حرية العقيدة في حكومة الإمام علي (ع)

صرَّح الإسلام بحرية العقيدة، وقد وردت في ذلك آيات قرآنية صريحة الدلالة بحرية الانتماء الديني والعقدي، ولم يُؤثر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّه أجبر شخصاً على الإسلام، وإنَّما كان يدعو إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة، وحتَّى عندما أسَّس الحكومة الإسلامية في المدينة المنورة، فإنَّه لم يلغِ الآخر المختلف، وإنَّما أسَّس لعلاقاتٍ سلمية مع النصارى واليهود الذين كانوا في المدينة المنورة، وقد عقد معهم المعاهدات التي تنظِّم الحقوق والواجبات، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يتعامل معهم ولم ينعزل عنهم، وقد استمرَّ على ذلك مدَّة حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) مُطبِّقاً لمبدأ حريَّة العقيدة الذي نادى به القرآن الكريم في قوله تعالى : ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) [سورة البقرة: 256] .

وقد سار على هذا المنهج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فكان معترفاً بالآخر المختلف طيلة مدَّة حكمه، ولم يسعَ في يومٍ ما إلى إلغائه أو التجاوز على حقوقه أو واجباته، وإنَّما كان الآخر فرداً من أفراد دولته له ما للمسلمين وعليه ما عليهم . وهناك شواهد كثيرة على ذلك تحكي قمَّة التعامل الإنساني الذي كان أمير المؤمنين يتعامل به مع المختلف معه في العقيدة سواء أكان المختلف مسلماً بأن يرى الدين من منظار مخالف له أم كان غير مسلم.

ومن المواقف التي تشير إلى حرية العقيدة في حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) ما نُقل عنه (صلوات الله عليه) أنَّه ((مرَّ شيخ مكفوف كبير يسأل فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ): ما هذا ؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين نصراني: فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ): استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه ! ! انفقوا عليه من بيت المال))([2]) .

فلم تقف عقيدة النصراني حائلاً بينه وبين حقوقه، وإنَّما كان على الرغم من عقيدته المخالفة للدين الإسلام صاحب حقوق في نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) له كرامته التي أقرَّها له القرآن الكريم، قال تعالى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)) [سورة الإسراء: 70] .

هذا على مستوى الآخر المختلف غير المسلم، وأمَّا من تجري عليه أحكام الإسلام، وهم مختلفون مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في فهم الدين والعقيدة، فهم كذلك كانت لهم حرِّيتهم في العقيدة، وما كان من أمير المؤمنين (عليه السلام) إلَّا أن نصحهم وأوضح لهم طريق الحقِّ والصراط القويم، ولم يُجبر أحداً منهم على عقيدةٍ معينة . ومن أولئك الخوارج الذين خرجوا على حكمه (صلوات الله عليه)، وهؤلاء وصل بهم الأمر أن كفَّروا أمير المؤمنين (عليه السلام) إلَّا أنَّه لم يتعرَّض لهم ما لم يُقاتلوه، وفي شواهد كثيرة منها: ((قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لَمَّا اعْتَزَلَتِ الْخَوَارِجُ دَخَلُوا رَأْيًا وَهُمْ ستة ألف وَأَجْمَعُوا أَنْ يَخْرُجُوا عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ. قَالَ: وَكَانَ لَا يَزَالُ يَجِيءُ إِنْسَانٌ فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْقَوْمَ خَارِجُونَ عَلَيْكَ- يَعْنِي عَلِيًّا- فَيَقُولُ: دَعُوهُمْ فَإِنِّي لَا أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُونِي وَسَوْفَ يَفْعَلُونَ)) ([3]). ومن ذلك أيضاً أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يخطب في الناس ((فَقَالَ رجل من جانب المسجد: لا حكم إلا لِلَّهِ، فقام آخر فَقَالَ مثل ذَلِكَ، ثُمَّ توالى عدة رجال يحكمون، فَقَالَ علي: اللَّه أكبر، كلمة حق يلتمس بِهَا باطل، أما إنَّ لكم عندنا ثلاثا مَا صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد اللَّه أن تذكروا فِيهَا اسمه، وَلا نمنعكم الفيء مَا دامت أيديكم مع أيدينا، وَلا نقاتلكم حَتَّى تبدؤونا، ثُمَّ رجع إِلَى مكانه الَّذِي كَانَ فِيهِ من خطبته.

قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنَا عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْوَلِيد، أن حكيم بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيد البكائي كَانَ يرى رأي الخوارج، فأتى عَلِيًّا ذات يوم وَهُوَ يخطب، فَقَالَ:

((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)) [سورة الزمر: 65] ، فقال علي [عليه السلام]: ((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ[سورة الروم: 60]))([4])

وهكذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مطبِّقاً لأحكام الشريعة في احترام حريَّة العقيدة، سواء أكان المختلف معه تجري عليه أحكام الإسلام أم كان من الذين يدينون بغير الإسلام، وهذا الحق هو ما يُنادى به اليوم، إذ يُعدُّ من أرقى ما وصلت له الإنسانية في تحضُّرها المعاصر .

الهوامش:

 ([1]) تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، المتوفى : 460، تحقيق : تحقيق وتعليق : السيد حسن الموسوي الخرسان، خورشيد، الطبعة : الرابعة، 1365 ش: 6/293

 ([2])المعرفة والتاريخ، يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي الفسوي، أبو يوسف (المتوفى: 277هـ)، تحقيق: أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة: الثانية، 1401 هـ- 1981 م : 1/522

([3]) تاريخ الرسل والملوك (تاريخ الطبري) ، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)، دار التراث – بيروت، الطبعة: الثانية - 1387 هـ : 5/73

*نقلاً عن موقع مؤسسة علوم نهج البلاغة