تربية وخبرة: كيف يطبخ القرار لدى المرجعية الشيعية؟ -1-

- الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة رأي موقع «الأئمة الاثني عشر»

(الحلقة الأولى)

رحلة في مجالس العلماء، ستغير نظرتك:

 الله وهبك العقل، كيف تجعله تابعاً للعلماء وهم بشر مثلنا يشتبهون و ليسوا معصومين؟!

 ما هذا التقليد الأعمى للمراجع في كل شيء، هؤلاء المقلدين مثيرون للشفقة لانهم لا يتجرؤون على التفكير الحر!

 ما هذا الإرهاب الفكري الذي يمارسه العلماء باستغلال حديث (الراد عليهم كالراد على الله) ويخوفون به البسطاء لنصل الى مرحلة (نفذ ولا تناقش)

 ما هذا الاستغلال لسلطة الله؟!

_________________

 هذه الكلمات وأمثالها، نسمعها كثيراً ممن ينادون بثقافة التحرر من طاعة المرجعية الدينية، وبعضهم للأسف من أحزاب ومدارس تدعي أنها إسلامية، ولم تذق طعم الإسلام يوماً، ولكن،  حسد النفوذ وانعدام الثقة بالنفس يظهر ما في صدروهم من الضغينة، وماقي عقولهم من الفراغ، ليرددوا كالببغاء ما يسمعونه.

ومن هنا علينا أن نتساءل هل من الصحيح أن كل هذا الوجود المهم للشيعة بنخبهم المثقفة وفعالياتهم الأكاديمية وامتدادهم العالمي، يمكن الحكم عليه بالسذاجة والتخلف لطاعته للمرجعية الشيعية؟!!

أم العكس هو الصحيح، وأن هذه المركزية القيادية والمحورية الإيديولوجية أعطت زخماً قوياً لهذه الطائفة تفتقر له أرقى شعوب العالم في تحريك طاقتها، ومكنتها من امتصاص الصدمات الشديدة الرامية الى إبادتها، وأن التخلف الحقيقي هو ما يعيشه هؤلاء المشككون من تخبط وعشوائية وارتماء في أحضان الاغتراب الفكري والثقافي؟!!

 ومن هنا، لكي نعرف حقيقة الأمر، علينا أن نطلب الإذن، بالدخول الى (براني) المرجع الديني، ونجلس هناك بهدوء ونراقب كيف تدور الأمور، وكيف يتم طبخ القرارات التي تحفظ الطائفة، وماهي العوامل التي تساهم في صنع المواقف التاريخية لمرجعية الشيعة، وما أطلبه منك فقط قارئي العزيز، هو بعض الصبر على إطالتي، فالجلوس في تلك الغرف التي يرتبط بها مصير المذهب، يحتاج تحملاً عالياً للمسؤولية لا يقدر عليه كل إنسان.

أولاً:  العامل التربوي (الصقل بالروايات): 

يقول الإمام الصادق عليه السلام (اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا) الكافي ج٢/ص٥٠

بمعنى، أن نضوج الإنسان ومعرفته وبالتالي منزلته ستزداد، كلما قرأ روايات وسيرة  أهل البيت وانصهر في ثقافتهم وطريقتهم في التعامل مع الأحداث.

 إنك لا تعرف طعم هذا الكلام حتى تجربه بنفسك، وتذوق حلاوة كلامهم ولذة تطبيقه،  ولك ان تتخيل كم من الدقة في النظر للأحداث يمكن أن ينالها الإنسان إذا تعلم في مدرسة سادة العقل والمعرفة عليهم السلام .

وفي الزيارة الجامعة نقرأ في وصفهم عليهم السلام (كلامكم نور وأمركم رشد) بمعنى أن الذي يذوب في ثقافتكم لن تظلم أمامه السبل لأنه يحمل نور وصاياكم التي تنير له السبيل.

 وإليكم هذا المثال: 

ربما لو كان أحدنا مكان سماحة السيد الخميني قدس سره وما تعرض له من إساءة بعضهم، أو مكان سماحة السيد الخوئي قدس سره وما تعرض له من تهم، أو مكان سماحة السيد السيستاني دام ظله وهذا السيل من الدعايات المغرضة، ربما لوصلنا الى مرحلة الانفجار النفسي وتركنا العمل، وقلنا أن هذا المجتمع لا خير فيه.

ولكن يا ترى ماهي الروح التي يحملها هؤلاء العظماء ليستمروا في طريقهم بكل ثبات؟؟

 وعندما تدقق النظر تجد أن العامل التربوي هو السبب، حيث لا تفارقهم دروس أيام الصبا التي تعلموها من روايات أهل البيت عليهم السلام:  

كقول علي عليه السلام (الصبر على مضض الغصص يوجب الظفر بالفرص) غرر الحكم .

وقوله عليه السلام (لا ينعم بنعيم الآخرة إلا من صبر على بلاء الدينا) غرر الحكم .

 ومثال آخر حول تصريحات العلماء التي قد لا تعجب البعض:  

 ما يلاحظه المتتبع لسيرة المجدد الشيرازي صاحب ثورة التنباك عندما توسل اليه السفير القاجاري أن يدلي بأي تصريح محاولاً اكتشاف نواياه في ضرب الشركات البريطانية فلم يقل السيد شيئا سوى (الله كريم)، والسيد الخميني خلال جهاده كان قليل الحديث عن تفاصيل ما بعد الثورة وكان تركيزه منصباً على إسقاط الشاه فقط بحيث استطاع توحيد المعارضة التي عادة ما تتصارع على غنائم السلطة.

 والسيد السيستاني الذي كان -ولايزال- قليل الحديث عن التفاصيل ليحتفظ بعنصر المفاجأة في قراراته، وهذه الدقة في التعامل مع التصريحات إنما تربى عليها العلماء في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، قال أمير المؤمنين عليه السلام  (إياك وفضول الكلام فإنه يظهر من عيوبك ما بطن ويحرك عليك من أعدائك من سكن) غرر الحكم.

 وقس على ذلك ما في روايات  اهل البيت من قوانين التعامل مع العدو والصديق والحرب والسلم والقوة والضعف وحالة الهجوم وحالة الدفاع والجانب الأخلاقي من وفاء وعدم غدر وعدم تمثيل وظلم  وووو .

 فالعامل الأول، في صياغة القرار هو عامل التربية في مدرسة المعصومين عليهم السلام، فيكون القرار منسجماً مع ما يريده الأئمة الأطهار عليهم السلام .

العامل الثاني:  (تراكم الخبرة)

لم يقم السيد الخميني بثورته المباركة بدون دراسة عملية وخبرة طويلة للشارع الايراني ومدى استعداده، فالثورية لا تعني اطلاق الخطب النارية بدون نظر للظروف الممكنة والمحيط المؤثر. فقد عاصر سماحته معاناة السيد البروجري، وشاهد عمليات نواب صفوي، والجهود السياسية للسيد حسن المدرس، وحكومة مصدق وكيف تعامل الغرب معها وكيف انتفض الشعب في ثورة خرداد، هذا التراكم الذي يختزنه العالم في عقله ووجدانه يجعله لا يشتبه في تحديد المواقف ومعرفة النوايا وقياس مكامن القوة والضعف، ولكي يتضح لديكم هذا المعنى للتراكم الخبروي، سأضرب مثالاً بشخص موجود بيننا وهو سماحة السيد السيستاني دام ظله:

 سماحته من مواليد العام 1930، وخرج من إيران الى العراق وعمره 20 سنة، وبحكم انتمائه العائلي والحوزوي فقد كان في قلب معاصرة الأحداث في إيران والعراق، فهو قد:  

 عاصر حكومة الشاه رضا بهلوي الذي انقلب على آخر الملوك القاجاريين أحمد شاه، وشاهد كيف وصل الحال بهذا الحاكم الشيعي -بحسب هويته-  فحارب الدين والعلماء ومنع الحجاب في إيران، وشاهد عن كثب طريقة العلماء المجاهدين -ومنهم أستاذه الميرزا مهدي الأصفهاني- في الحفاظ على أحكام الإسلام .

وعاصر حكومة محمد رضا بهلوي الذي خلع والده بمساعدة الإنگليز واستلم الحكم وشاهد ما قام به من تنازلات للغرب، ونفاقه أيضاً في دعواه حماية الشيعة بينما كان محارباً لعلماء الدين مستهتراً بأحكام الإسلام وكيف قام برمي طلاب الحوزة من اعلى سطح المدرسة الفيضية في قم، وسمح لنشاط عملاء الإنگليز البهائية -مدعي المهدوية- بالتغلغل لضرب الحوزة في قم والقضاء على السيد البروجردي والسيد الخميني وغيرهم من العلماء .

 ولذلك لم تكن مفاجأة لسماحته -والتاريخ يتكرر- أن يقوم حاكم يدعي التشيع بالهجوم على طلبة النجف –الباكستانيين- في العام 2014 بينما يتم السماح لمدعي المهدوية واليمانية بممارسة نشاطهم بمنتهى الحرية لضرب الحوزة وتهديد علمائها.

 وعاصر سماحته فترة الملكية في العراق بتفاصيلها وعرف الأسباب الحقيقية لانهيار الملكية في العراق على يد عبد الكريم قاسم عام 1958، وكيف كان المزاج الشعبي للعراقيين، وماذا كان دور الإنگليز، وما دور العشائر، وكيف تحالف العارفيون مع قاسم .

 وعاصر انقلاب العارفيين على قاسم عام 1963 وشاهد كيف قتلوه، ومن كان مع من، وما دور الإنكليز والأمريكان، وما دور الدول العربية والإقليمية في ذلك، وأيضا  كيف تعامل الشارع العراقي مع الموضوع، وما كان موقف المرجعية والحوزة من الأحداث، وعلى المدى البعيد كيف استفاد من تقييم هذا الموقف .

 وعاصر انقلاب البعثيين الثاني عام 1968 وكيف مزقوا العارفيين، وكيف رجعوا بقطار أمريكي، ومن الذي صفق لهم ومن الذي دعمهم من الدول الإقليمية ولماذا، وما دور المرجعية في تلك الأحداث، وكيف تعامل الشارع العراقي مع قضية السيد مهدي الحكيم، وماذا فعل الشارع  للسيد محسن الحكيم عندما تصادم مع البعث بعد سنة واحدة من حكمه، وماذا كان موقف حكومة شاه إيران، وموقف ملا مصطفى البرزاني، وسنة العراق وضباط الجيش، الخ.

 وعاصر التهجير الأول لطلاب الحوزة الإيرانيين بعد رحيل السيد الحكيم في بداية السبعينات، وكيف تعامل السيد الخوئي مع الموقف، وما كان دور الشارع، وماهي نية الحكومة، ومن الذي دفعها دولياً لهذا الموقف، وما دور إيران، وكيف استمرت الحوزة بمسيرتها.

 وعاصر انقلاب صدام على البكر، وشاهد السنن الإلهية تعيد نفسها، والتاريخ لا يتوقف عن التكرار، وما هو موقف أمريكا، والدول العربية، والأكراد، والعشائر، والسنة، ومن كان منصفاً ومن كان خائناً، وعاصر، بل اعتصر لوعةً، على فقد سماحة الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، زميل دراسته وصديقه المقرب، وكيف كان موقف الحوزة، وكيف ضربت المخابرات الناس بعضهم ببعض، وموقف من كانوا ينادون بطاعة وولاء الإمام الشهيد كيف تركوه وهربوا، ثم عادوا يشتمون العلماء على شهادته المباركة، وما هو الموقف الامريكي من الأمر، وما هو موقف الجمهورية الإسلامية، وعاصر الهجوم الثاني على حوزة النجف الأشرف، وتهجير الطلاب الأجانب، وسجن العلماء والعوائل العلمية، وكيف تعامل الشارع العراقي، وما هو الموقف الدولي، ولأي سبب وصل صدام الى مرحلة الهستيريا وحاول قتل السيد الخوئي، بعد قتل وتهجير العشرات من طلابه ومنهم أولاده، وكيف تجاوز السيد هذه المرحلة، وبأي مناورة سياسية خدع المخابرات، وطيلة الحرب بين العراق وإيران، برزت بشكل واضح نوايا وأهداف جميع الدول المحيطة والغربية، وأصبح من المعلوم للمراقب -فضلاً عن العالم- ما تضمره هذه الدول للعراق وما تريده منه، واختزن السيد في ذاكرته أن هذه الدول كيف ستتعامل مع العراق في المستقبل.

 وعاصر اجتياح الكويت، وكيف تم توريط صدام وخداعه، ثم  الانتفاضة الشعبانية، وأيضاً شاهد موقف جميع دول الجوار والعالم من هذه الانتفاضة، ومواقف الشيعة ومواقف السنة ومواقف الأكراد، وكيف تعاملت الحوزة مع الانتفاضة وعلى ماذا ركزت، وما هو دور إيران، والسعودية، وأمريكا، والعشائر.

إن شخصاً مرت عليه كل هذه الأحداث، والأزمنة الطويلة المتقلبة، وكان فيها قريبا من قلب العاصفة، شاهد فيها كيف تصعد ملوك وتنزل ملوك، وكيف يستقبلها الشارع وكيف ينساها، وكيف تضرب المخابرات الدولية بعض الطوائف ببعض وكيف تلعب بمقدرات الشعوب، وعرف نوايا الجميع وكيف يتصرفون، ومن هو العدو ومن هو الصديق، هذا التراكم الذي مر مثله على جميع علمائنا، عندما يصلون الى مقام المرجعية، تكون الأمور كلها منكشفة النقاب واضحة الأسباب أمامهم، وهكذا كان سماحة السيد بعد توليه لمقام المرجعية بعد أستاذه السيد الخوئي، فكان موقفه من وضع الحوزة الداخلي، ووضع السياسة مع صدام، ثم سقوطه، ثم الاحتلال، ثم ما تلاه من دخول للأحزاب السياسية التي يعرفها جيداً، وكيف أبقى مسافة وسطيه من جميعها، وكيف حاولت التسلق باسمه، ومن الذي انخدع بذلك من الشارع، وكيف تلاعبت الدول المجاورة بالعراق كعادتها وهذه المرة بالوتر الطائفي، ولماذا لم يستقبل الأمريكيين ولم يقاومهم بالسلاح، و كل ما مر على العراق، إن كان جديداً بالنسبة لنا نحن جيل الشباب، فلم يكن جديدا أبداً بالنسبة لرجل عاش ٨٥ سنة من الأحداث المريرة، ومواقف فرضتها التجربة، كانت عنصرا  آخر، مهماً وأساسياً، في صناعة القرار لدى المرجعية الشيعية.

 بعضنا ينساق اليوم بحرارة الشباب وحماسته الى تأييد هذه الجهة أو محاربة تلك، من دون أن يعلم أننا ضحية إعلام وسياسة، وشعارات قد نقاتل من أجلها لنكون وقوداً لمصالح الآخرين، شعارات خدعت آبائنا في شبابهم من قبل، وتركت البلد في مهب الريح .

 نريد منه موقفاً ساخناً من الدخول التركي، كالموقف من داعش، من دون أن ندرس عناصر الفرق ونلاحظ الداخل والخارج ولا نعرف بحكم تجربتنا -كما عاصر هو- من هي تركيا وما تريده من العراق تاريخياً!!

 نريد منه مواقف حاسمة من الاصلاح، ولا نعرف نفسنا وشارعنا بحكم التجربة كما يعرفه هو، وكم مر عليه من تقلبات، وما الذي نحن مستعدون له، وما هو فوق طاقتنا .

 في الحلقة الثانية عندما نتكلم عن العامل الاخلاقي لدى المرجعية الدينية، سنكتشف ان الجهة الوحيدة التي لا مصلحة لها تحركها، سوى (أن أرى العراقيين أعزاء) هي من قالت هذه الكلمة.

يتبع في الحلقة الثانية ان شاء الله.