تُهمة قليلة التكلفة: هل فعلت يا أمي ما يقوله الناس عنك؟!

​بدموع دفاقة محرقة كانت رباب تروي قصتها مع من حاولوا تدنيس طهرها وبراءتها وتاريخها، فهي أم لفتاتين وولد، عرفت بالطهر والصلاح، وأولادها وبناتها خير دليل على حسن سيرتها وجمال سريرتها.

حين غيب الموت زوجها كانت في الـ 24 من عمرها، واليوم لا يفصلها عن الـ 30 عاما سوى شهرين فقط، لكن سير الأيام بتتابعها الرتيب لم يمنحها حياة هادئة حنونة، فصديق زوجها بدأ بمضايقتها منذ عامين، ومع رفضها ما يطلبه منها، يصر معاندا دون أن يتوقف ويتركها في حالها، إلى أن وصل به الأمر للتهديد بالفضيحة.

لا توجد اتصالات صادرة من هاتفها إلى هاتفه النقال، ولا توجد رسائل منها إليه، وفواتير شركة الاتصالات لكافة أرقامها بعيدة عن الريبة، وعلى العكس من ذلك، فاضت ذاكرة هاتفها برسائله المخزية، وتهديداته لها بالاتهام.

أشاع ذلك الأرعن تهمته، وتذوقت مرارتها رباب، وكان كل شيء قابلا للصبر والمقاومة والتحدي، إلى أن رأت نفسها أمام تساؤل أولادها، هل فعلت يا أمي ما يقوله الناس عنك؟

كفاءات وطاقات كثيرة كانت مضيئة في الأعمال الأهلية والخيرية لكنها انطفأت جراء أمواج الاتهام العاتية، والكثير من المبادرات التي يرسم الناس مسارها بنجاح تتلكأ خشيه السهام الكامنة والحراب الجاهزة على الألسن.

حين يجمعك مع رجل عاش أكثر من 30 سنة في الجمعيات والمؤسسات الأهلية لقاء ينصح فيه ابنه ألا يقترب من اللجان والمؤسسات الخيرية، لأن ذلك يخسره ثقة الناس، مؤكدا له أن وراءها التعب والقلق والأفواه التي لا ترحم، فإن ذلك يكشف وجها من وجوه المعاناة التي تثيرها زوابع الاتهام.

قرآن المجتمع المسلم ودستوره من الله سبحانه وتعالى يرفض التسامح في الاتهام إذا مس الشرف ولامس الكرامة (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[1].

ويبشرهم القرآن بخزي في الدنيا ونار في الآخرة .. وإذا كانت هذه الآيات ترتبط في أحكامها بسياقها الخاص، فإنها تشير لأخلاقية مهمة تؤدي لضبط اللسان فلا يجمح ولا يتطاول بالتهم على الآخرين إلا ببرهان ودليل.

ثقافة الاتهام في الدين جعلتنا نخرج الناس من دينهم وننسبهم للكفر والفسق، وفن الاتهام في الوطن دفع عالمنا العربي والإسلامي إلى رمي أطرافه وأجزائه بالخيانة والولاء لما وراء الحدود، وسلوك الاتهام الذي هيمن على قلوبنا ومجمل تصرفاتنا أوجد اتهامات مقابلة من الطرف المتهم، وكلما تعددت الآراء والتيارات والأفكار والمدارس وجدت ثقافة الاتهام ساحتها الخصبة للرواج.

ولو انعطفنا اتجاه المجتمعات التي لم يدعكها العمل السياسي المنفتح، ولم تدمنه ردحا طويلا من الزمن، لرأينا اتهام النوايا، وتأويل الكلمات، وتفسير التصرفات، بمبرر وبدون مبرر يغرق الآخرين في بحر التساؤلات وموج التشكيك.

لا بد هنا من التفريق بين خبر المؤمن المقبول بمفهوم الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... )[2] وبين تحليله وقراءته للأمور، ونظرته للقضايا، فهذه يجب أن تخضع للتبين قبل أن تثبت كتساؤل يتداول في سوق الضغط والاتهام والابتزاز.

آن الأوان لتغيير الكثير من سلوكياتنا في هذا المضمار، فنحن إذا أردنا التعريف بأنفسنا اتهمنا الآخرين بأسوأ التهم، فكان اتهامنا لهم وسيلة للتعريف بأنفسنا، وإذا أردنا النقد لأي أمر كان شهرنا سلاح الاتهام بوجهه قبل كل شيء، وحتى إذا أردنا التحاور قدمنا الاتهام كوسيلة من وسائل الضغط والتهديد لتركيع من يقابلنا الحوار.

التهمة أيها القارئ الكريم بسيطة المؤنة، قليلة التكلفة، سواء في صناعتها، أو في ترويجها، فالصناعة تحتاج خيال مريض خال من الضمير، وبعض الادراك للواقع، ومعرفة نقاط ضعفه وصراعاته، أما الترويج فيتكفل به خلق كثير ممن لا يعلمون فداحة ما يفعلون، ولا يرقبون الله في حرمة ما ينطقون.

الهوامش:

[1]  القران الكريم: سورة النور (24)، الآية: 4، الصفحة: 350.

[2] القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 6، الصفحة: 516.