إني رسول الله: لماذا لم يرسل لنا الله ملائكة بدلاً من البشر؟!

ما هي مساحة العنصر البشري في شخصية النبي؟ كم للعنصر البشري من تأثير وفعالية في شخصية النبي؟

أين حدود تأثير العنصر البشري في شخصية النبي المصطفى؟

هنا نتعرض لكلام المفكر المعروف محمد أركون في مقالاته حول نقد العقل الإسلامي، يتحدث أركون يقول: " إذا قارنا بين المدرسة الإمامية وبين المدارس الإسلامية الأخرى نجد أن المدرسة الإمامية قلصت العنصر البشري مقابل العنصر الغيبي بينما المدارس الإسلامية الأخرى جعلت حالة توازن بين العنصر الغيبي والعنصر البشري، المدارس الإسلامية الأخرى جعلت النبي شخصية النبي متوازنة بين العنصر الغيبي وهو الوحي وبين العنصر البشري، لذلك ترى في فكر المدارس الإسلامية الأخرى تفصيل بين ما هو بشري في النبي وبين ما هو سماوي وديني، فيقولون بعض الأفعال صدرت من النبي بما هو ناطق عن السماء بما هو متكلم عن السماء فيؤخذ بها، كحجه كصلاته كصومه، وبعض الأفعال صدرت عنه بما هو بشر انطلاقا من عنصره البشري، كعلاقته مع زوجته كعلاقته مع جاره كتصرفاته اليومية، فهذه لا نأخذ بها لأنها صدرت عنه بما هو بشر، فهناك توازن بين العنصر البشري والعنصر الغيبي.

الشيعة يحاكمون القرآن!

أما الفكر الإمامي «المدرسة الإمامية» جعلت المساحة المستوعبة لشخصية النبي هي للعنصر الغيبي، جعلت النبي سماويا في تصرفاته وفي أفعاله وقلصت دور العنصر البشري، فلا ترى للعنصر البشري في الفكر الإمامي أي سمات وأي ملامح وبالتالي فالمدرسة الإمامية والفكر الإمامي في هذا المجال «مجال بشرية الرسول» فكر التقاطي واستباقي. ما معنى التقاطي؟ وما معنى استباقي؟ الفكر الإمامي يصور لنا أن النبي قطعة من الطهارة، لا يخطئ لا ينسى لا يسهو لا يغفل، وهذا هو نفس الفكر المسيحي.

الفكر المسيحي يرى أن عيسى قطعة من السماء تتحرك على الأرض وأن الله تجسد في عيسى، فعيسى لا يخطئ ولا ينسى ولا يسهو ولا يغفل. إذاً الفكر الإمامي هو التقاط واقتناص للفكر المسيحي الذي صور عيسى بصورة سماوية محضة.

والفكر الإمامي أيضا فكر استباقي، ومعنى أنه استباقي أن الإمامية أولا وضعوا أطروحاتهم وأسسوا أفكارهم ثم حاكموا القرآن على ضوء أفكارهم، لم يأخذوا أفكارهم من القرآن بل أسسوها في مرحلة سابقة على القرآن ثم أخضعوا القرآن لأفكارهم ولأصولهم المسبقة. مثلا: لأن الفكر الإمامي يرى أن النبي لا يخطئ لذلك إذا جاء إلى قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾، يلتف على الآية يحاول أن يؤول الآية لا يأخذ بظاهرها لأنه أسس في مرحلة سابقة تصورا معينا وهو أن النبي لا يذنب، فلما اصطدم بالآية التف عليها وقال ليس المراد بالذنب في الآية الذنب الشرعي لأن النبي لا يذنب فلا بد من تأويل الآية وإخضاعها للفكر المؤسس سابقاً، هذا معناه أنه فكر استباقي.

عندما مثلا يأتي الفكر الإمامي لأنه وضع أطروحته في مرحلة سابقة قال النبي كامل والكامل لا يخطئ على الآخرين فعندما يأتي لقوله تعالى: ﴿عبَسَ وَتَوَلَّى «1» أَن جَاءهُ الْأَعْمَى﴾، يحاول أن يلف فيقول هذه لم تنزل في النبي المصطفى  لأن النبي لا يصدر منه ذلك. إذا الفكر الإمامي استباقي لم يأخذ معالمه من القرآن وإنما أخضع القرآن لمعالمه التي وضعها في مرحلة سابقة.

بينما المدارس الإسلامية الأخرى تعتمد وتستند إلى القرآن بشكل تلقائي مباشر.

ردّ أطروحة "آركون"

هذه هي الأطروحة التي طرحها هذا المفكر نقدا للفكر الإمامي، نحن في مقام نقد هذه الأطروحة وفي مقام تنقيحها وفحصها نسجل ملاحظات ثلاث:

الملاحظة الأولى ملاحظة عقلية: نحن نرى أن العقل هو الذي فرض علينا أن نقول بأن النبي محمد  معصوم عصمة مطلقة فلا يخطئ ولا يسهو ولا ينسى، لماذا؟ هناك ما يذكره علماء الكلام عندنا ويسمى بقبح نقض الغرض أو بقبح نقض الهدف، نشرح هذا المعنى بوجهين:

الوجه الأول: نحن نتساءل ما هو الهدف من وجود الإنسان؟ لماذا خلق الله الإنسان؟ القرآن الكريم يحدد لنا الهدف، الهدف من وجود الإنسان أن يصل الإنسان إلى الكمال الروحي، لا الكمال المادي بأن يمتلك ثروة أو عقار أو قصر هذا ليس هدفا لوجود الإنسان، الهدف من وجود الإنسان أن يصل إلى الكمال الروحي أي إلى أرقى درجات الكمال الروحي، نستفيد هذا من قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾، لاحظ تعبير الآية تعبير دقيق ما قالت الآية ليبلوكم أيكم حسن قالت ليبلوكم أيكم أحسن، يعني ليس المطلوب هو الحسن فقط بل المطلوب هو الأحسن.

الهدف من وجود الإنسان أن يصل إلى درجة الأحسن أن يكون هو الأحسن في خلقه في سلوكه في تصرفاته، الهدف من وجود الإنسان أن يصل إلى أعلى درجات الحسن، لاحظوا آية أخرى قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ وما معنى يعبدون: يعني الهدف من وجود الإنسان أن يكون مرآة للعبودية، أن يكون مرآة لعبادة الله في كل تصرفاته، فهو في طول أوقاته وفي طول آناته وفي مختلف تصرفاته يعيش في عبادة، مرآة للعبودية في كل الأوقات، في كل الأوقات هو قطعة من العبادة هو هيكل عبادة مستغرق في عبادة الله تبارك وتعالى وهذا أعلى درجات الكمال، هذا هو الهدف من وجود الإنسان.

إذا كان هذا هو الهدف من وجود الإنسان، نحن نسأل: هل هذا الهدف ممكن التحقق أو ليس ممكن؟ إذا قلنا هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق، لماذا؟

لأن الإنسان في معرض النسيان في معرض الغفلة في معرض الخطأ، فإذا كان في معرض الغفلة وفي معرض الخطأ وفي معرض السهو وفي معرض النسيان، فكيف يمكنه أن يكون دائما أحسن؟ كيف يمكنه أن يكون دائما في عبادة؟ بما أن البشرية والإنسانية تقتضي النسيان وتقتضي الغفلة وتقتضي الخطأ، إذا فلا يمكن للإنسان أن يكون عابدا في كل أوقاته ولا يمكن للإنسان أن يكون أحسن في كل أوقاته، هذا يتنافى مع طبيعته البشرية، إذا هذا الهدف غير قابل للتحقق، فإذا لم يكن قابلا للتحقق إذا جعل القرآن هذا الهدف يكون لغوا، فالإنسان الكامل لا يمكن أن يكون، يكون ناقص من جهة وكامل من جهة.

الإنسان الكامل من تمام الجهات هدف لا يمكن تحققه، إذا كان هدفا لا يمكن تحققه إذا فجعل القرآن له هدفا يكون لغوا، يعني القرآن جعل هدفا وهذا الهدف لغو واللغو قبيح والقبيح لا يصدر من الحكيم تبارك وتعالى. إذا بالنتيجة هذا الهدف ممكن التحقق وإلا لكان جعله لغوا.

فإذا كان هذا الهدف وهو أن يكون الإنسان أكمل البشر قطعة من العبادة أحسن البشر، إذا كان هذا الهدف ممكن التحقق، فمن هو الشخص الجدير بتحقيق هذا الهدف؟ من هو الشخص الأولى بتحقيق هذا الهدف؟

إن أجدر شخص وأولى شخص بتحقيق هذا الهدف وهو أن يكون الأكمل والأحسن والقمة في كل شيء وأن يكون قطعة من السماء وقطعة من العبادة، الجدير بتحقيق هذا الهدف هو الشخص الذي جعله الله رحمة للعالمين، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾، قال تعالى: هو الشخص الذي قال عنه تعالى ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ هو الشخص الذي قال عنه تبارك وتعالى: ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ لا بد أن يكون رحمة العالمين أكمل العالمين، لا بد أن يكون أسوة البشرية أكمل البشرية، لا بد أن يكون المثل الأعلى للمجتمع البشري أكمل المجتمع البشري، فالشخص الجدير بتحقيق الهدف الإلهي من وجود الإنسان هو النبي محمد ، ولو لم يكن هو لاحتجنا إلى نبي أفضل منه ليكون هو الرحمة للعالمين وهو الأسوة لكل بشر على وجه الأرض.

إذا العقل هو الذي يفرض علينا أن نقول بوجود الإنسان الكامل وأن الإنسان الكامل هو النبي محمد (ص) وبالتالي فنحن ما فرضنا فكرا التقاطياً وإنما مشينا على ضوء منطق العقل.

أركون يقول الفكر الإسلامي الآخر - يعني غير المدرسة الإسلامية -: الذي يرى أن للنبي عنصرا بشريا يتحكم في تصرفاته ويتحكم في أفعاله، يقول بأن هذا الفكر هو الأقرب للحقيقة، لأن هذا الفكر هو المنسجم مع القرآن وهو المنسجم مع التاريخ، أما أنه منسجم مع القرآن فالقرآن يركز على بشرية النبي يقول: ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾، يقول القرآن: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً ﴿90﴾ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً ﴿91﴾ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً ﴿92﴾ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً﴾ أي أنني بشر لا يأتي بهذه الأعمال الخارقة للطبيعة ولنواميس الطبيعة قال تعالى: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً﴾ المدارس الإسلامية كلامها أن النبي بشر يتوافق مع منطق القرآن ويتوافق مع منطق التاريخ، التاريخ يؤكد على بشرية النبي والبشرية تقتضي ثلاث خصائص:

الخاصية الأولى: النسيان فالبشر ينسى خصوصا إذا كان قائدا والنبي كان قائدا، ضغوط القيادة ضغوط العمل ضغوط الإدارة السياسية تجعله في معرض النسيان وفي معرض الغفلة، ولذلك روى المؤرخون روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى صلاة الظهر في المدينة ركعتين فقيل يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت قال ما قصرت ولا نسيت قالوا صليت ركعتين فالتفت وأكمل الصلاة من جديد.

إذا فهو كان يسهو، مثلا يذكر المؤرخون أنه دخل المسجد يوما - صحيح البخاري أيضا يرويها - فسمع قارئا يقرأ القرآن فقال رحمك الله ذكرتني آية كذا وكذا أسقطتها من سورة كذا وكذا. يعني أنا بعض السور قرأتها بدون هذي الآيات.

الخصوصية الثانية: أن البشر يحب المرأة والنبي كان يحب المرأة كان يقول: أحب من دنياكم ثلاث، الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة. فلا عجب لأنه يحب المرأة يحب أن يدللها وأن يبهج مشاعرها وأن يرفه عواطفها، لذلك يروي البخاري أنه جاء وفد من الحبشة يوم العيد إلى المدينة وصرن يزفن - أي يرقصن - في فناء المسجد فجاء الرسول وأخذ زوجته المدللة عائشة ووضع رأسها على منكبه وخدها على خده وجاء بها لترى الزفن من قبل الوفد الحبشي إلى أن اكتفت بما رأت ثم أرجعها إلى المنزل.

مثل أي زوج يطلع ومع زوجته في مكان لطيف جميل ليرفه عن مشاعرها وعواطفها. ولقد سابقها فسبقته مرة وسبقها أخرى وقال لها واحدة بواحدة.

الخصوصية الثالثة: للبشر، أنه يغضب، طبيعي من البشر أن يغضب، وإذا غضب قد تصدر منه بعض الهفوات وبعض الكلمات لا يلام عليها لأنها صدرت منه حالة الغضب، فكذلك كان النبي (ص) كان إذا غضب شتم الآخرين، فقد روى أنس بن مالك كما روى أبو هريرة أن النبي - موجود هذا في صحيح البخاري - رفع يديه إلى السماء قال: اللهم إن محمدا بشر والبشر يغضب فمحمد يغضب كما يغضب البشر فأيما رجل سببته أو شتمته أو آذيته فاجعل ذلك زكاة له وأجرا. إذا لماذا تضخيم المسألة بأنه كان بشر.

وكما يروي أيضا صحيح البخاري دخل سماطة قوم فبال واقفا، ثم دخل على القوم. إذاً فبالنتيجة بشرية النبي أي العنصر البشري وسيطرته على شخصية النبي المصطفى (ص)  هذا يتلاءم مع منطق القرآن ويتلاءم مع منطق التاريخ، وبالتالي فالفكر غير الإمامي أقرب للحقيقة من الفكر الإمامي.

نحن ذكرنا في مقابل هذا الكلام أن العقل يفترض أن يكون النبي في أعلى درجات الكمال ليحقق الهدف الإلهي من وجود الإنسان فهو الأولى بتحقيق هذا الهدف والإنسان الكامل المستغرق في عبادة الله عز وجل لا تصدر منه هذه التصرفات التي رويت في كتب التاريخ لأنها تتنافى مع الكمال فضلا عن قمة الكمال وأعلى درجات الكمال.

الوجه الثاني: أنه ما هو الهدف من بعثة النبي؟ الهدف من بعثة النبي وصول التعاليم السماوية إلى المجتمع البشري قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، إذا كان هذا هو الهدف، وصول التعاليم للمجتمع البشري يتوقف على وثوق الناس بهذا المتكلم، إذا لم وثق الناس بهذا المتكلم وصلت تعاليمه إلى قلوبهم وإذا لم يثقوا به لم تصل تعاليمه إلى قلوبهم، إذا وصول تعاليم السماء إلى الأمة البشرية يتوقف على وثوق الأمة بهذا المبعوث ووثوق الناس به يتوقف على عصمته، إذ لو لم يكن معصوما فكيف يثقون به، لو جاز عليه الخطأ لو جاز عليه النسيان لو جاز عليه السهو لتطرق الشك إلى شخصيته، النبي لا يقول كل شيء أحيانا بالعمل، النبي في حجة الوداع لما وصل إلى الحج لا يوجد وقت يجلس النبي ويشرح أحكام الحج إلى الناس شرحا لفظيا، النبي بمجرد دخل مكة قال خذوا عني مناسككم، كان يشرع من خلال عمله كان يعلم من خلال سلوكه لا من خلال لفظه.

كيف يثق الناس به ويأخذون منه مناسكهم وهو شخص يمكن أن يخطئ وهو شخص يمكن أن ينسى وهو شخص يمكن أن يغفل؟

لا يمكن وصول المناسك وتعاليم السماء إلى الناس إلا إذا وثقوا به ولا يمكن وثوقهم به إلا إذا علموا أنه معصوم لا يخطئ ولا ينسى ولا يسهو لأنهم لو لم يعلموا بذلك لم يثقوا به وشككوا في أي فعل يصدر منه وإذا لم يثقوا به لم يتحقق الهدف من بعثته وهو وصول تعاليم السماء إليهم قال تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ إذا العقل بنفسه هو الذي يفترض العصمة المطلقة التي ذكرناها. هذه هي الملاحظة الأولى بوجهيها.

الملاحظة الثانية: ذكر المفكر أن الفكر الإمامي فكر استباقي أي أنه يؤسس أطروحاته في مرحلة سابقة ثم يخضع القرآن إلى أطروحاته، ونحن نقول بأن هذا مخالف لطبيعة الفكر الإمامي، كيف؟ في علم الدلالة من جملة العلوم اللغوية علم يسمى علم الدلالة، من جملة قوانين علم الدلالة هو قرينية السياق العام، ما معنى قرينية السياق العام؟ يفترض بالمفكر أركون وغيره الاطلاع على علم الدلالة. قرينية السياق العام ما معناها؟

العرف العربي يقرر أن الإنسان إذا سمع كلام من متكلم واحد - فرضا أنا أتكلم برأس ساعة ساعتين - العرف العربي يقول هذا الكلام لأنه صدر من متكلم واحد فهذا الكلام يفسر بعضه بعضا صدره يفسر ذيله وذيله يفسر صدره لأنه كلام لمتكلم واحد فبعضه يفسر بعضا يعني ما يصير أنت تأخذ قطعة من كلامي وتفسرها وتترك بقية كلامي، لا بد أن تجري وراء السياق العام لكلامي كله، قرينية السياق العام يعني الكلام الصادر من متكلم واحد له جو واحد له سياق واحد، هذا السياق الواحد حتى تعرفه لا بد أن تحمل بعض الكلام على البعض الآخر. هذا الكلام الموجود في علم الدلالة نطبقه على القرآن الكريم.

القرآن الكريم كلام صدر من متكلم واحد فله سياق واحد لذلك كي نتعرف على القرآن الكريم لا بد من تفسير بعضه بالبعض الآخر لا بد من قرينية بعضه على البعض الآخر، وهذا ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين (ع) عندما قال: ”اضربوا القرآن بعضه ببعض“ يعني بعضه يفسر بعضا. بناء على ذلك أنت لا تستطيع أن تقتطع بعض الآيات القرآنية بدون أن تراجع السياق العام للقرآن الكريم أي للآيات القرآنية الأخرى.

أضرب مثل عند جميع المسلمين: جميع المسلمين عندما يقرؤون قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ أي إن الله لا يماثله شيء، آية أخرى القرآن الكريم يقول ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ كيف ليس كمثله شيء وهو له يد؟ إذا هنا لا بد أن نفسر بعض القرآن بالبعض الآخر، نقول المقصود باليد في هذه الآية بقرينة قوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ المقصود باليد هنا القدرة اليد كناية عن القدرة والقوة، فسرنا القرآن بعضه ببعض، هذا ما يسموه فكر استباقي هذا يسموه تفسيرا للكلام بعضه بالبعض الآخر هذا جري على المنهج منهج العرف العربي في قرينية السياق العام، نفس الشيء إذا أمامنا آيتان آية تقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ وآية تقول: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ كيف يتلاءمان يصير تناقض واختلاف في نفس القرآن، نقول بما أن الله تعالى قال ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ إذا ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ ليس المقصود بها النبي بقرينة الآية الأخرى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ نفس الشيء أنت أمامك آيتان آية تقول: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً «1» لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ معناه أن النبي له ذنب بينما نجي لآية أخرى تقول: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى» 3 «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ ما معنى ذلك؟ ما ينطق ترى النطق ليس له خصوصية المقصود بالآية وما ينطق يعني وما يصدر، يعني لا يصدر منه شيء قولا أو فعلا إلا وهو مطابق لوحي السماء فهو مرآة السماء قال تعالى: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ إذا كيف نوفق بين هذه الآيات وبين قوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ هنا يأتي الفكر الإمامي يقول فسروا القرآن بعضه ببعض، معنى الذنب هنا الذنب الاجتماعي وليس الذنب الشرعي.

ما معنى الذنب الاجتماعي؟

أن النبي المصطفى محمد  اصطدم بقبيلته النبي اصطدم بقريش حارب قريش قتل صناديد قريش، يعني قتل أبناء عمه وأبناء عمومته حصلت مواجهة دامية بين النبي وبين قبيلته بلا إشكال هذا يعد ذنبا اجتماعيا ليس ذنبا شرعيا ولكنه ذنب اجتماعي مواجهة الإنسان لقبيلته ومقاتلته لهم من أجل مبدئه يعد ذنبا اجتماعيا وإن لم يكن ذنبا شرعيا، الله تعالى يقول لنبيه لا تقلق من هذا الذنب الاجتماعي أبدا سنفتح لك مكة وسننصرك على قريش ونجعل قريش تحت يدك وتحت أمرك ونهيك فتنمحي الذنوب الاجتماعية التي سجلتها قريش على شخصيتك قال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً «1» لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً «2» وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً﴾.

الملاحظة الثالثة: نلاحظ أن المفكر أركون قال إن البشرية تقتضي النسيان والغفلة، نحن نقول بالعكس البشرية تقتضي الكمال لا أنها تقتضي السهو والنسيان فرق بين أن تقرأ البشرية عاملا سلبيا وبين أن تقرأ البشرية عاملا إيجابيا الفكر الإمامي يقر ببشرية النبي الفكر الإمامي يقول النبي بشر غيبي له عنصر غيبي له عنصر حسي له عنصر بشري له عنصر سماوي الفكر الإمامي يقر بالعنصر البشري لكنه لا يعتبر العنصر البشري عامل ضعف بل يعتبره عامل قوة، الفكر الإمامي يرى أن العنصر البشري هو طريق الكمال ولو لا العنصر البشري لما وصل النبي إلى الكمال فهو يقرؤه من ناحية إيجابية ولا يقرؤه من ناحية سلبية، كيف؟ الملائكة ما لهم فخر على البشر أبدا فهم جبلوا على الطاعة وترك المعصية فهؤلاء لم يصلوا إلى الكمال فهم خلقوا مثل الآلة الأوتوماتيكية خلقوا على عمل معين، بينما البشر وضع الله فيه قوتين قوة العقل وقوة الغريزة ليصل إلى الكمال من أجل أن يعيش الصراع المحتدم بين العقل وبين الغريزة فإذا عاشه وانتصر على غريزته ونصر عقله بقوة إرادته وبقوة صلابته وصل إلى الكمال بجدارة واستحقاق إذاً صارت البشرية عاملا إيجابيا وليست عاملا سلبيا.

البشرية تعني الإرادة من كان بشرا فقد ملك الإرادة ومن ملك الإرادة ملك طريق الكمال لأن طريق الكمال منوط بالإرادة البشر يساوي إرادة والإرادة تساوي الوصول إلى الكمال إذا عنصر البشرية عنصر إيجابي في الوصول إلى الكمال، نحن الإمامية نرى أن سر عظمة النبي في بشريته وسر كماله في بشريته لو كان ملكا لما كان عظيما لو كان ملكا لما كان كاملا سر كماله سر عظمته في بشريته فكيف نهمل عنصر البشرية ونحن نرى أن عنصر البشرية هو السر في الكمال لأن عنصر البشرية هو قوة الإرادة وقوة الإرادة هي طريق الكمال إذا نحن نرى عنصر البشرية من زاوية إيجابية لا من زاوية سلبية نرى أن عنصر البشرية طريق الكمال، هناك آية نازلة في الإمام علي  عندما بات على فراش رسول الله  تقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾، بعض علماءنا يقول لماذا قالت الآية ومن الناس ما قالت ومن المؤمنين ما قالت ومن الصادقين، تتحدث الآية أن الإنسانية عنصر إيجابي لا عنصر سلبي فهذا من الناس ومع ذلك أوصلته إنسانيته إلى أن يكون أعظم فدائي بين يدي النبي المصطفى  إذا البشرية عنصر إيجابي طريق الكمال وليس عنصرا سلبيا عظمة النبي  في بشريته وفي قوة إرادته.

لماذا لم يجعل الله النبي (ص) ملكاً؟

الإرادة هي طريق الكمال لماذا جعل الله النبي بشرا ولم يجعله ملكا؟ لأن من وظيفة النبي التزكية قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، الملك يقدر يقوم بالدور الأول والدور الثالث يتلوا الآيات يقدر، يقدر يعلم الناس الكتاب والحكمة لكن الملك ما يقدر يقوم بالدور الثاني وهو دور التزكية لماذا؟

لأن التزكية هي عبارة عن السلوك النبي ما كان يزكي الناس بكلامه لا لو كان يزكي الناس بكلامه لدخل في كلمة ويعلمهم معناه غير التعليم هناك دور آخر تزكية النبي للأمة لم تكن بالخطب ولم تكن بالمواعظ ولم تكن بالكلمات تزكية النبي للأمة كانت بالعمل سلوكه كان هو التزكية سلوكه كان مصدر التزكية سلوكه كان مصدر التهذيب سلوكه كان مصدر تهذيب وتكميل أعمال الخلق وأعمال الأمة إذا التزكية عبارة عن سلوكه العظيم وسلوكه العظيم لا يمكن أن يكون تزكية إلا إذا كان ناجما عن الإرادة إلا إذا كان ناجما عن الاختيار فلو كان ملكا ما كان عنده إرادة وإذا ما عنده إرادة ما يصير سلوكه سلوك تزكية إذا تفقد النبوة دورها المهم وهو دور التزكية دور التزكية يعتمد على السلوك والسلوك يعتمد على الإرادة إذا لا بد من بعث إنسان يمتلك الإرادة كي يكون سلوكه تزكية للأمة.