والمخاطر التي تمرّ بها الأمّة، وهو في منهجهم منهج الأنبياء والأئمّة، يهيّئ فرصة لهذه الناس ويهيّئ هذا المصلح فإن اغتنموا الفرصة وأطاعوه ووقفوا معه وناصروه في كلّ ما يدعو اليه من منهج، ليس فقط في المنهج الفقهيّ والدينيّ بل في بقيّة مناهج الحياة، حينئذٍ نالوا وفازوا بالسعادة في الدنيا والآخرة، وإن تركوه لوحده ولم ينصروه ونصروه في بعض المواطن وتركوه في مواطن أخرى حينئذٍ لا يكون لهم إلّا التعاسة والشقاء، كذلك هذا الذي نستنتجه من الموقف مع الإمام الحسين(عليه السلام)، أيضاً النفس الطويل، الإصلاح لا يأتي بسنة أو سنتين، لابُدّ أن يكون هناك ثبات، لابدّ أن يكون هناك صبر، لابدّ أن تكون هناك معارك متعدّدة، معركة تارةً مع المفسدين وتارةً مع الإرهابيّين، معركة مع النفس معركة للإصلاح الاجتماعي للإصلاح الأخلاقي للإصلاح الأسري للإصلاح الوظيفي وهكذا، هذه المجالات المتعدّدة تحتاج الى وقت طويل وربّما البعض يضعف ويصيبه الوهن ويتراجع ولا يكمل المسيرة، هنا نحتاج في مثل هذا الإصلاح الطويل الى الثبات، نحتاج الى النفس الطويل الى الصبر الى التحمل الى المواصلة الى الأمل المتجدّد دائماً أنّ الله تعالى سيقف مع عباده، هذا أيضاً ما نستنتجه من القضيّة الحسينيّة وهذه بعض الأمور التي يمكن أن تكون مذكّرة للإخوة وننتفع منها في وقتنا الحاضر.

*مقتطف من الخطبة الأولى لصلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 3/شعبان/1439هـ الموافق 20 /4/ 2018م