ما هي طرق الاتصال بـ «عالم الغيب»؟

قال تعالى: «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ» (الشورى/ 51).

- «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ» (الشعراء/ 193- 194).

- «وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى» (هود/ 69).

- «قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ» (الصافات/ 102).

- «فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ مِنْ شَاطِى‏ءِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» (القصص/ 30).

تمّ في هذه الآيات بيان مختلف الطرق التي اتّصل الأنبياء الإلهيون عن طريقها بعالم الغيب وما وراء الطبيعة بصورة إجمالية، والتي تبلغ أربعة أو خمسة طرق:

في الآية الاولى اشير إلى‏ ثلاثة طرق، يقول المرحوم الطبرسي في تفسير هذه الآية:

"ليس لأحد من البشر أن يكلّمه اللَّه إلّا أن يوحي إليه وحياً كداود الذي أوحى في صدره الزبور، أو يكلّمه من وراء حجاب مثل موسى أو يرسل رسولًا كجبرائيل إلى‏ محمّد صلى الله عليه و آله ليبلّغه أمرَه".

فهذا الارتباط إنّما يكون أحياناً عن طريق الإلقاء في القلب، واخرى عن طريق الأمواج الصوتية التي يسمعها النبي من الخارج، وثالثة عن طريق نزول الملك الموكّل بالوحي.

أصل‏ "الوحي" الإشارة السريعة، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بالصوت المجرّد عن التركيب اللغوي، وتارةً بالإشارة أو الكتابة.

هذا ما ذكره "الراغب" في "المفردات"، لكن "ابن فارس" في المقاييس" يرى‏ معناه الأصلي إلقاء علم ما بشكل خفي أو علني على شخص آخر.

ذكر ابن منظور أهمّ معاني هذه اللفظة واعتبرها الرسالة والإلهام والكلام من غير معاينة، والإلقاء في الروع، كما ذكر معظم أرباب اللغة هذه المعاني بزيادة أو نقيصة، ولكنّ الخليل بن أحمد ذكر معناه في كتاب (العين) بأنّه الكتابة والتدوين!

أمّا في اصطلاح أهل الشرع فيطلق على إبلاغ الرسائل الإلهيّة من قبل اللَّه إلى‏ الأنبياء عليهم السلام، وإن كانت دائرة استعماله في القرآن أوسع من هذا المعنى كثيراً، وشاملة لكلّ أنواع الإلقاء للعلم المرموز، ولذا استعمل في مورد الغرائز أو العلوم التي استودعت عند بعض الحيوانات كالنحل مثل: «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» (النحل/ 68).

ويقول فيما يتعلّق بما ألقاه اللَّه على قلب امّ موسى بالنسبة لولدها: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى» (القصص/ 7).

إذ قد تمّ التعبير عن الإلهام الإلهي لها بالوحي مع عدم كونها نبيّاً قطعاً، كما أنّ يوسف لم يكن في طفولته نبيّاً ومع ذلك يقول القرآن في حقّه: «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ‏ (اخوتك) بِأَمْرِهِمْ هَذَا (التخطيط لقتلك)».

كذلك استعملت هذه المفردة فيما يتعلّق بوساوس الشياطين الخفية إلى‏ أتباعهم قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِي عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ» (الأنعام/ 112).

واستعملت الأوامر الإلهيّة الغامضة فيما يتعلق بالجمادات كالأرض قوله تعالى: «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا» (الزلزال/ 5).

جملة «من وراء حجاب» تعني أنّ اللَّه كان يخاطب نبيّه بأمواج صوتية خاصّة خافية على الآخرين أو أنّ نبيّه كان يسمع الخطاب دون مشاهدة مصدره، بالضبط كالكلام الذي يطرق السمع من وراء الستار.

ودار الحديث في ثاني آية عن نزول ملك الوحي وإتيانه بالقرآن للنبي صلى الله عليه و آله، يقول تعالى:

«وَإِنَّهُ‏ (القرآن) لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ».

الملفت للنظر هو أنّ ملك الوحي قد تمّ وصفه بوصفين‏ «الروح» أي عين الحياة و «الأمين» إشارة إلى‏ الأمانة التي هي أهمّ شرط للرسالة والتبليغ.

يستفاد جيّداً من مختلف الآيات والروايات أنّ ملك الوحي المأمور بإبلاغ الرسالة إلى‏ نبي الإسلام كان اسمه جبرائيل، في حين أنّه يظهر من ثالث آية من الآيات مورد البحث، أنّ الملائكة بصيغة الجمع كانوا أحياناً يؤمرون بإبلاغ الوحي الإلهي إلى‏ الأنبياء، يقول تعالى: «وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ».

البشارة التي كان يحملها هذا الفريق من الملائكة هي البشارة بولادة إسماعيل وإسحاق، إذ إنّ إبراهيم عليه السلام كان قد قضى كثيراً من عمره محروماً من الولد مع تمنّيه الذرّية لحمل لوائه.

كما كانت هنالك وظيفة اخرى للملائكة ذكرت في الآيات التي بعدها، إلى‏ جانب وظيفتهم الاولى في إبلاغ إبراهيم بالبشارة الإلهيّة ألا وهي تدمير مدينة قوم لوط وقلبها رأساً على عقب.

هنالك نوع آخر من أنواع الوحي ذكر في رابع آية وهو الرسالة التي كانت تصل إلى‏ النبي عن طريق الرؤيا، وهي "رؤيا صادقة" لا تتفاوت مع حالة اليقظة، يقول تعالى: «قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّي أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ».

ونقرأ في الآيات التي بعدها أنّ إبراهيم عليه السلام استعدّ لتنفيذ هذا الأمر، ولا يخفى أنّ هذه الرؤيا لو كانت مثل الرؤيا العادية لما أقدم إبراهيم عليه السلام على ذبح ابنه أبداً وهذا يكشف عن كونها وحياً إلهياً قطعيّاً.

كما يصدق نفس هذا المعنى في حقّ نبي الإسلام صلى الله عليه و آله فيما يتعلّق بالبشارة التي بشّر بها في (الحلم) من دخول المسلمين إلى‏ المسجد الحرام، وأدائهم لمناسك الحجّ بكلّ أمان:

«لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» (الفتح/ 27).

التعبير بـ «صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا» يدلّ بوضوح على كون هذا الحلم حلماً إلهياً أي نوعاً من أنواع الوحي.

في خامس وآخر آية من الآيات مورد البحث تمّت الإشارة إلى‏ إحدى طرق ارتباط الأنبياء بمبدأ عالم الوجود، والتي اشير إليها كناية في أوّل آية أيضاً بالتعبير (من وراء حجاب) يقول تعالى: «فَلَمَّا أَتَاهَا (حينما أتى موسى النار التي رآها بجانب الطور) نُودِىَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».

أجل فلقد سمع موسى عليه السلام كلام اللَّه مباشرة، وطبقاً لبعض الروايات‏ يقول موسى: «لقد سمعت كلام ربّي بجميع جوارحي، ولم أسمعه من جهة واحدة من جهاتي».

هذا الكلام سمعه موسى عليه السلام من كلّ الجهات وبكافّة جوارحه (لا الاذنين فقط)، ومثل هذا الارتباط على حدّ قول الطبرسي في مجمع البيان يعدّ من أفضل منازل الأنبياء وأرفع أنواع ارتباطهم بمبدأ عالم الوجود.

ولا شكّ أنّ اللَّه لم يكن جسماً وليس له سائر العوارض الجسمانية واللسان والأمواج الصوتية، لكنّه يتمكّن من إيصال مشيئته إلى‏ سمع خواصّ عباده بالأمواج الصوتية التي يوجدها، ولغرض العلم بكونه من كلام اللَّه ينبغي أن يكون محفوفاً بالقرائن لنفي أي احتمال آخر عنه، وهذه القرائن كانت موجودة في قصّة موسى عليه السلام وسائر الأنبياء عليهم السلام.

هذه القرائن يمكنها أن تكون رؤية النار من الشجرة الخضراء أو سماع الصوت من كافّة الجهات، مع الإحساس بكونه صادراً من الشجرة أو سماعه بكلّ أعضاء بدنه، أو على حدّ قول البعض: اتّحاد صوت كلّ الكون بهذا الصوت، أو مضموناً خاصّاً غير ممكن من غير اللَّه، أو قرائن اخرى. يستفاد من سور (طه/ 11)، و (النمل/ 8) أنّ هناك كلاماً آخر أيضاً قيل لموسى عليه السلام في هذه اللحظة إذ نقرأ في سورة طه: «نُودِىَ يَامُوسَى* إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً».

ونقرأ في قوله تعالى‏: «نُودِىَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا»! (النحل/ 8)

على أيّة حال فمن مجموع الآيات أعلاه انعكست أشكال مختلفة من ارتباط الأنبياء بمبدأ عالم الوجود.

إنّ عجز الأدلّة العقلية عن حلّ جزئيات هذه المسألة هو ممّا لا يخفى، لانحصار وظيفتها في بيان لزوم إرسال الرسل، وإنزال الكتب المستلزمة لارتباط الأنبياء بعالم الغيب، ومن هنا فينبغي الرجوع إلى‏ الأدلّة النقلية للوقوف على جزئياتها.