كيف تنهانا الصلاة عن الفحشاء والمنكر؟!

يجب الالتفات – أساساً – الى أن العامل الرئيسي لصدّ الانسان عن المعاصي هو الايمان وذكر الله تعالى؛ فالإنسان الغافل عن ذكر الله لا يفكر بعاقبة أعماله وأفعاله، ولا يؤمن بوجود حدّ لإشباع رغباته وغرائزه الجامحة.

وعلى العكس من ذلك، فان ذكر الله – الله الذي يعلم بكافة أعمالنا صغيرها وكبيرها، الله الذي يعلم بما يدور في خواطرنا – يصدنا عن الاستبداد واتباع الأهواء وتجاوز الحدود.

إن الطريق الطبيعي والمؤثر والدائم للحدّ من غرائزنا ورغباتنا اللا مشروعة هو ذكر الله، وذكر مقام أولياء الله، وذكر جزاء المسيئين وثواب المحسنين.

القرآن الكريم عرف المؤمنين بالشكل التالي: «رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكاة» [2]، وجدير بالذكر أن الغفلة عن الله والابتعاد عنه يفضي الى خمول العقل وكدورته واضمحلال إشعاع نور الوجدان.

لقد أولى أمير المؤمنين (عليه السلام) ذكر الله أهمية خاصة فقال بهذا الخصوص: (إن الله جعل الذكر جلاء للقلوب، تسمع به الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة) [3].

اعتبر الإمام علي (عليه السلام) الغفلة في الحديث المذكور نوعاً من الصمم والعمى للقلوب، يؤدي الى عصيان ومعاندة وعداء الانسان للحق والحقيقة، وفي إزاء ذلك يعتبر ذكر الله مدعاة للإصغاء وتنوير القلوب، ويحدّ من جموح الغرائز، ويجنبها مجافاة الحقيقة.

بناء على هذا البيان، يعدّ الفرد الغافل عن الله وثوابه وعقابه كفرد أعمى وأصم راكب على جواد جامح، فمما لا شك فيه أن هذا الجواد سيضرب به الحجر والمدر ويلقيه في غياهب الأودية؛ لكن من يمتلكون قلوباً يقظة ومولعة بذكر الله يشاهدون نتائج أعمالهم عن كثب، ويصغون الى كلام الحق، ويحكمون سيطرتهم على نفوسهم الامارة بالسوء عبر ذكر الله.

قال الإمام الباقر (عليه السلام) موصياً أحد محبيه: «ذكر الله على كل حال، وهو أن يذكر الله عند المعصية، يهمّ بها فيحول ذكر الله بينه وبين المعصية» [4].

وقال الأصبغ بن نباتة: قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «اذكر الله في حالتين: الأولى عند المصيبة، والثانية حينما تذنب، والثانية خير من الأولى؛ لأن ذكر الله يحول بين المرء وارتكاب الذنب».

بدهي أن للتوجه الى الله مراتب، لا تتساوى بتاتاً، وقد تصل – أحياناً – الى مرتبة يُعصم فيها المرء عن اقتراف الذنب فيصبح محالاً عادياً بالنسبة له، أولئك أفراد ينعمون بقلوب مطمئنة وأرواح متيقظة وأبصار متوهجة وأسماع صاغية ونفوس مطيعة.

أغلب الناس يذكرون الله بدرجة متوسطة، فعلى سبيل المثال هناك أشخاص يرتكبون بعض المعاصي والآثام، لكنهم في الوقت ذاته غير مستعدين – أبداً – لإراقة دم انسان، أو أكل مال اليتيم، أو الاعتداء على ناموس شخص آخر؛ لأنهم يعلمون يقيناً أن العقاب الالهي في هذه الموارد شديد جداً، فيبدي وجدانهم مقاومة إزاء اقتراف هذه الذنوب.

وأحياناً يضعف ذكر الله لدى البعض بحيث يظهر بصورة أرضية للإقلاع عن الذنوب، ولربما وجدت عوامل قوية أدت الى إلغاء أثر هذه الأرضية، لكن كلما استطاع الانسان أن يذكر الله بهذا الشكل الضعيف وكما يصطلح عليه بالعلة الناقصة، استطاع أن يعزف عن الكثير من الذنوب.

الصلاة وسيلة لذكر الله:

أحد أهم أسرار الصلاة هو أنها تذكر الانسان بالله تعالى؛ فالقرآن الكريم ذكر أن فلسفة الصلاة هي ذكر الله إذ قال: «أقم الصلاة لذكري» [5]، ومن الجلي أن الصلاة - بما أنها عبادة ويجب أداؤها بقصد القربة-  توجب ذكر الله.

وبغض النظر عن هذا، فان المصلي في صلاته يتلفظ بأذكار وجمل تبعث جميعها على ذكر الله والتوجه إليه؛ فعلى سبيل المثال سورة الحمد التي نقرأها في الصلاة تتضمن الثناء على الله وبيان صفاته وأفعاله، ومن ثم طلبات العباد المختلفة منه تعالى وبقية الأذكار تصب جميعاً في هذا المضمار.

إن وقع الصلاة علينا يتمثل بتعزيز روح الايمان والتوجه نحوه جل وعلا، وهذا التوجه – كما قلنا آنفاً – له درجات ومراتب، والأفراد الذين لا يتورعون عن ارتكاب الآثام لا يكون ذكر الله بالنسبة لهم سوى أرضية للانطلاق وليس علة تامة.

وبعبارة أخرى: «إن الردع أثر طبيعة الصلاة التي هي توجه خاص عبادي الى الله سبحانه، وهو بنحو الاقتضاء دون الاستيجاب والعلية التامة، فربما تخلف عن أثرها لمقارنة بعض الموانع التي تضعف الذكر وتقربه من الغفلة والانصراف عن حاق الذكر» [6].

وبإيجاز، إن كانت الصلاة صلاة واقعية ستترك أثرها حيال الذنوب لدى كل شخص؛ فتارة يكون هذا التأثير قوياً وتارة يكون أضعف، فشدته وضعفه تختلف باختلاف الذنوب والصلاة نفسها ، فكلما كانت الصلاة أعمق وأكمل كان أثرها التربوي في تفادي الوقوع في الحرام أشد وأكبر.

وبالتغاضي عن كل ذلك، فان صلاة المصلين تحول دون ارتكابهم الكثير من الذنوب عملياً، وفي الوقت ذاته تمهد لترك بقية الذنوب؛ لأن المصلي مضطر لترك الكثير من الذنوب في سبيل قبول صلاته، فمثلاً أحد شروط قبول الصلاة مشروعية وإباحة جميع ما يستعمل في الصلاة ومقدماتها كماء الوضوء والغسل والمكان ولباس المصلي؛ وهذا الموضوع من شأنه أن يؤدي الى ترك أغلب الذنوب وتجنب التكسب بكل أنواع الحرام؛ لأن من العسير جداً أن يلتزم الشخص بحلية وإباحة ما يتعلق بالصلاة فحسب وعدم الورع إزاء بقية الموارد.

والشاهد على هذا الكلام هو: «اذا تأملت حال بعض من تسمى بالإسلام من الناس وهو تارك الصلاة، وجدته يضيع بإضاعة الصلاة فريضة الصوم والحج والزكاة والخمس وعامة الواجبات الدينية، ولا يفرق بين طاهر ونجس وحلال وحرام، فيذهب لوجهه لا يلوي على شيء، ثم اذا قست إليه حال من يأتي بأدنى مراتب الصلاة مما يسقط به التكليف، وجدته مرتدعاً عن كثير مما يقترفه تارك الصلاة غير مكترث به، ثم اذا قست إليه من هو فوقه في الاهتمام بأمر الصلاة وجدته أكثر ارتداعاً منه، وعلى هذا القياس» [7].

والخلاصة: تترك الصلاة نوعاً من الأثر التربوي على المصلين قاطبة –سواء كان هذا التأثير شديداً أو ضعيفاً – فشدته وضعفه يعتمد على كيفية إقامة الصلاة وآدابها وروحها.

*المقال رداً على سؤال: أحد آثار الصلاة – حسب وجهة نظر القرآن الكريم – هو حيلولتها دون ارتكاب الانسان للفحشاء والمنكر , حيث قال جل وعلا :" وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكرِ" [1] , ومع هذا يلاحظ أن الكثير من المصلين يرتكبون المعاصي والمنكرات , ولم تترك الصلاة أثرها في أقوالهم وأفعالهم , ففي هذه الحالة ما معنى الآية المذكورة آنفاً؟

الهوامش:

[1]. سورة العنكبوت، الآية 45.

[2]. سورة النور، الآية 37.

[3]. نهج البلاغة (عبدة)، الخطبة 220.

[4]. سفينة البحار، ج1، ص486.

[5]. سورة طه، الآية 14.

[6]. الميزان، ج16، ص141.

[7]. نفس المصدر.