لا تنسَ ما كنت عليه فحالة التوازن مطلوبة!

إخوتي أخواتي، بين فترةٍ وأخرى نستعرض بعض الآيات القرآنيّة الشريفة لتسليط الضوء على بعض الحالات التي يمرّ بها الإنسان، وأيضاً لإيجاد الحلول لها بقدر ما يسمح به الوقت، في سورة (فُصّلت) سأستعرض ثلاث آياتٍ شريفة ثمّ نرجع نستظهر منها بعض ما نستفيد منه، قال الله تبارك وتعالى في هذه السورة المباركة في الآية التاسعة والأربعين: «لَّا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ» ثمّ يقول: «وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ» ثمّ في الآية الحادية والخمسين: «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ».

أصل القضيّة التي تتناولها الآيات الشريفة هي أنّ الإنسان يفقد حالة التوازن، وطبعاً إخواني كثيراً ما يكون كلٌّ منّا يفقد حالة التوازن، فالإنسان يمرّ بحالة عُسر وحالة يُسر، وهذه الحالات عندما تمرّ نجد أنّ البعض لا يستفيد منها استفادةً حقيقيّة بالرجوع الى حالة التوازن، وإنّما يبقى دائماً قلقاً ويبقى دائماً مهزوزاً ويبقى دائماً يحبّ مصلحته الشخصيّة، بل يدافع عنها دفاعاً مستميتاً وإن تأذّى مَنْ تأذّى بسببها من الآخرين.

الخروج من الأزمات

لاحظوا أضرب مثلاً بسيطاً، الآن مسألة الحصار مقصود الحصار الاقتصاديّ، تمرّ بالشعوب وعموم الناس أن يُحاصر هذا المجتمع أو الشعب لسببٍ أو لآخر، أنا لا أتحدّث عن الأسباب إنّما أتحدّث عن حالة مَنْ يمرّ بحالة الحصار، فعندما يمرّ بحالة الحصار يدعو الله تبارك وتعالى ويسعى بكلّ ما أوتي من قوّة حتى تُرفع عنه هذه الحالة، وفي هذه الأثناء يُحاول أن يقنّن ويقتصد بعموم مصروفاته، تجده لا يبذّر وتجده قد يتشارك مع صاحبه من أجل الخروج من الأزمة، بمجرّد أنّ الله تعالى يفتح عليه رجع الى ما كان قد تعوّد عليه قبل الحصار، مبذّراً تاركاً لجميع التصرّفات التي فيها مشاركة مع الغير في المؤاساة، ويحبّ أن يقدّم مصلحة نفسه لأنّه تمكّن، إنسانٌ يمرض يرجع الى فطرته الى ربّه ويبدأ يُعطي أيماناً ووعوداً بمجرّد أنّ الله تعالى يمنّ عليه بالشفاء سيكون إنساناً سويّاً، وعندما يمنّ الله تعالى عليه بالشفاء يبقى يوماً أو يومين ثمّ يرجع الى تلك الحالة التي كان عليها بل قد يكون أشدّ.

إنسانٌ يُسجن لسببٍ أو لآخر، كان يمشي على الأرض مرحاً وكان عندما يمشي لا يطيقه أحد كأنّه إله، وتجده يظلم هذا ويتجاوز على هذا وبمجرّد أن يُسجن يرجع الى فطرته والى سلامة هذه الفطرة، فيبدأ يُعيد النظر في سلوكه ويُعطي وعوداً ما شاء الله، وبمجرّد أن يخرج يبقى يوماً أو يومين أو أسبوعاً ثمّ يرجع الى تلك الحالة، حالة التوازن تنفقد عند الإنسان لأنّ هناك حالةً من الغرور لا يقوى على مجابهتها وحالة من الأنفة لا يقوى على مجابهتها، حالة من التكبّر يرى نفسه في عالمٍ آخر غير عالم الآخرين، الله يُريه حقيقة وضعه في الدنيا، تبدّل الأطوار على الإنسان -إخواني- نافع جدّاً، أنّ الإنسان يرى تقلّبات الحياة عليه هذه أمورٌ نافعة، الزهراء(عليها السلام) عندما خَطَبتْ ماذا قالت لهم؟ قالت: «تخافون أن يتخطّفكم الطير».

لا تنس ما كنت عليه!

لابُدّ أن لا تنسوا الماضي، الإنسان كان اقتصاديّاً غنيّاً أو فقيراً لا تنسَ ما كنت عليه، كان سياسيّاً مطارداً يخاف من رائحة الظالم، الآن الله تعالى مكّنه لا تنسَ ما كنت عليه، إنسانٌ نكرة الله تعالى يجعله في صفٍّ آخر لا تنسَ فالله تعالى الذي أعطاك قادرٌ على أن يسلبك «وَبِالشُّكْرِ تَدُومُ النِّعَمُ»، لا يتصوّر الإنسان أنّ الحال هو الحال بالعكس، لابُدّ أنّ السياسي والاقتصادي والميسور بل الكلّ يحفظ مقولة (دوامُ الحال من المُحال) فلابُدّ للإنسان أن يتّعظ.

يقول: «لَّا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ» يعني من طلب الخير لا يسأم، يبقى دائماً لا يكلّ ولا يملّ، هذا أمرٌ شخصيّ يعود له، لاحظوا مصلحته الشخصيّة لا يسأم منها، يبدأ مالاً له جاهاً له كلّه له لا يسأم منه، «وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ» بسجنٍ أو مرضٍ أو فقر فتجده إنساناً آخر تعلوه هذا الوضع الشخصيّ أقول (فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) ليس له أيّ أمل، لأن حدّه محدود -التفتوا إخواني- لأنّ عقله في طور نفسه يرى الخير بنفسه ويرى الشرّ أيضاً بنفسه، لا يرى الآخر، عندما نقول مصلحة شخصيّة يرى الأمور كلّها لابُدّ أن تمرّ من خلاله، إذا كان هو بخير يعني المصلحة العامّة بخير وإذا هو في شرّ يعني المصلحة العامّة في شرّ، وهذا ليس مرضاً بل هو من أقبح الأمراض، الإنسان لا يستطيع أن يرى، وإن رأى في أفضل الحالات يرى بعينٍ واحدة.

ثمّ يقول: «وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا...» متى؟ التفتوا «...مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ» أعتقد أنّ كلّ واحدٍ منّا يمرّ بهذا الظرف، الله تعالى يفتح ويفرّج من بعد سوءٍ ويأس وأذيّة وألم، ماذا يفعل الإنسان؟ هذا يريده الإنسان وأنا لا أستطيع أن أستعرض بعض النماذج الآن واقعاً لأنّ الكلام يطول بنا كثيراً، نماذج من هذا القبيل كثيرة وتنطبق عليهم هذه الصّفات، قال: «وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي» تتذكّرون حديث قارون عندما قال: «إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي» أي هذا بجهدي أنا ولولاي ولولا ذكائي لم أحصل على ذلك، وهذا أيضاً من سفاهة الإنسان، فهو يتصوّر الأمور على غير واقعها، والإنسان يحتاج واعظاً، إن كان واعضاً من نفسه فهذا هنيئاً له، أو هو يتّعظ بالآخرين أيضاً هنيئاً له، تارةً لا واعظ من نفسه ولا الأحداث تجعله يتّعظ فيحتاج الى واعظٍ ينبّهه ويقول له: الهوينا الهوينا!! هذه الأرض لا تمشِ عليها مشيةَ مَنْ يرى نفسه إلهاً يُعبد! لابُدّ أن تتواضع ولابُدّ أن تهدأ وهذه الأيّام دول! الله تعالى يريك فلابُدّ أن تحافظ، إن جاءت نعمةٌ اشكرْ وحافظْ وإن جاء سوءٌ فاصبرْ، لعلّ الله تعالى يفتح.. الغرض إخواني حالة التوازن مهمّة، يقول هذا لي «لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي».

ثمّ قال: «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ» هذا صنفٌ آخر قد يُشبه الأوّل من جهة لكن مع ذلك قال: «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ»، قال: ليست لي علاقة بأحد! لماذا؟ النكتة الأولى يرى نفسه، قال أنا الآن في بحبوحة من العيش ومن الجاه ومن السُّلطة فليست لي علاقة بأحد المهمّ أنا «أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ»، هناك آخرون مُتعبون ليست له علاقة بهم، نعم.. إذا مسّه الشرّ هو هذا «وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ...» يكون الأمر آخر «...فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ» قال: لا.. الآن لابُدّ أن أتوجّه.

لاحظوا هذه الشخصيّة القلقة التي لا ترى إلّا نفسها، لا يتحسّس بآلام الآخرين المهمّ هو، هذا التوازن مطلوب أنّ الإنسان لا يفكّر بهذه الطريقة، وهذه الآيات أشبه بسوطٍ يقرعُ القرآن به أيّ أحد لا يحبّ التوازن، وبالنتيجة الإنسان الى أين يذهب؟! يعني ما بعد هذا الإنسان الى أين يذهب؟!! واقعاً إخواني الذي ينظر للدنيا يجد أنّ هذا الإنسان يحتاج الى عقل، ينظر للدنيا بعين البصير أي عنده بصيرة عندما ينظر الى هذه الدنيا، عاقل يرى أنّ الدنيا عجيبة غريبة، وكما هو الإنسان كان لا شيء وأصبح شيئاً أيضاً يُمكن أن يكون لا شيء، فعليه أن يكون متواضعاً ويعرف حدوده، مشكلتنا «قُتِلَ الإِنْسانُ مَا أكْفَرَهُ» لا نعرف الحدود، الإنسان لابُدّ أن يعرف حدوده حتّى يتّزن ويمشي مشية هادئ كما أراده الله وكما خلقه الله تعالى، أمّا الإنسان يميل يميناً وشمالاً وقال فلان وتكلّم والقيل والقال، فجأةً يرى الإنسان نفسه واقعاً كما قال: هذا ذو دعاءٍ عريض، ولعلّه لم يُستَجَبْ له لأنّه خرج أصلاً عن هذا السمت الخاصّ سمت الوقار وسمت الهدوء.

إخواني لا أريد أن أتكلّم أكثر لكنّ حالة التوازن عند الإنسان العاقل مطلوبة، وهذه الأمثلة أمثلة لغير المتوازن أمثلة للقَلِق أمثلة للذي يحبّ نفسه حبّاً جمّاً ويغلّب مصلحته الشخصيّة دائماً على المصالح الأخرى، دائماً يرى الأمور مقصورة به إن كان جيّداً فالناس جيّدون وإن كان غير جيّد فالناس غير جيّدين، وهذا مرض على الإنسان أن يكون أكثر تعقّلاً وأكثر هدوءً.

عسى الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول ويتّبعون أحسنه، اللهمّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، تابع اللهم بيننا وبينهم بالخيرات، وأرنا في أحبّتنا كلّ خيرٍ واحفظ الجميع بحقّ محمدٍ وآله، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

* الخطبة الثانية لصلاة الجمعة بإمامة السيد احمد الصافي 7/ شوال/ 1439هـ الموافق 22 /6 /2018م