لهذه الأسباب ينتشر "المعالجون الروحانيون" في العراق

لا زلت أذكر ذلك اليوم العراقي المشمس اللاهب عندها مر بقربي رجل سبعيني يرتدي الزي العربي التقليدي، وكان على قدرٍ عالٍ من الأناقة وتقله سيارة فخمة، عندها وقف هذا الرجل ليسألني عن آخر يدعى أبو مصطفى كان يعيش في نفس محلتنا، فقلت ما تريد منه فقال سأخبرك بشرط عدم الإستهزاء، فتبين أن الرجل قد فقد بعض مقتنياته الثمينة وجاء الى أبي مصطفى كي يعلمه مكانها عن طريق تسخير الجن على حد زعمه.

استغربت ذلك كثيراً لأن أبا مصطفى هذا كان خليعاً ماجناً والسائل يظهر عليه الوقار، كما أنني وعلى حد ما أذكر، بل وهو اليقين، أن أبا مصطفى كانت ميوله رياضية ـ رغم أنه كان فاشلاً في الرياضة ـ فما شأنه وشأن التسخير والعلاج الروحاني؟!

وبعد يومين جاءت فتاتان تتراوح أعمارهمن بين 20 ـ 25 سنة الى نفس الشخص، وهكذا دواليك الى أن أصبح أبو مصطفى ممن يشار لهم بالبنان في كشف المستور والسحر والشعوذة.

لماذا إنتشرت وراجت مراكز العلاج الروحاني؟

الداعي لذكر هذه القصة من واقعنا، والتي قد يشاطرني كثيرون سرد مثيلاتها، هو انتشار ظاهرة ما يعرف بـ "المعالجين الروحانيين". هؤلاء تعدت شهرتهم كبار الجراحين الذين زاول بعضهم المهنة لمدة نصف قرن من الزمان، لكن السؤال الذي أنا بصدد الإجابة عنه في هذا المقال هو: "ما هي أسباب وتداعيات هذه الظاهرة الخطيرة؟"

يمكن أن نرجع انتشار هذه الظاهرة الى أسباب عدة أبرزها:

1 ـ الجهل: إن أغلب مراجعي تلك المراكز من الناس البسطاء، الذين لا يمتلكون المقدار الكافي من الثقافة، وهذا ما يساعد أولئك الذين يطلقون على أنفسهم وصف "الروحانيون" على ابتزازهم وطلب مبالغ كبيرة، بزعم إخراج الجن المتلبس في جسم المريض.

2 ـ إن كثيراً من المراجعين يكون لديهم شعور مسبق أنهم سيشفون على يد معالجيهم، وهذا الشعور له دخل مباشر في التأثير على العقل الباطن عند المرضى المراجعين.

3 ـ أساليب الترويج التي يتبعها الروحانيون، فنظراً للأموال الطائلة التي تدر عليهم، قام الكثير منهم بإفتتاح فضائيات تبث جلساتهم، والمحير في ذلك أن هؤلاء حطموا أرقاماً قياسية في مستوى الجهل الذي يمتلكونه، فقد شاهدت بعضهم وهو يرقي أحد المرضى بسورة الفاتحة، وهذه السورة المباركة على الرغم من قصر آياتها إلى أن صاحبنا زل لسانه بما يقرب من عشر أخطاء واضحة، وشخص آخر من هؤلاء قد أمَ جمعاً من المصلين، بقراءة أسوأ من صاحبه.

4 ـ إستخدام الدين مطية يحققون به مآربهم، حيث يدعي بعض هؤلاء دجلاً أنه يتصل بالإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) على الرغم من أن جمعاً من أساطين أعلام التشيع يرى أنه مع إمكان القول برؤيته (عجل الله تعالى فرجه) إلا إن التعرف على شخصه يتم بعد انقضاء اللقاء.

ضعف الرقابة الحكومية

لقد إستبشرنا خيراً عندما راج في وسائل الإعلام جهات حكومية وجهت أمراً بغلق هذه المراكز، وقد قام هؤلاء فعلاً بغلق فضائياتهم، لكن لبرهة من الزمن حيث رجعت بعد مدة يسيرة لمزاولة مهامها.

على الرغم من إن هذه الأفعال قد تندرج ضمن جرائم النصب والإحتيال التي يعاقب عليها القانون العراقي حيث نصت المادة (456) من قانون العقوبات: "يعاقب بالحبس كل من توصل الى تسليم او نقل حيازة مال منقول مملوك للغير لنفسه او الى شخص اخر وذلك بإحدى الوسائل التالية : أ- باستعمال طرق احتيالية . ب- باتخاذ اسم كاذب او صفة غير صحيحة او تقرير امر كاذب عن واقعة معـينـة متــى كـــان مــن شأن ذلـك خداع المجني عـليـه وحمه على التسليم".

فما هو الداعي لتأخير الإجراءات القانونية بحق هؤلاء الذين عاثوا في الأرض فساداً وشوهوا الصورة الناصعة للدين الحنيف؟

يبقى أمراً مهماً وهو: إن بعض المسؤولين في السلطة التنفيذية قد تنصل من المسؤولية، زاعماً أن هذا ليس من إختصاصهم لأنه لا يخضع للجانب التنفيذي، بل خاضع للجانب الرقابي الذي هو من مختصات وزارة الصحة ـ حسب إدعائه ـ والمسؤولون في وزارة الصحة أيضاً قد تذرعوا بأن مكافحة هؤلاء ليس من إختصاصهم، وكل يلقي الكرة في ملعب الآخر.

إذاً، ليس أمامنا إلا أن ينبري شبابنا الواعي المثقف إلى تحمل مسؤولية توعية المجتمع من خطر هؤلاء وبيان مدى جهلهم وجشعهم، لعل ذلك يكون رادعاً للناس في إرتياد مراكز هؤلاء الذين اتخموا بالمال الحرام.