مترجم: المادية تتكئ على «قصة خيالية» لنشأة الحياة على الكوكب

- ماتي ليسولا و جوناثان ويت

أحد أركان الإيمان المادي هو قصة خيالية حول كيفية نشأة الحياة الأولى على كوكب الأرض. هنا أحد رواياتها:

"من الواضح أن البحار الأولية احتوت على كميات كبيرة من المركبات العضوية المختلفة التي جمعت وشكلت جزيئات عملاقة. أصبحت بعض الهياكل المستقرة بين تلك الأكثر شيوعًا ببطء. خطوة بخطوة من خلال إضافة عناصر جديدة حصلت على هذه الجزيئات خصائص جديدة. تعلمت الحصول على الطاقة الكيميائية من تفاعلات عمليات بنائها الخاصة. أصبح بإمكانها أن تنمو، وتنقسم وتجدد إلى بنى وهياكل مماثلة. ثم بدأت في الحصول على خصائص الكائنات الحية النموذجية"([1]).

عشرات الالاف من طلاب الثانوية الفنلنديين درسوا هذا النص منذ ١٩٧٤من كتاب مادة الأحياء. هذا مثال عن النموذج المسيطر للقصة الخيالية الذي لا يوجد له أساس في القوانين الطبيعية المعروفة، ولا في مبادئ التفاعلات الكيميائية.

فهل تسبب النص بفضيحة؟ هل كل أولئك العلماء القاسين والشائعين الذين يطالبون في أدلة قاطعة تسلقوا الى الحواجز محتجين؟ هل حصل الكتاب على "جائزة الكلام الفارغ"؟

من مجتمع العلماء التطوريين؟ لم يحدث شيء من هذا لان النص يناسب الرأي الطبيعي عن أصل الحياة.

رواية القصص واسعة الخيال عن أصل الحياة، الذي أيضاً يسمى بالتطور الكيميائي، لديها تاريخ طويل. بعد عشر سنوات من ظهور "أصل الأنواع"، الألماني النشوئي ارنست هيكل صنع رسومات تصور أصل الحياة الذاتي، بما فيها ما خمنه عن دورة تكاثر الكائن الوحيد الخلية الذي دعاه مونيرا([2]). ما صوره هنا لم يكن قد اكتشف في ذلك الوقت، ولم يكتشف منذ ذلك الحين، للسبب البسيط الذي هو أنه ليس موجود ولن يكن موجود. فقط كان التفكير الرجائي لمادي ملتزم. 

الصورة الرئيسية

الشكل 1.2 - دورة التكاثر المتخيلة للمونيرا كما رسمها ارنست هيكل

في نفس العصر، الانجليزي توماس هكسلي ألقى كلمة في الجمعية الجغرافية الملكية. تحدث هناك عن مادة تشبه الهلام وجدت في بقاع البحر. سماها Bathybius haeckeli إكراماً لهيكل، زميله التابع الدارويني، وأقترح أن طبقة لزجة من هذه المادة تغطي ربما المئات من الأميال (المربعة) في قاع البَحْر. صرح بأنها الرابط المفقود بين المادة غير العضوية والحياة العضوية. في الواقع كانت فقط عبارة عن ترسب شُكِّل عندما تم أضافة الكحول الى مياه البحر([3]). 

ساهم داروين الى هذا التقليد في رواية أصل الحياة بطريقة خيالية في رسالة سنة ١٨٧١ الى جوزيف هوكر:

"يُقال عادةً أن جميع شروط الإنتاج الأول لكائن حي موجودة في الوقت الراهن، ومن الممكن أنها كانت موجودة في أي وقت مضى. لكن فيما إذا – ويا لعظمة قولنا لهذه الـ"إذا"– إذا استطعنا تصوّر أنه في أحد المستنقعات الصغيرة الدافئة الذي يحوي جميع أنواع الأمونيا وأملاح الفوسفور والضوء والحرارة والكهرباء، بحيث يتم تشكيل بروتين جاهز للخضوع إلى تغيرات أكثر تعقيدًا، هذه سوف تتبدد أو تمتص في يومنا الحالي، لكن هذا لم يكن ليحدث قبل تشكل الكائنات الحية"([4]).

العلم التجريبي: ظهور تلقائي للحياة

مؤَكد انه من المعقول، مقابل رواية كهذه، أن نسأل ماذا يقول لنا العلم التجريبي عن أصل الحياة، من غير القصص الخيالية؟ جزء من الجواب هو أن، لبعض الوقت، العلم التجريبي بدا يقدم دعم تمهيدي لفكرة أن الحياة يمكن أن تظهر تلقائياً من مصادر مواد متواضعة.

الصينيون القدماء وجدوا أدلة على أن حشرات المن يمكن أن تولد تلقائياً من الخيزران. وتشير وثائق من الهند القديمة الى التكون التلقائي للذباب من التراب. واستنتج البابليون ان طين القناة يمكن أن يولد الديدان. ووافق مفكرون من مستوى أرسطو على عدم رؤية اسباب للشك في هذه الشهادات القديمة.

بعد ذلك، في عصر النهضة، الكيميائي الطبيب الفلمنكي جان ڤان هلمون كتب تعليمات حول كيفية الحصول على الفئران تخرج من قدور تحتوي على بذور رطبة والخرق القذرة.([5])

ولكن كيفية حدوث كل هذه الأحداث بقي لغزاً.

اكتشاف الكائنات الحية الدقيقة بدأ يلقي ظلالاً من الشك على فكرة أن الحياة تنشأ بانتظام وبسهولة من اللاحياة. في النهاية وعدت الاكاديمية الفرنسية مكافأة لمن يستطيع حل اللغز. لويس باستر حصل على الجائزة بعد ان اظهر بتجربة بارعة أظهرت أن الكائنات الحية-  وبالتحديد في قضيته، الكائنات الدقيقة-  لا تتكون بشكل تلقائي. التجارب في العقود التالية أكدت اكتشافاته. سرعان ما أصبح الرأي السائد: في السياق الطبيعي للأشياء، فقط الحياة تولد الحياة([6]).

لكن لم يتم التخلي عن الأمل على العثور ادلة تجريبية للتشكيل التلقائي للحياة. اتضح الان بأن فكرة الحياة من اللاحياة ليست جزءاً من المسار المعتاد للأشياء، لكن ربما كانت تنتمي الى العالم الاستثنائي ومنذ فترة طويلة، وربما من الممكن اظهار هذا الاحتمال في المختبر. البيوكيميائي الكساندر اوبارين في كتابه الروسي، المنشور عام ١٩٢٤ "أصل الحياة"، قدم فرضية قابلة للاختبار الجزئي عن كيف من الممكن ان يحدث ذلك. وعلى ما يبدو جون هالداين كان على غير علم بعمل اوبارين في اللغة الروسية عندما قدم اقتراح مماثل في اللغة الإنجليزية في ١٩٢٩. وبعد مرور حوالي جيل، في عام ١٩٥٣، أختبر ستانلي ميلر افكارهما.

قد وضعت صورة لمعدات ميلر (انظر الشكل 1.3) في كل كتاب علم الأحياء تقريباً منذ ذلك الحين. والحشود قد انقادت الى الاعتقاد انه بفضل تجربة ميلر تم حل مسألة أصل الحياة الى حد كبير، على الأقل في الخطوط العريضة.  

الأعلان العام في سنة ١٩٦٠ لعالم الحفريات المشهور جورج كايلورد سيمبسون في مجلة العلوم كان نموذجي. كتب سيمبسون" الاجماع هو ان الحياة نشأت بشكل طبيعي من اللاحياة وحتى الكائنات الحية الاولى لم يتم إنشاؤها بشكل خاص، حقاً لقد أصبح الاستنتاج حتمياً، لأن الخطوات الاولى في تلك العملية قد تكررت بالفعل في العديد من المختبرات"([7]). 

ولكن هنا أيضا جئت لأرى أن ما كان تدعيه كل من الكتب المدرسية والمصفقون للمادية العلمية في العلن هو في الحقيقة مختلفٌ تماماً عما كان يقوله المتخصصون العلميون فيما بينهم. من وقت لآخر كنتُ اواجه مقالاً أو كتاباً من قبل بعض العلماء المحترمين في هذا المجال معربين فيه عن عدم إحراز تقدم. وهذه الاعترافات لم تأت بعد أسابيع أو أشهر من تجربة ميلر، ولكن بعد سنوات وعقود.

الصورة الرئيسية

صورة ١.٣ رسم تخطيطي لتجربة ميلر 

 

([1]) Veikko Sorsa et al., Lukion Biologia (Helsinki, Finland: WSOY, 1974), 219.

([2]) Ernst Haeckel Natürliche Schöpfungs-Geschichte (Berlin: Reimer, 1868), 184. English version: The History of Creation, trans. E. Ray Lankester (New York: D. Appleton & Co., 1876).

([3]) Willy Ley, Exotic Zoology (New York: Viking Press, 1959), 409–11.

([4]) Charles Darwin to Joseph Hooker, February 1, 1871, in the University of Cambridge’s Darwin Correspondence Project, https://www.darwinproject.ac.uk/letter/DCP-LETT-7471.xml.

([5]) André Brack, “Introduction,” in The Molecular Origins of Life: Assembling Pieces of the Puzzle, ed. André Brack (Cambridge, England: Cambridge University Press, 1998).

([6]) Siegfried Scherer and Reinhard Junker, Evolution - Ein Kritisches Lehrbuch (Gießen, Germany: Weyel, 2013), 90-108.

([7]) George Gaylord Simpson, “The World into Which Darwin Led Us,” Science 131, no. 3405 (1 April 1960): 966, http://science.sciencemag.org/content/131/3405/966.