هل يوجد صلاة وصيام في عالم البرزخ؟

لا إشكال أنّ عالم الدنيا هو عالم التكاليف الشرعيّة، بخلاف عالم البرزخ والآخرة فإنّ فيهما الحساب والجزاء، فيجب على الإنسان في دار الدنيا امتثال التكاليف الموجّهة إليه من الصلاة والصيام والحجّ والزكاة والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، فلو لم يمتثلها الإنسان بغير عذرٍ شرعيّ فهو مستحقّ للعقوبة.

ولا يخفى أنّ عدم التكليف الشرعيّ في البرزخ والآخرة لا يعني انقطاع أهل الإيمان عن التكامل ونيل الكمالات في الجملة وإنْ كان بشكل محدود باعتبار أنّ محلّ التكامل وموطن الامتحان للإنسان إنّما يكون في الدنيا، فالباب غير موصد أمامهم في البرزخ لرفع درجاتهم على حسب إعدادهم واستعدادهم..

سواء بوصول الثواب المتجدّد للأفعال الحسنة بمقتضى الحديث المستفيض: « ليس يتبع الرجل بعد موته من الاجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنّة هدى سنّها فهي يعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له » [الكافي ج7 ص56]، وفي حديث آخر: « ستّة تلحق المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر له، ومصحف يخلفه، وغرس يغرسه، وقليب يحفره، وصدقة يجريها، وسنة يؤخذ بها من بعده » [الكافي ج7 ص57].

أو بوصول ثواب المبرّات والأعمال الصالحة التي يهديها المؤمنون له، كما ورد في روايات كثيرة.

أو بامتثال الميت في البرزخ لبعض الطاعات والعبادات، حسب المقدار المتاح له، لكن لا على أنّها تكاليف متوجّهة إليه؛ إذ التكليف الشرعيّ مختصّ بدار الدنيا.. مثل تعلّم القرآن، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام): « مَن مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن عُلِّم في قبره ليرفع الله به من درجته، فإنّ درجات الجنّة على قدر آيات القرآن، يُقال له: اقرأ وارق، فيقرأ ثمّ يرقى » [الكافي ج2 ص606، ثواب الأعمال ص129].

ومثل البكاء على سيّد الشهداء (عليه السلام)، فعن أبي عبد الله (عليه السلام): « إنّ أبا عبد الله (عليه السلام) لـمّا مضى بكتْ عليه السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهنّ، وما بينهنّ، وما ينقلب في الجنّة والنار من خلق ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى » [كامل الزيارات ص167]، وعنه (عليه السلام): « لـمّا مضى الحسين بن علي (عليهما السلام) بكى عليه جميع ما خلق الله إلّا ثلاثة أشياء: البصرة ودمشق وآل عثمان » [كامل الزيارات ص166].

وقد ورد في روايات الفريقين: أنّ الأنبياء (عليهم السلام) يصلّون ويزورون وغير ذلك من الطاعات، نذكر في المقام بعضاً منها:

1ـ الروايات الواردة في حادثة الإسراء والمعراج، المتضمّنة لصلاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالأنبياء (عليهم السلام)..

ففي بعض الروايات: أنّه صلّى بهم في الأرض، كما في حديث أبي جعفر الباقر (عليه السلام): « .. فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمّداً حيث أسرى به إلى البيت المقدّس: أن حشر الله عزّ ذكره الأوّلين والآخرين من النبيّين والمرسلين، ثمّ أمر جبرئيل فأذّن شفعاً وأقام شفعاً، وقال في أذانه: حيّ على خير العمل، ثمّ تقدّم محمّد فصلّى بالقوم.. » [الكافي ج8 ص120-121].

وفي بعض الروايات: أنّه صلّى بهم في السماوات، كما في حديث أبي جعفر الباقر (عليه السلام): « لـمّا أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى السماء، فبلغ البيت المعمور، وحضرت الصلاة، فأذّن جبرئيل وأقام، فتقدّم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وصفّ الملائكة والنبيّون خلف محمّد (صلى الله عليه وآله) » [الكافي ج3 ص83].

وقد وقع تعدّد صلاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في روايات المخالفين أيضاً، قال ابن القيم الجوزيّة: (صحّ عن النبيّ... أنّه اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء وخصوصاً بموسى) [الروح ج1 ص102].

2ـ روى الشيخ الصفار عن أبي عمارة وأبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « إن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أتى أبا بكر فقال له: أما أمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تطيعني؟ فقال: لا، ولو أمرني لفعلتُ، قال: فانطلق بنا إلى مسجد قبا، فإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلّي، فلمّا انصرف، قال عليّ (عليه السلام): يا رسول الله، إنّي قلت لأبي بكر: أمرك الله ورسوله أن تطيعني فقال: لا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قد أمرتُك فأطعه، قال: فخرج، فلقي عمر وهو ذعر، فقال له: ما لك؟ فقال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): كذا وكذا، فقال: تبّاً لأمّة ولّوك أمرَهم، أما تعرف سحر بني هاشم » [بصائر الدرجات ص294].

3ـ روى الشيخ الصفار بالإسناد عن عطية الابزاري قال: « طاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالكعبة فإذا آدم (عليه السلام) بحذاء الركن اليماني، فسلّم عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ انتهى إلى الحجر فإذا نوح (عليه السلام) بحذاء رجل طويل، فسلّم عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) » [بصائر الدرجات ص298].

4ـ وردت روايات مستفيضة عندنا في أنّ الأنبياء والأوصياء في البرزخ يزورون قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويزورون قبر سيّد الشهداء (عليه السلام)، نذكر..

منها: عن أبي وهب البصريّ، قال : « دخلت المدينة، فأتيت أبا عبد الله (عليه السلام)، فقلت: جعلت فداك، أتيتك ولم أزر قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: بئس ما صنعت، لولا أنّك من شيعتنا ما نظرت إليك، ألا تزور مَن يزوره الله تعالى مع الملائكة، ويزوره الأنبياء، ويزوره المؤمنون » [كامل الزيارات ص89].

ومنها: عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « ليس نبيٌّ في السماوات إلّا ويسألون الله تعالى أن يأذن لهم في زيارة الحسين (عليه السلام)، ففوج ينزل وفوج يصعد » [كامل الزيارات ص220].

ومنها: عن صفوان الجمّال، قال: « قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) لما أتى الحيرة : هل لك في قبر الحسين ( عليه السلام ) ، قلت : وتزوره جعلت فداك، قال: وكيف لا أزوره والله يزوره في كلّ ليلة جمعة، يهبط مع الملائكة إليه والأنبياء والأوصياء، ومحمّد أفضل الأنبياء، ونحن أفضل الأوصياء.. » [كامل الزيارات ص223].

وقد ذكرنا في جوابٍ سابق عن معنى زيارة الله تعالى: أنّها كناية عن إنزال رحماته الخاصّة أو زيادة التفضيل ونحو ذلك.

5ـ روى المخالفون روايات عديدة في أنّ الأنبياء يصلّون في حياتهم البرزخيّة..

منها: حديث أنس عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): « مررتُ ليلة أسري بي على موسى، فرأيته قائماً يصلّي في قبره » [صحيح مسلم ج7 ص102].

ومنها: حديث أبي هريرة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): « وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلّي.. وإذا عيسى بن مريم قائم يصلّي.. وإذا إبراهيم قائم يصلّي » [صحيح مسلم ج1 ص108].

ومنها: حديث أنس بن مالك عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): « الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون » [مسند أبي يعلى ج6 ص147].

المقال رداً على سؤال: يدّعي البعض أن في عالم البرزخ صلاةً وصياماً، فهل كلامهم صحيح؟ يرجى الجواب مع الدليل وفقكم الله.