الحروف المقطّعة في القرآن.. ماذا تعني؟!

تتصدر تسع وعشرون سورة من سور القرآن بحروفٍ مفردةٍ أو مركبةٍ من حروف الهجاء، عند قراءتها الآن لا تعطينا معنىً محدد، ولا دلالة لفظية مباشرة لها  بشكل مستقل، وقد اصطلح عليها بالمقطعات ، وفواتح السور، والحروف النورانية، و تسميتها الأشهر : هي (الحروف المُقَطّعَة)، وهي أربعة عشر حرفاً ، وتسميتها حروفاً لا يعني أنّها حرفٌ واحد، فبعضها بالفعل حرفٌ هجائي واحد مثل: (ص، ق، ن) لكن بعضها الآخر من حرفين مثل: (طه، طس، يس، حم) و قسم ثالث من ثلاثة حروف، مثل: (الم، الر، طسم)، وهكذا منها من أربعة حروف، مثل: (المص، المر) ومنها المؤلف من خمسة حروف هجائية، مثل: (كهيعص، حم عسق)، وسبب تسميتها بالمقطعة هو؛  تقطيعها عند القراءة ؛ إذ تقرأ  : ألف لام ميم ، أو ألف لام راء، وهكذا، وسبب الكتابة عنها : كثرة القيل والقال فيها واثارة الاشكال عليها، حتى استسخف نفسه أحدهم فكتب لغواً: في غياب تفسير مقنع لهذه الأحرف يجب ادراجها ضمن ما يسمى "اللغو"!

المذاهب في تفسيرها ومعناها

إنّ موضوعاً كالحروف المقطعة بلغ من التشعب والسعة مبلغاً أن تكتب فيه الكتب، وتؤلف فيه البحوث، وتجرى عليه الدراسات اللغوية والتفسيرية (ككتاب: الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية للدكتور محمد أحمد أبو فراخ ، وغيره)، وأن تختلف الأقوال فيه الأقوال لتبلغ العشرة أو تزيد ، كما سردها صاحب تفسير مجمع البيان في أول استعمال لها ، بل ضاعف بعضهم عدد الآراء ليقول: (الْأَقْوَالِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ، وَهِيَ نَحْوُ ثَلَاثِينَ قَوْلًا.(أضواء البيان-2/166) ، أقول: إنّ موضوعاً كهذا لا يمكن الإلمام بتفاصيله في مقالة همها أن تبين أرجح الآراء فيه، وأقربها للصواب، والغريب حقاً ، أنّ هذا الاختلاف الفاحش بين مفسري القرآن تقابله حقيقة تاريخية هي: أنّ أحداً من العرب آنذاك لم يستغرب استعمالها أو ينكر معناها، أو يعيب على النبي (ص) قراءتها، وهم المتربصون به؛ بحثاً عما يبرر عدم إيمانهم برسالته والكتاب الذي أنزل عليه!، ويزداد الأمر غرابة أنهم لم يستعملوا بل لم يعهدوا مثل هذا الاستعمال !، إذن هذا أحد أسباب عدم عرض الأقوال كلها ومناقشتها، والسبب الآخر هو أنّ هذه الآراء في معظمها مجرّد استحسانات وتخمينات لا مستند لها، وقد رأى بعضهم وراج قوله هذا بين الناس: "من الأسرار الغريبة في هذه المقطعات أنها تصير بعد التركيب وحذف المكررات (...صراط علي حق نمسكه)." (تفسير الصافي،ج1/ص92)، بيد أنّه لا يختلف عن سائر الاجتهادات الشخصية والاستحسانات الظنيّة، فلم يخبرنا: لماذا لا يُصبّ هذا التركيب في جملة أخرى غير تلك، مثل: (وصح طريقك مع السنة) أو (نصٌ حكيمٌ قطعاً له سر) أو غيرهما؟!، وأياً يكن فنحن هنا نناقش رأيين منافيين لما سنرجحه لاحقاً، الأول منهما يرى "أنّها من المتشابهات التي استأثر الله تعالى بعلمها ولا يعلم تأويلها إلا هو هذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام (المجمع، ج1،ص75)، وصاحب الميزان وإنْ لم يقبل تصحيح هذا الرأي؛ لأن الحروف المقطعة لا دلالة لفظية لها، و "الإحكام والتشابه من صفات الآيات التي لها دلالة لفظية على مداليلها" (الميزان،ج18،ص8)، فهو يرى انتفاء موضوع المحكم والمتشابه فيها، ويغدو الحديث عن تشابهها من السالبة بانتفاء الموضوع كما يقال في المنطق، إلا أنّه جنح لرأي ليس ببعيد  كثيراً عمّا أبطله؛ فقد كتب: أن هذه الحروف رموز بين الله سبحانه وبين رسوله (ص) خفية عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها وبين المضامين المودعة في السور ارتباطا خاصا. (المصدر السابق).

الرأي الراجح ، ومعطياته

إنّ الرأي الذي تميل إليه المقالة مولَّفٌ من رأيين من العشرة التي عرضها الطبرسي، ونرى فيهما علاقة تكامل لا تضاد؛ إذ ينص الثامن على المراد منها: (حروف المعجم)، فيما العاشر يوضح الغرض من ايرادها: (تبكيت العرب والزامهم الحجة)، وحينئذٍ يكون معنى المقطعة في أوائل السور هي أحرف المعجم و الهجاء، والغرض من استعمالها القرآني في مطلع السور إقامة الحجة على وحيانية النص القرآني، وتتمثل تلك الحجة في أنّ مادة القرآن ومادة كلام العرب واحدة، وهي هذه الحروف، من ثمّ فالتحدي القرآني لهم، وعجز الخصم عن مجاراته والإتيان بمثله؛ برهانٌ جلي على كونه نصّاً معجزاً ووحياً من الله تعالى، وإلا لماذا عجز جميع العرب عن مجراته، ومادته متاحة لذلك الجميع في أشعارهم ورسائلهم وخطبهم؟!، ولعلّ أبرز سؤالين يواجههما هذا الرأي: لماذا اكتفى بأربعة عشر حرفاً من حروف المعجم، و لم يستعمل جميع حروف الهجاء؟ والسؤال الآخر: لماذا لم تذكر جميع الحروف المقطعة متفرقة على السور ألم يكن الأجدر أن تسرد في أول القرآن؟، وجواباً عن الأول، يفيد الطبرسي في تقرير الرأي الثامن: "استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تمام الثمانية والعشرين حرفا كما يستغني بذكر : قفا نبك ... عن ذكر باقي القصيدة، وكما يقال: أب، في (أبجد) وفي(أ ب ت ث) ولم يذكروا باقي الحروف، قال الراجز:

لما رأيت أنها في حطي، أخذت منها بقرون شمط

وإنما أراد الخبر عن المرأة بأنّها في (أبجد)، فأقام قوله: حطي، مقامه؛ لدلالة الكلام عليه "(المجمع: ج1،ص76)، وجواباً عن الآخر ينصّ الزمخشري : أنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلّف منها لا غير، وتجديدُه في غير موضع واحد، أوصلُ إلى الغرض، وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن، فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره. (الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل،ج1،ص30) .

ونحن إذ لا نجزم بهذا الرأي، غير أنّ شواهده وقرائنه متضافرة متكاثرة، وهي على كثرتها على قسمين:

الأول: داخلية، مستفادة من تتبع نفس سياق الاستعمال القرآني لها، وخلاصة هذه القرينة: اقتران الأحرف المقطعة بالحديث عن الاعجاز، وفي الأغلب تمثّل بالقرآن الكريم، بوصفه النص الوحياني المعجز للنبي محمد (ص)، وقد جاء ذلك بالفاظٍ مختلفة: الكتاب – القرآن - الآيات، وبعضها جمعت بين لفظين، كما أنّ بعض تلكم السور ابدأت وفي أول آية لها بـ(القرآن)، وختمتْ به، أدناه شاهد لكل هذه الأنحاء:

1ـ لفظ (الكتاب)، ففي أول استعمال لها في المصحف وبعد (ألم) تلاها مباشرة قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : 2]، وذات الاستعمال في سورة آل عمران، وحسب التتبع وجدتُ أكثر المقطعات قد استعمل بعدها هذا التعبير (الكتاب)، معرّفاً أو منكراً، باضافة أو بغيرها.

2ـ لفظ (القرآن)، كما في سورة طه؛إذ بعد الآية الأولى منها:(طه)، أُتبعت في الثانية بقوله تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [طه : 2]، وعين الأمر مع سورة يس.

3ـ آيات الكتاب أو القرآن، كقوله تعالى: في مطلع سورة يونس: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)، وقد جمعتْ سورة النمل النحوين: (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ) [النمل: 1].

4ـ وسورة (ق) هي التي ورد فيها لفظ القرآن في مطلعها وآخرها، ففي آيتها الأولى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق: 1]، وفي آخر آية : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) [ق: 45].

الثاني : خارجية، أي هي قرينة مؤيدة للمعنى للتفسير المتقدم للحروف المقطعة، و ليس هذا المؤيّد من داخل النص القرآني بل من خارجه، ويتمثل في خبرين مهمّين، ضمن الأخبار التي وضعها الصدوق في كتابه: معاني الأخبار، تحت باب : معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، وقد أورد فيه ستة أحاديث، جاءتْ في سياق بيان المعنى التأويلي والباطني للحروف المقطعة ـ ما خلا الحديث الرابع ـ وليس في ذلك قدحٌ أو تقليل من أحاديث التأويل وبيان المعنى الباطن للآية، كما ليس في إبراز أحد البطون واستجلاء بعض اسرار الكتاب  ما يتعارض مع الظاهر سيّما الذي قررناه آنفاً بخصوص الأحرف المقطعة؛ فإنّ للقرآن تأويلاً وله ظهراً وبطناً، ولبطنه بطناً إلى سبعـة أبطن، غاية الأمر: لا يمسّ باطنه من البشر إلا المطهّرون، ولا يعلم تأويله إلا الراسخون، من ثمّ تركنا تلكم الأحاديث لخروجها عمّا نحن فيه، وهو دراسة الحروف المقطّعة حسب ظاهر التنزيل، الأمر الذي جاء فيه حديثان عن أهل البيت، الأول هو رابع أحاديث الباب المذكور آنفاً، وهو حديث طويلٌ مرويٌّ عن الإمام العسكري عن آبائه (ع)، لكن نقتبس منه ما يؤدي الغرض ويتقرّر به الاستشهاد :

كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا : سحر مبين تقوّله، فقال الله : الم ذلِكَ الْكِتابُ، أي يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطعة، التي منها: ألف لام ميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثمّ بيّن إنّهم لا يقدرون عليه بقوله: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء : 88]...إلخ الحديث. (الصدوق-معاني الأخبار،ص24 )،وفي باب آخر، ورواية أخرى، رواها الصدوق أيضاً ،عن الإمام الرضا (عليه السلام) جاء في آخرها ما يدل على المطلوب بشكل واضح : " إن الله تبارك وتعالى أنزل هذا القرآن بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب ثم قال (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). ( الصدوق – معاني الأخبار، ص43، باب معاني حروف المعجم، ح1).

ختاماً: من هاتين الروايتين، ومن السياق القرآني في الاستعمال، تبيّن أنّ الحروف المقطّعة غير مقطوعة الصلة، لا عن العترة ولا عن الآيات والجمل القرآنية اللاحقة لها، وبوصلها بالكتاب والعترة يتضح معناها وينكشف مغزاها .