من ملوك إلى أصنام.. كيف نشأت الوثنية؟ وبماذا بدأت؟ 

ما زال الإنسان ومنذ القدم في مزلّة تجسيم الأمور المعنوية وسبك غير المحسوس في قالب المحسوس بالتمثيل والتصوير وهو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أي قوة فائقة قاهرة والاعتناء بشأنها.

ولذا كانت روح الشرك والوثنية سارية في المجتمع الإنساني سراية تكاد لا تقبل التحرز والاجتناب حتى في المجتمعات الراقية الحاضرة وحتى في المجتمعات المبنية على أساس رفض الدين فترى فيها من النصب وتماثيل الرجال وتعظيمها واحترامها والبلوغ في الخضوع لها ما يمثل لك وثنية العهود الاولى والإنسان الاولي.

على أن اليوم من الوثنية على ظهر الأرض ما يبلغ مئات الملايين قاطنين في شرقها وغربها.

\\

تماثيل للعظماء!

ومن هنا يتأيد بحسب الاعتبار أن تكون الوثنية مبتدئة بين الناس باتخاذ تماثيل الرجال العظماء ونصب أصنامهم وخاصة بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى لهم، وقد ورد في روايات أئمة أهل البيت ما يؤيد ذلك ففي تفسير القمي، مضمرا وفي علل الشرائع، مسندا عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: وقالوا لا تذرن آلهتكم الآية، قال: كانوا يعبدون الله عز وجل فماتوا فضج قومهم وشق ذلك عليهم فجاءهم إبليس لعنه الله وقال لهم: أتخذ لكم أصناما على صورهم فتنظرون إليهم وتأنسون بهم وتعبدون الله، فأعد لهم أصناما على مثالهم فكانوا يعبدون الله عز وجل وينظرون إلى تلك الأصنام، فلما جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيوت. فلم يزالوا يعبدون الله عز وجل حتى هلك ذلك القرن ونشأ اولادهم فقالوا: إن آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله عز وجل فذلك قول الله تبارك وتعالى: {ولا تذرن ودا ولا سواعا}.

من ملوك إلى أصنام

وكان رب البيت في الروم واليونان القديمين - على ما يذكره التاريخ - يعبد في بيته فإذا مات اتخذ له صنم يعبده أهل بيته، وكان كثير من الملوك والعظماء معبودين في قومهم، وقد ذكر القرآن الكريم منهم نمرود الملك المعاصر لإبراهيم (عليه السلام) الذي حاجه في ربه، وفرعون موسى.

وهو ذا يوجد في بيوت الأصنام الموجودة اليوم وكذا بين الآثار العتيقة المحفوظة عنهم أصنام كثير من عظماء رجال الدين كصنم بوذا وأصنام كثير من البراهمة وغيرهم.

واتخاذهم أصنام الموتى وعبادتهم لها من الشواهد على أنهم كانوا يرون أنهم لا يبطلون بالموت وأن أرواحهم باقية بعده، لها من العناية والأثر ما كان في حال حياتهم بل هي بعد الموت أقوى وجودا وأنفذ إرادة وأشد تأثيرا لما أنها خلصت من شوب المادة ونجت من التأثرات الجسمانية والانفعالات الجرمانية، وكان فرعون موسى يعبد أصناما له وهو إله ومعبود في قومه، قال تعالى: وقال الملأ من قوم فرعون أ تذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك: الأعراف: - 127.

\\

اتخاذ الأصنام لأرباب الأنواع وغيرهم:

اتخاذ تماثيل الرجال، نبّه الناس على اتخاذ صنم الإله، إلا أنه لم يعهد منهم أن يتخذوا تمثالا لله سبحانه المتعالي أن يحيط به حد او يناله وهم، وكأن هذا هو الذي صرفهم عن اتخاذ صنمه بل تفرقوا في ذلك فأخذ كل ما يهمه من جهات التدبير المشهود في العالم فتوسلوا إلى عبادة الله بعبادة من وكله إلى الله على تدبير تلك الجهة المعنى بها بزعمهم.

فالقاطنون في سواحل البحار عبدوا رب البحر لينعم عليهم بفوائدها ويسلموا من الطوفان والطغيان، وسكان الاودية رب الوادي، وأهل الحرب رب الحرب، وهكذا.

ولم يلبثوا دون أن اتخذ كل منهم ما يهواه من إله فيما يتوهمه من الصورة والشكل، ومما يختاره من فلز او خشب او حجارة او غير ذلك حتى روي أن بني حنيفة من اليمامة اتخذوا لهم صنما من أقط ثم أصابهم جدب وشملهم الجوع فهجموا عليه فأكلوه.

\\

وكان الرجل إذا وجد شجرة حسنة او حجرا حسنا وهواه عبده، وكانوا يذبحون غنما او ينحرون إبلا فيلطخونه بدمه فإذا أصاب مواشيهم داء جاءوا بها إليه فمسحوها به، وكانوا يتخذون كثيرا من الأشجار أربابا فيتبركون بها من غير أن يمسوها بقطع او كسر ويتقربون إليها بالقرابين ويأتون إليها بالنذورات والهدايا.

عبادة الخوف والطمع

وساقهم هذا الصخب والاضطراب إلى أن ذهبوا في أمر الأصنام مذاهب شتى لا يكاد يضبطها ضابط، ولا يحيط بها إحصاء غير أن الغالب في معتقداتهم أنهم يتخذونها شفعاء يستشفعون بها إلى الله سبحانه ليجلب إليهم الخير ويدفع عنهم الشر، وربما أخذها بعض عامتهم معبودة لنفسها مستقلة بالألوهية من غير أن تكون شفعاء وربما كانوا يتخذونها شفعاء ويقدمونها او  يفضلونها على الله سبحانه كما يحكيه القرآن في قوله تعالى: فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم: الآية، الأنعام: - 136.

وكان بعضهم يعبد الملائكة وآخرون يعبدون الجن، وقوم يعبدون الكواكب الثابتة كشعرى، وطائفة تتخذ بعض السيارات إلها - وقد أشير إلى جميع ذلك في الكتاب الإلهي - كل ذلك طمعا في خيرها او خوفا من شرها.

وقل أن يتخذ إله من دون الله ولا يتخذ له صنم يتوجه إليه في العبادات به بل كانوا إذا اتخذوا شيئا من الأشياء إلها شفيعا عملوا له صنما من خشب او حجر او فلز، ومثلوا به ما يتوهمونه عليه من صورة الحياة فيسوونه في صورة إنسان او حيوان وإن كان صاحب الصنم على غير الهيئة التي حكوه بها كالكواكب الثابتة والسيارة وإله العلم والحب والرزق والحرب ونحوها.

وكان الوجه في اتخاذ أصنام الشركاء قولهم: إن الإله لتعاليه عن الصورة المحسوسة كأرباب الأنواع وسائر الآلهة غير المادية او لعدم ثباته على حالة الظهور كالكوكب الذي يتحول من طلوع إلى غروب يصعب التوجه إليه كلما أريد بالتوجه فمن الواجب أن يتخذ له صنم يمثله في صفاته ونعوته فيصمد إليه بوسيلته كلما أريد.