العنف في السيرة النبوية -٢- «دعوى الارهاب في مقوماتها المنطقية» (الجزء الأول)

لا يمكن أن نأخذ بالاتهام الموجّه الى النبي (صلى الله عليه وآله) في أنه تبنى سياسة القتل والاعتداء، وأن نفسّر النشاط الحربي في السيرة النبوية على أنه إرهاب وتعسف، بشكل مقطوع عن الدوافع والأسباب. ويجب على القائل على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قول الزور هذا أن يقدم لنا رؤية واضحة ومتناسقة لعموم السيرة النبوية وقد انسجمت مع تفاصيلها هذه التهمة وإلا فهو الهراء المحض.

 إننا في مسعى النبي محمد (صلى الله عليه وآله) ومشروع الثورة التي انطلق في الدعوة لها من غار حراء إلى نهاية عمره الشريف، إزاء أحد دافعين، النبوة الحقة أو الطموح السياسي.

إن إي اتهام للنبي (صلى الله عليه وآله) بتبني سياسة القتل والعدوان هو بمثابة سلب لصفة النبوة عن شخصه المقدس. حيث أن هذه الصفة بمحتواها الفعلي تعبير عن الوسيلة التي أرادها الله، المتعالى الذي لا يضره إن التزم الناس جادة الصواب أم حادوا عنها (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) لتبليغ الناس ما يدركون به سعادتهم وصلاحهم، والله غني عمّن يُكره من أجله الناس على اتباع أوامره ونواهيه، وهو القادر على جعلهم في غاية الامتثال والخضوع (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا).

ثم إن الهداية والصلاح وهما الغاية من أوامره ونواهيه أفعالٌ قلبية وامتثالٌ ذاتي لا ينفع في تحقيقه القتل والإكراه إن لم ينفع النصح والإرشاد. ولو تأملنا القرآن الكريم لطالعتنا أمثلة لا حصر لها في الدلالة على هذا، منها أن القرآن قد جعل فرعون مصر نموذجاً أعلى لما يمكن أن يكون عليه الكفر والطغيان. ولكنه طغيان على نفسه ونموذج أعلى في معايير البشر. أما الله فحاشا أن يكون لذي شأنٍ شأنٌ في جنبه. لهذا كان لزاما على الله المطلق أن ينظر من عليائه إلى ما ألحق فرعون بنفسه من الشقاء، ويشفق عليه فهو العزيز الرحيم، فيأمر رسوله اليه موسى (عليه السلام) وأخاه هارون أن يقولا له قولا لينا. لأن الله إنما أرسلهما رحمة منه لإنقاذ فرعون من شرور نفسه والقول اللين هو الأنسب في مقام كهذا (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى). وحين لم يرعو لمنطق القول تنزلا معه إلى منطق الحس (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ). ولمّا أصرّ فرعون إلا أن يعاند بعد إلزام الحجة أمَرَ الله داعيته موسى (عليه السلام) أن يتركه وينصرف عنه. وعلى هذا فإن انتهاج الإرهاب والاعتداء من قبل النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لن يكون منطقيا إذا قطعنا بنبوته وأنه مرسل من قبل الله.

وأتجاوز هنا مبحث الدلائل القاطعة بثبوت النبوة له (صلى الله عليه وآله)، وللقارئ الكريم أن يرجع في هذا الموضوع لما شاء من كتب العقائد الإسلامية التي أغنت وسدت على المنكر والمشكك كل طريق، وأكتفي بالإشارة إلى ما قاله الكاتب البريطاني توماس كارلايل "هل رأيتم قط.. أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً عجباً.. إنه لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب! فهو إذًا لم يكن عليماً بخصائص الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك فما ذلك الذي يبنيه ببيت وإنما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد، وليس جديراً أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرناً يسكنه مائتا مليون من الأنفس، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأنه لم يكن. وإني لأعلم أن على المرء أن يسير في جميع أموره طبق قوانين الطبيعة وإلا أبت أن تجيب طلبته.. كذب ما يذيعه أولئك الكفار وإن زخرفوه حتى تخيّلوه حقاً.. ومحنة أن ينخدع الناس شعوباً وأمماً بهذه الأضاليل" ، إن محمداً (صلى الله عليه وآله) لم يتلق دروساً على أستاذ أبداً، وكانت صناعة الخطّ حديثة العهد آنذاك في بلاد العرب. ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمداً (صلى الله عليه وآله) لم يكن يعرف الخط والقراءة، وكل ما تعلم هو عيشة الصحراء وأحوالها وكل ما وفق إلى معرفته هو ما أمكنه أن يشاهده بعينيه ويتلقى بفؤاده من هذا الكون العديم النهاية.. إنه لم يعرف من العالم ولا من علومه إلا ما تيسّر له أن يبصره بنفسه أو يصل إلى سمعه في ظلمات صحراء العرب، ولم يضره.. أنه لم يعرف علوم العالم لا قديمها ولا حديثها لأنه كان بنفسه غنياً عن كل ذلك. ولم يقتبس محمد (صلى الله عليه وسلم) من نور أي إنسان آخر ولم يغترف من مناهل غيره ولم يكن في جميع أشباهه من الأنبياء والعظماء – أولئك الذين أشبههم بالمصابيح الهادية في ظلمات الدهور – من كان بين محمد (صلى الله عليه وسلم) وبينه أدنى صلة وإنما نشأ وعاش وحده في أحشاء الصحراء.. بين الطبيعة وبين أفكاره."

وإذا امتنع المتهِم عن الأخذ بالنبوة كمحرك أساس للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مشروعه الثوري العملاق، صار لزاماً عليه أن يقدم الطرح المنطقي الذي ينسجم فيه دافع الطموح السياسي مع واقع الدعوة الإسلامية ومجرياتها.

يتبع...