ممثل السيد «السيستاني»: العمل مبدأٌ وطني وله قيمة وطنيّة عليا

أيّها الإخوة والأخوات موضوعنا في الخطبة الثانية هو: العمل الوظيفيّ بين الاستحقاقات الشرعيّة والوطنيّة والأخلاقيّة وبين واقع الحال، ونعرض هنا مقدّمة، مقصودُنا بالعمل الوظيفيّ ليس هو العمل الذي يُكلّف به الموظّف، سواءً كان طبيباً أو مهندساً أو معلّماً أو أستاذاً أو غير ذلك، هذا جزءٌ مهم، العمل الوظيفيّ الذي نذكره هو يشمل بالدرجة الأساس هؤلاء المكلّفون بأعمال وظيفيّة، أو أيّ شخصٍ مكلّف بعملٍ لخدمة سواء كان موظّفا ًأو له حرفة ومهنة، أي يشمل الجميع وليس مقصودنا من خلال هذه المبادئ وما يتعلّق بمنافاتها التي سنذكرها في هذه الخطبة، قد يتصوّر البعض أنّها محصورة وضيّقة بالموظّفين فقط، بل هي تشملهم أوّلاً وتشمل أيّ إنسان مكلّف بأداء مهمّة وخدمة ووظيفة للباقين، سواءً كان فلّاحاً أو نجّاراً أو سائقاً أو صاحب مهنة وإن لم يكن موظّفاً في دوائر الدولة، ولكنّ المعنيّ بهم أساساً الإخوة الموظّفون بمختلف أعمالهم ووظائفهم.

ضرورة من ضرورات الحياة

هنا لابُدّ من مقدّمة نذكرها، بالنسبة الى العمل لا شكّ أنّه من ضرورات الحياة المعيشيّة الاجتماعيّة الاقتصاديّة التربويّة، العمل يُعتبر ضرورة من ضرورات هذه الحياة، العمل مبدأٌ للكمال الإنساني وارتقاء الإنسان الى المراتب التي تليق به، أيضاً هو أساسٌ للتطوّر للازدهار للرخاء للعزّة والكرامة والسعادة التي ينشدها الإنسان فرداً ومجتمعاً، التفتوا الى هذه الأمور التي نذكرها في المقدّمة ثمّ بعد ذلك نذكر المبادئ، لذلك لاحظوا إخواني، هو ضرورةٌ من ضرورات الحياة، مبدأٌ للكمال الإنسانيّ وأساسٌ لعمارة الأرض واستخلاف الإنسان في الأرض للتطوّر والازدهار وللعزّة والكرامة والموقعيّة التي تليق بالإنسان فرداً ومجتمعاً، لذلك قلّما نجد آيةً من آيات القرآن الكريم إلّا قرنت العمل بالإيمان، بهذه المهمّات التي ذكرناها، إلّا إذا كان هناك في دائرة العقائد البحتة والمجرّدة لا يُذكر، ولكن قلّما نجد آيةً تذكر الإيمان إلّا وذكرت العمل معه.

موضوعنا هنا نخصّ العمل الوظيفيّ باعتبار له دورٌ حسّاس ومهمّ في تحقيق الحاجات الأساسيّة والضروريّة للحياة، معيشةً خدماتٍ طبيّة خدماتٍ تعليميّة وتربويّة وغير ذلك من هذه الأمور، العمل الوظيفيّ بالأساس دوره أيضاً في تحقيق الازدهار والرخاء والراحة والسعادة والازدهار والموقعية والعزّة والكرامة للفرد والمجتمع داخليّاً وخارجيّاً، هذه مقدّمة إخواني.

ما هي مبادئ صلاح العمل وكماله؟

وكيف نحقّق هذه الغايات التي نرجوها جميعاً؟ انظروا إخواني الآن، هذه المبادئ التي سنذكرها للإنسان المتديّن الذي يؤمن بالله تعالى، وهي مبادئ موجودٌ بعضُها حتّى في المجتمعات التي لا تؤمن بدين، وسنبيّن السبب في ذلك، لذلك هي مبادئ عامّة للجميع ولا تقتصر على الإنسان المؤمن، حتّى الذي لا يصلّي ولا يصوم الآن من أجل أن نحقّق هذه الغايات أو بعضها لابُدّ من ملاحظة هذه المبادئ والتقيّد بها، من أجل الوصول الى هذه الأهداف التي ذكرناها.

أوّل مبدأ محبوبيّة العمل عند الإنسان، هذه المحبوبيّة ما هو منشؤها؟ كيف نجعل العمل محبوباً عندنا؟ هذا يرتبط بقضيّة مهمّة إخواني، سنتكلّم مع المتديّنين وغير المتديّنين، إذا اعتبر الإنسان العمل مبدأً من مبادئ الحياة الدينيّة والإيمانيّة أو اعتبره له قيمة عُليا في حياته وحياة مجتمعه، تعامل معه على أنّه مبدأٌ من مبادئ الحياة وله قيمةٌ عُليا وغايةٌ سامية في حياته، تارةً هناك إنسانٌ مؤمن يعتبر العمل له قيمة إسلاميّة وله قيمة دينيّة وله قيمة إيمانيّة عُليا، كما ذُكر في الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة، يعتبره مبدأً من مبادئ الدين، أيّ عملٍ يقوم به يتعامل معه هكذا، وتارةً هناك إنسان يعتبره مبدأً وطنيّاً له قيمة وطنيّة تتعلّق بشعبه ووطنه، يقول هذا العمل يُساهم في تقدّمي وازدهاري وفي راحتي وفي سعادتي لتحقيق العزّة والكرامة والسؤدد والسيادة لشعبي وبلدي، يعتبره مبدأً وطنيّاً له قيمة وطنيّة عُليا، وتارةً يعتبره ذا قيمةٍ أخلاقيّة عُليا، تارةً نتعامل مع العمل هكذا وتارةً نتعامل معه على أنّه مبدأٌ مادّي يحقّق لي أهدافاً ماليّة ضيّقة تتعلّق بالجوانب المادّية البحتة من حياتي، وتتعلّق بتحقيق احتياجاتي الذاتيّة سواءً كنت شخصاً أو كياناً أو حزباً أو جهةً معيّنة، ولا أعتبره مبدأً من مبادئ الإيمان ولا مبدأً وطنيّاً ولا مبدأً أخلاقيّاً، حينئذٍ سيكون حبّي للعمل بمقدار ما يحقّق لي من نتائج ماديّة، أمّا إذا اعتبرته مبدأً إلهيّاً ومبدأً إيمانيّاً ودينيّاً وأحببتُه لأنّ الله تعالى يحبّه ولأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله) يحبّه والأئمّةُ يحبّونه والصالحون يحبّون هذا العمل، حينئذٍ أتعامل معه على أنّه مبدأٌ له غايات سامية فأندفع بإخلاصٍ وأُتمّ هذا العمل وأُتقنه، وأقدّم هذا العمل بمختلف خصوصيّاته ومختلف الجوانب التي تحقّق الغاية المرجوّة وهي خدمة الناس والوصول الى الأهداف الأخرى، أمّا إذا تعاملتُ معه -وهو عند الكثير- على أنّه كلّما هذا العمل أعطاني جوانب ماديّة شخصيّة، حينئذٍ لا يتوفّر لي الدافع القويّ لكي أخلص وأُتمّ وأُتقن وأقدّم كلّ ما لديّ من طاقات في سبيل إنجاز هذه الخدمة، ولا يكون العملُ عندي محبوباً بهذه المنزلة، لذلك علينا إخواني جميعاً -موظّفين وغير موظّفين- أن نجعل العمل وننظر إليه هذه النظرة المبدئيّة وهي أنّه له قيمة عُليا، التفتوا إخواني بعضُ الدول لا تؤمن بدين ولكنّها تقدّمت وازدهرت وارتقت ولها موقعٌ كبير عند الشعوب الأخرى، لماذا؟ دقّقوا في هؤلاء الذين يعملون في مختلف مواقع العمل من موظّفين وغيرهم، تجدون أنّ العمل يمثّل لهم مبدأً وطنيّاً ومبدأً أخلاقيّاً وهم لا يؤمنون بدينٍ أصلاً، يقول:

هذا العمل أنا أخدم به شعبي أخدم به وطني وأرتقي بعزّة وكرامة وموقعيّة وطني وشعبي لدى الدول والأمم الأخرى، ينظرون الى العمل كمبدأٍ له قيمة وطنيّة عُليا وسامية لا ينظرون اليه على أنّ له مردوداً ماديّاً وشخصيّاً فقط، لذلك تقدّموا وازدهروا وأصبح العمل محبوباً لديهم بهذا الإطار وهذا المنظار، لذلك إخواني أوّل ما تبدأون إذا أردتم أن تكون لديكم مبادئ لصلاح العمل وإنجازه، كما يحبّه الله تعالى ويحبّه النبيّ وآله الأطهار أو كما يحبّه شعبكم ووطنكم، لابُدّ أن تكون لدينا نظرة مبدئيّة قيميّة عُليا للعمل فيكون محبوباً لدينا، هذا المبدأ الأوّل.

الإخلاص

المبدأ الثاني الإخلاص في العمل، إخواني الصفة الأساسيّة، لماذا اختار الله تعالى محمد بن عبد الله سيّد الأنبياء والرسل؟ لماذا اختار فلاناً نبيّاً للأمّة الفلانيّة؟ كثيرٌ من الناس موجودون لماذا اختار فلاناً وفلاناً نبيّاً ووصيّاً ووليّاً، أوّل صفة هي الإخلاص لله تعالى في الإيمان والعمل، تارةً الإنسان يكون مخلصاً لله تعالى عندما يربط عمله بالله تعالى، تارةً الإنسان يكون مخلصاً لوطنه وشعبه، هناك تفاضل بين البشر بصفة الإخلاص لله تعالى إن كان مؤمناً بالله تعالى أو القيم الإنسانيّة الأخرى التي يؤمن بها، لذلك إخواني إذا أردنا الاستثمار الأمثل للموظّفين والأطبّاء والمهندسين نحن جميعاً إذا أردنا أن نستثمر أفضل استثمار لطاقاتنا العقليّة والجسديّة ولإمكاناتنا حياتنا أمورنا أوقاتنا كلّ شيء لدينا، إذا أردنا الاستثمار الأمثل لهذه الطاقات والقدرات، والاستثمار الأمثل للحياة والوصول الى أفضل النتائج، لابُدّ أن يكون لدينا إخلاصٌ في عملنا لله تعالى، لا نطلب بعملنا مقابلاً، ونحن بيّنّا في الخطبة الأولى أن لا يتأثّر عملي وخدمتي وعطائي سواءً نلتُ مبالغ ماليّة كبيرة أو لا، سواءً نلت منصباً أو لم أنله، مكسب انتخابيّ جاه منزلة ذكر مدح ثناء إطراء، إن لم أنلْ شيئاً من ذلك لا يتأثّر عملي وخدمتي وعطائي للآخرين، هذا هو الإخلاص، أو إذا نلت أذىً من وراء خدمتي لا أتراجع الى الوراء، هذا الإخلاص الحقيقيّ في أداء العمل والوظيفة لكلّ إنسان.

أخلاقيات العمل

ثالثاً أخلاقيّات العمل، ما معنى أخلاقيّات العمل؟ أنا موظّف -مثلاً- حين أقدّم خدمة إنّما أريد أن أخدم إنساناً لا أخدم جماداً، أنا طبيب أخدم مريضاً إنساناً، معلّم أخدم طالباً إنساناً، موظّف أخدم مراجعاً إنساناً لا أخدم جمادات، لذلك حينما أقدّم هذه الخدمة عليّ أن أقدّم هذه الخدمة بأخلاقيّات الإنسان الراقي، لا أنظر الى عملي كإنتاج الماكنة الجامدة، بل أنا إنسان وأمامي إنسان وأريد أن أخدمه وأوظّف طاقاتي وإمكاناتي لخدمة الإنسان، لذلك لابُدّ أن تكون لديّ أخلاقيّات المهنة التي تناسب طبيعة المهنة، الطبيب يعالج إنساناً مريضاً لينقذ حياته ويخفّف آلامه، فعليه أن يوظّف هذه العلميّة الطبيّة ويؤطّرها بأخلاقيّات الإنسان، المعلّم يريد أن يعلّم طالباً إنساناً فعليه أن يقدّم علمه بأخلاقيّات المعلّم الإنسان، الموظّف يتعامل مع مراجعيه ويريد أن يخدمهم بأخلاقيّات الإنسان، لذلك لكلّ مهنةٍ أخلاقيّات لابُدّ أن نؤطّرها بها حتّى نصل الى النتائج، من دون هذه الأخلاقيّات لا ينفع بل ينفع بمقدارٍ قليل، طبّ علم هندسة وغيرها لابُدّ أن تكون لكلّ مهنةٍ أخلاقيّاتها الخاصّة بها.

الوظيفة تكليف

المبدأ الرابع: العمل أمانةٌ اؤتُمن عليها الإنسان، التفتوا إخواني الآن أيّ خدمة وأيّ وظيفة نقوم بها إنّما هي تكليف بأمرٍ واجب أو مستحبّ أو أداء مهنة الاستخلاف في الأرض، التفتوا (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً) ما هي الأمانة التي عُرضت على السماوات والأرض والجبال؟ هذا التكليف بالعمل، الله تعالى قال: أيّها الإنسان جعلتُك خليفةً في الأرض، إنّما هذا الاستخلاف يبتدئ بالإيمان والعمل، هذه أمانةٌ كلّفتك بها وليست تشريفاً لك، نعم.. إن أدّيتَ هذه الأمانة على وجهها وصلاحها صار تشريفاً لك، لذلك على الإنسان هنا إذا أراد أن يأتي بهذه الخدمة وهذه الوظيفة تامّة مُتقَنة تصل الى المرتبة التي نحقّق منها الغاية، لابُدّ أن يعتبر أنّ هذه الوظيفة مهما بلغت، هذا المنصب وهذا الموقع وهذا المكان الذي يعمل فيه، إنّما هو تكليفٌ له بأن يؤدّي هذه المهمّة التي هو مكلّفٌ بها إمّا من الله تعالى أو من وطنه وشعبه.

إن كان يؤمن بالله تعالى يقول: الله تعالى كلّفني، أو أنا إنسانٌ وطنيّ وإنسان أعمل حقّاً من أجل شعبي أقول: هذا شعبي، حينما يكون هؤلاء الناس اختاروني أو اختاروا فلاناً لكي يكون في الموقع والمنصب الفلانيّ، معنى اختياري يعني أنّهم قالوا: جعلنا هذا الموقع والمنصب وهذه الوظيفة أمانة في عنقك وتكليفاً كلّفناك به لا تشريفاً منّا لك، حينئذٍ ستؤدّى هذه مهامّ العمل وهذه الخدمة على أفضل وجه.

أيضاً من المبادئ المهمّة هو التقيّد بالحقوق والواجبات، التفتوا إخواني الى هذه القضيّة المهمّة، هناك لدينا عمل، وعامل، وربّ العمل، الكون كلّه قائمٌ نظامه إصلاحُه وصلاح هذا النظام للكون قائم على مسألة الحقوق والواجبات، عطاء وإعطاء، لابُدّ أن يكون لكلّ عملٍ نظام حقوق وواجبات تتعلّق بجميع الأطراف.

علينا إخواني كما نطالب، ومن حقّ أيّ إنسان أن يطالب بحقوقه، لكن ليس من الصحيح ومن الخطأ الفاحش والكبير أن يركّز الإنسان على حقوقه فقط دون أن ينظر الى الواجبات المكلّف بها بإزاء هذه الحقوق، أنت أيّها الموظّف أيّها العامل في أيّ موقع، لك هذه الحقوق لك هذا المال هذا الموقع هذا المنصب، هذه حقوق مقابلها واجباتٌ بقدر هذه الحقوق، أحياناً قد أطالب بحقوق بهذا المقدار ولكن حينما آتي الى الواجبات المكلّف بها إزاء هذه الحقوق، أنظر فقط الى رُبْعها وخُمْسها وثُلُثها أؤدّي هذا الجزء الصغير من هذه الواجبات التي عليّ بإزاء تلك الحقوق، صحيح طبعاً المفروض أن تكون هناك حقوق وأن تكون هناك قوانين وتشريعات تنظّم ما هو مقدار الحقوق وما هو مقدار الواجبات.

ولكن علينا في نفس الوقت أن ننظر نحن بعين الإنصاف وأداء الأمانة المكلّفين بها، أنّه لا أُضيع هذه الحقوق في مقابلها، بل لابُدّ أن أؤدّي مقدار الواجبات بإزاء تمام الحقوق التي لي، لا أن أنظر بعينَيْن الى الحقوق وأنظر بعينٍ واحدة الى الواجبات، فأفرّط في الواجبات ولكنّني لا أفرّط في الحقوق، لذلك لابُدّ إخواني حتّى نصل بهذا العمل الوظيفيّ الى الغاية التي نبتغيها، وهي راحتنا ورخاؤنا وتقدّمنا وتحقيق هذه المطالب الحياتيّة لنا، لابُدّ أن يكون هناك توازن بين الحقوق والواجبات، ونراعي هذا التوازن بين الحقوق والواجبات، هذه المبادئ الخمسة لابُدّ من ملاحظتها.

ما هي مفسداتُ العمل التي تخرّب العمل وتفسده؟ إن شاء الله نبيّنها في الخطبة القادمة، أيضاً مقابل هذه الأمور التي ذكرناها هناك مفسدات لهذا العمل، والتي أدّت الى تأخّرنا وأن نكون في هذا الحال، إن شاء الله هذا سنذكره في الخطبة القادمة.

نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لما يحبّ ويرضى إنّه سميعٌ مجيب، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

* النص الكامل للخطبة الثانية من صلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 14/ذو الحجة/1440هـ الموافق 16 /8/ 2019م