نفايات فكرية مستوردة: الرجل يهيمن على الأسرة.. هكذا يتحدّون ’النظام الأبوي’!

تعاني مجتمعاتنا اليوم من غياب إطار شامل، لطرح وجود وأدوار المرأة في سياقاته الطبيعية في الخاص أو العام، وتبني كثير من الباحثين، بل والناشطون في الحقل النسوي نظرة جزئية، تتسم بالمحاكاة والتبعية باتجاه الحضارة الغربية، دون أن يكون هناك طرح مغاير يستوعب مستجدات العصر، وهذا جزء من الأزمة الحضارية التي نمر بها الآن، حيث السقوط المريع في فخ مفاهيمي جرَاء جعل الغرب “النموذج” المعياري الذي نقيس به مفاهيمنا، فأدى بنا إلى حالة من التيه والتخبط في فهم الواقع، والاستفادة من التاريخ، وطريقة النظر إلى المستقبل، وزاد الأمر سوءا بعد فشل كثير من الأطروحات الغربية، وتراجع الغرب ذاته في كثير من نظرياته التي قدمها.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وبدلاً من الاعتبار بتراجع الغرب فيما طرحه من فلسفات، إذا بنا نستورد نفاياته الفكرية، وننعق بها كي يتحقق لنا فقط مجرد بطاقة انتساب للغرب. يبدو هذا جلياً حين التشكيك في مفاهيم تُعد جوهر حياة الأسرة، وبزوالها تفنى الأسرة وتصير من مخلفات الماضي، أولاهما: مفهوما رب الأسرة، وربة المنزل فهما عمودا ارتكاز الأسرة.

كان مفهوم رب الأسرة كقائد للأسرة، يُستخدم في كافة المراجع الأجنبية حتى أواسط القرن العشرين، بشكل إطرائي بما يُفيد المحبة والوالدية، واستعمله كُتاب القرن التاسع عشر في عبارات تعني: “الخصال الأبوية الحميدة”. إلا أنه بانتصاف القرن العشرين، بدأ استعمال المصطلح ليُعبر عن مفهوم قدحي له على يد مورجان Morgan وباشوفين Bachofenعام 1970م، لتلتقط النسويات الراديكاليات طرف هذا الخيط، لينسجوا عليه منوال جُلَ أطروحاتهن في القضاء على الأسرة، بدعوي مظلومية المرأة واضطهادها، كالناشطة النسوية Kate Millettفي كتابها  sexual politics(1971)، حيث صارت قيادة الأسرة تعني هيمنة الرجل، ويُعبر عنها بالبطريركية، ليتم تعميم المفهوم ليشمل أي قيادة للرجل، سواء في الأسرة او خارجها. أي هيمنة الرجل سواء أكان أبا بيولوجيا أو غيره.

وبذلك اعتمدت الحركات النسائية في الغرب في السبعينيات هذا المصطلح، للإحالة على نظام وجب التصدي له (1). بل صارت النسوية مرادفة للتمرد على ذلك النظام الأبوي، ولن يُعترف بأية امرأة على أنها نسوية ما لم تتمرد على كل ما يمثله الرجل من سلطة وتتحداه.

تقول «سارة جامبل»: “ويشير مصطلح النسوية إلى: أي محاولة لتحدي النظام الأبوي في أية صورة كانت، في الفترة من عام 1550م إلى عام 1770م” (2).

هكذا أُفرغ مفهوم الأبوية تماماً من كل معاني العطاء والمحبة والحماية، وكافة الجوانب الإيجابية في المفهوم، ليتم شحنه بدلالات جديدة، تحوي كافة مثالب التسلط الذكوري والهيمنة.

يردد من أطلق عليهم الرافعي “أصحاب اللسان المرقع” ـ استناداً إلى أساطير لفظها أنثروبولوجي الغرب أنفسهم- :”… ومع المشاعية الجنسية، ينتمى الأطفال إلى المرأة الأم، ويُنسَبون إليها، بينما يجهل الجميع مَن هو الأب!. فهي التي تنجبهم، وتغذيهم، وتنشئهم وترعاهم.. بالتالي، ما من شيء اسمه حق الأبوة، وانقلب النظام الأمومي إلى نظام أبوي، عبر المكائد التي دبرها الرجال، وأول مكيدة كانت متمحورة حول نزعة الملكية الخاصة، بطمع الرجل في تملُّك المرأة والأولاد… هكذا، باتت المرأة جزءاً مولوداً من “ضلع” الرجل، بل وبالتحديد من ضلعه “الأعوج”!! وبات الأطفال يُنسَبون إلى الأب، وباتت العائلة متمحورة حول “رب” الأسرة الذي راح يرغب في الإكثار من الأولاد “الذكور” بصورة خاصة؛ لأنه يرى في زيادتهم “قوة سياسية” و”حاشية عسكرية” لا تضاهيها قوة أخرى. وتحولت كل ممارسة جنسية للرجل إلى “عملية سلطوية” يثبت من خلالها رجولته وسيادته كإمبراطور يبسط نفوذه على إمبراطوريته الصغيرة “المنزل” بكل أفرادها. فصارت الزوجة تابعة للرجل، وتدور في فلك “رب الأسرة”. وصار الولد “الذكَر” موضع غبطة، والمولودة “الفتاة” محط شؤم وعار واستياء. وتحولت المرأة من آلهة مقدسة إلى عاهر.. إلى “حقل للرجل يحرثه كما يشاء” آلة لإنجاب الذرّيّة (3).

ويرتبط بمفهوم رب الأسرة، مفهوم ربة المنزل، حيث هاجمته كل من النسوية الليبرالية، والنسوية الماركسية هجوما شديدا فهو برأيهن منبع اضطهاد المرأة.

فالرأسمالية تعتمد على النساء، بصفتهن شريحةً دائمة من أيدٍ عاملةٍ متدنية الأجر، وكي يستمر جذب النساء للعمل تم تذليل ما قد تعتبره النساء من عقبات، قد تستغرق أوقاتهن في المنزل، من رعاية الأطفال، فأُسست دور الرعاية النهارية (الحضانات) والتي أضحت مصدر ثراء للبعض، كما لعبت التكنولوجيا دورها. فتقول شارون سميث في مقال لها معنون بـ:(تنظير قمع المرأة: العمل المنزلي واضطهاد النساء) في أوائل القرن العشرين، ترافق انخراط المرأة المتزايد في الأيدي العاملة بتقلصٍ مقابلٍ في الوقت الذي قضيْنه في العمل المنزلي. حيث أصبح إعداد الطعام أقل استهلاكًا للوقت، وغسيل الملابس في بعض النواحي أقل إرهاقًا، كما تولّت المدرسة أغلب مهام التدريس. وفي الآونة الأخيرة، أدّى انتشار الأغذية المجمدة، وأفران المايكروويف، والمغاسل الكهربائية، والتوافر المتزايد لِدُوْر الرعاية النهارية، كدُوْرِ الحضانة، وروضات الأطفال وبرامج ما بعد المدرسة، إلى تقلص الأعمال المنزلية أكثر فأكثر” (4).

وفي فقرة أخرى تشير الى ما تعتبره النسوية إنجازات تحققت، من خلال الخروج والمشاركة في العمل المأجور فتقول: “عكس ما تنبأ ماركس، لم تنحلّ الأسرة كمؤسسة اجتماعية، لكن نجحت حركة تحرر النساء في ستينيات القرن العشرين في تحدي مفهوم انحصار مجمل طموح حياة المرأة في الزواج والإنجاب، وهو ما أدّى، جنبًا إلى جنبٍ مع مشاركة المرأة المتزايدة في العمل المأجور، إلى تغيّرات جذرية في الهياكل الأسرية التقليدية حيث: قل عدد النسوة اللاتي تبنين اسم عائلة أزواجهن عند الزواج. وبالمثل، وبالفضل لحركة المثليّين/ات ومزدوجي/ات الميول والمتغيّرين/ات جنسيًا، ما يسمى بـ “حركة الميم “ (5) أصبح بإمكان المزيد من الأزواج المثليين/ات تربية الأطفال، متحدّين/اتٍ الصور الجندرية النمطية داخل الأسرة. وارتفاع نسب الطلاق قد أدى أيضًا إلى ارتفاع عدد الأسر أحادية المُعِيل/ة، وهي أسرٌ غالبًا ما ترأسها امرأةٌ تعيش في فقرٍ مدقع. ومع توظيف المزيد من النساء خارج المنزل، قل إنجاب الكثير من النساء للأطفال، وبتن ينجبن في وقتٍ متأخر من حياتهن. كما أنّ مسؤوليات العمل المنزلي مالت للانخفاض مقارنةً مع العقود السابقة. وفي حين يمثل تحسن التكنولوجيا المنزلية إحدى العوامل المساهمة في ذلك” (6).

وتجيب في تحليل ماركسي على سؤال: لماذا تسند الأعمال المنزلية للنساء دون الرجال؟ فتفسر ذلك بما تطلق عليه النسويات “عبودية الإنجاب” مستعينة بتحليلات لنسويات ماركسيات، فبرأيها أن الرجل والمرأة بإمكانهما أن ينخرطا في كافة الأعمال المنزلية، ولا يتباينا إلا في حالة الإنجاب، والتي تقدم للمرأة حينها كافة الرعاية والدعم في إعالتها، والتي غالبا ما يتولاها الذكور(الأب) ومع كثير الولادات يتم شرعنة هذا الوضع فيصير الوضع: أن عليه الإنفاق والإعالة، ومن ثم يصدر القوانين التي تشرعن ذلك فتقول:

“بإمكان كلا الجنسين/الجندريْن واقعًا تأدية العمل المنزلي داخل العائلة، غير أنّ عملية التناسل البيولوجي، أي الإنجاب، هو أمرٌ تنفرد به النساء. تتحمل الأسرة دعم النساء خلال الأسابيع أو الأشهر السابقة مباشرةً للولادة والتالية لها.. وهي مسؤولية غالبًا ما يتولاها الأب البيولوجي، في الأسرة الغيرية (7) ـ خلال تلك الفترة التي لا يكُنّ قادرات فيها، جسديًا، على المشاركة الكاملة في أيٍّ من العمالة الإنتاجية أو المنزلية… على الرغم من أن أدوار النساء والرجال المتباينة، جوهريًا، لا تحتاج للاستمرار إلّا خلال أشهر الإنجاب هذه، غالبًا ما تنزع مسؤوليّات النساء إلى أن تُجانَس مع دورهنّ الإنجابي في الأسر القائمة على القرابة، خصوصًا مع إنجاب أغلب النساء عدة أطفالٍ على مدار مقدارٍ معيّن من السنوات.. عادةً ما تُشرعَن هذه الترتيبات بواسطة هيمنةٍ ذكوريةٍ، مدعومةٌ بهياكل مؤسساتية لقمع الإناث، تشمل هياكل قمع الإناث المؤسساتية هذه تقييد حقوق المرأة القانونية، المنصوص عليها في القوانين المنظِّمة للزواج، والطلاق، والحقوق الإنجابية” (8).

إذا كانت الأسرة والتي تُعد أهم المؤسسات التي يحتفظ الإنسان من خلالها بذاكرته التاريخية وهويته القومية ومنظومته القيمية، تعرضت في الغرب لحفاري قبرها، أمثال رائد الليبرالية جون ستيوارت ميل حين قال: “الأسرة مدرسة الاستبداد، حيث تبدأ السلطة الأبوية في الحيز الخاص، فمن ثم هذه السلطة الأبوية الخاصة تنتقل للحيز العام (9).

أما رائدا الماركسية والشيوعية، كارل ماركس، وفريدريك انجلز في كتابيهما “رأس المال ” للأول ، و كتاب “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة “للأخير، واللذان رأيا في دور ربة المنزل أنه مستهدف لخدمة الرأسمالية، وعلى المرأة التحرر من الاستغلال الطبقي لها، والخروج للعمل من أجل ذاتها، بدلاً من حصرها بالمنزل، واستغلال عملها غير المدفوع في منزلها، وفي موضع اجتماعي مغلق من قِبل رأس المال للإنجاب، من أجل استدامة القوة العاملة المهمة للرأسمالي (10).

فإننا ننظر بكثير من الأسى، ليس إلى هذا الفكر الذي يناقض ليس فقط الأديان السماوية، بل الفطرة الإنسانية السوية، وإنما إلى ظهور هذا التوجه داخل عالمنا العربي اليوم، حيث السعي على قدم وساق لتزييف الوعي بحصر إنجاز المرأة في إنتاجيتها في العمل المادي فقط، وألا يُنظر إليها بقدر من الاحترام إلا بإنتاجها الخارجي المالي، والذي يدفع عجلة الاقتصاد للأمام، وكأن انصراف الزوجة عن هذا المجال، وتسخير طاقتها لتربية أبنائها وصناعة الأجيال القادمة، لا يدفع الاقتصاد ولا يحقق الإنتاج.

 

الهوامش

(1) Hirita, Helena et al. Dictionnaire critique du féminisme, 2ème édition augmentée, Presses Universitaires de France, 2004.

(2) سارة جامبل، النسوية وما بعد النسوية، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط2000م، ص22.

(3) الجنسوية الاجتماعية هي الأيديولوجية، https://cutt.us/b0ZN9

(4) شارون سميث، في تنظير قمع المرأة: العمل المنزلي واضطهاد النساء، 14 سبتمبر 2016م، إنترناشنال سوشالست رفيو، في: https://cutt.us/Xx6q4

(5) حركة الميم (أو الم.م.م.): اختصارٌ عربي لحركة الـ(مـ)ـثليين و(مـ)ـزدوجين/ات الميول والـ(مـ)ـتحولين/ات جنسيًا والتي يقابلها اختصار «LGBTT» في اللغة الإنجليزية.

(6) شارون سميث، مرجع سبق ذكره.

(7) تمييزا لها عن أسر الشواذ، فالغيرية تشير إلى زواج المرأة من جنس مغاير لها أي الرجل.

(8) شارون سميث، مرجع سبق ذكره.

(9) لمزيد من التفاصيل، انظر: جون ستيوارت مل، استعباد النساء، سلسلة الفيلسوف.. والمرأة، ترجمة وتعليق وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1998م.

(10) لمزيد من التفاصيل، انظر: فريدريك انجلز، من مختارات كارل ماركس وإنجلز، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، ترجمة أحمد عز العرب، القاهرة: دار الطباعة الحديثة، 1957م.

المصدر: باحثات لدراسات المرأة