العلمانية: عزل الدين عن الحياة... ما لله لله وما لقيصر لقيصر!

العلمانية كلمة مترجمة عن كلمة « Secularism » الإنجليزية وهي اللا دينية أو الدنيوية، بمعنى عدم الصلة بالدين أو تكون الصلة بالدين علاقة تضاد. فقد قالت دائرة المعارف البريطانية في هذه المادة «بأنها حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها..».

وقال المستشرق «آربري» في كتابه «الدين في الشرق الأوسط» عن هذه المادة: «إن المادية العلمانية والإنسانية والمذاهب الطبيعية والوضعية كلها أشكال للا دينية، واللا دينية صفة مميزة لأوربا وأميركا، ومع أن مظاهرها موجودة في الشرق الأوسط فإنها لم تتخذ صيغة فلسفية أو أدبية محددة..»([1]).

ولكن بما أن الغرب لم يفهم من الدين والعلم إلا التضاد فما كان دينياً لا يكون علمياً وما يكون علمياً لا يكون دينياً فقد ترجموها إلى العلمانية مع أنه لا علاقة لهذه الفكرة اللا دينية بالعلم، وإنما هي فكرة لعزل الدين عن حياة الإنسان بحيث لا يكون للدين سلطة في توجيه الفرد أو المجتمع أو تثقيف الفرد والمجتمع أو تربيتهما أو التشريع لهما، بل ينطلق الفرد والمجتمع في حياته استناداً إلى عقله وغرائزه ودوافعه النفسية فقط.

وعلى هذا، فإن الشريعة الإسلامية (التي نظّمت حياة الفرد والمجتمع بواسطة القرآن الكريم والسنة النبوية وأوجبت اتباع الهدى والعقل وحذّرت من اتباع الهوى والشهوات) تتناقض تناقضاً أساسياً مع العلمانية (اللا دينية) قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم (ص) (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون )، وقال تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين )...

مبرّرات العلمانية في الدولة الغربية

ذكر القرضاوي مبررات ثلاثة لظهور العلمانية (الحداثة) في الدول الغربية:

1 - وقوف الكنيسة ضد العلم بإرهابها الفكري والسياسي، حيث اقترفت الكنيسة ومحاكم التفتيش الظلم ضد العلماء والمفكرين باسم الدين.

2 - فلسفة الغرب التي كانت متمثلة في فلسفة أرسطوا الذي هو من الفلاسفة المؤلهين الذي يرى مذهب التفويض القائل بأن الله تعالى لا يتدخل في شؤون خلقه وهو غائب عنهم، خَلَقهم ولا يدبّرهم، فهو مالك ولا يحكم كملك الإنجليز أو كصانع الساعة.

3 - ما جاء في نصوص الديانة المسيحية من شطر الإنسان شطرين وقسمة الحياة قسمين نصفاً للدين ونصفاً للدولة، فقد ورد في الإنجيل: «دَعْ ما لقيصر لقيصر وما لله لله» وطبعاً ما يخصّ قيصر هو الدنيا والمجتمع والسلطان والدولة فتُترك له، وسيكون ما يخص الله هو الدين وشؤون الروح فتُترك له..

لا مجال لمبرّرات العلمانية في الإسلام

إن المبررّات الثلاثة التي تذكر لنشوء العلمانية في الغرب ليس لها أي نصيب في الإسلام وذلك:

1 - إن الإسلام يؤيد العلم ويدعو إليه، وإليك النصوص التي ترشد إلى العلم ومرادفاته... قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أوَ لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)... (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذي يستنبطونه منهم)، (وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسهم أفلا تبصرون )، (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)...

2 - ثم إن الإسلام لم يجعل الله مالكاً غير حاكم... بل الله هو الحاكم في هذا الكون تكويناً وتشريعاً، قال تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين)، وقال تعالى: (إن الحكم إلا لله).

فنظم الله سبحانه حياة الفرد والأسرة وشؤون المبادلات والمعاملات في المجتمع، وعنى بشؤون الإدارة والمال والسياسة الشرعية وحقوق الراعي والرعية وما تتطلبه علاقات المسلمين بغيرهم من الأمم المسالمين والمحاربين.. ونظرة سريعة وبسيطة إلى كتب الفقه نجد الاهتمام بما ذكرنا مفصّلاً.

الخلاصة: إنه لا يوجد في التشريع الاسلامي انقسام في حياة الانسان بين الله وقيصر، بل قيصر وما لقيصر لله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)...

الإسلام لا يعرقل تطور المجتمع:

إن نظرة الدين إلى الحقيقة الثابتة وتصوراته عن الكون والحياة والإنسان لا يلزم منها شلّ تطور المجتمع وعرقلة التقدم العلمي وذلك:

أ - فإن الحقيقة الثابتة الفلسفية التي هي بمعنى مطابقة الفكرة للواقع الخارجي هي عبارة عن إمكان المعرفة وحصول اليقين بالواقع الموضوعي الخارجي. وهذه الحقيقة دعا إليها الإسلام وحث على معرفتها كحقيقة واقعية.

ب - كما أن الدين الإسلامي قد دعا إلى التقدم العلمي واحتضان العلماء في مختلف المجالات (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، وقد أراد الإسلام للمجتمع الإسلامي أن يكون نموذجياً في الطليعة بحثِه على العلم والعمل.

ج‍ - خطّط الإسلام للجانب المتغير من الحياة فوضع القواعد العامة مثل:

1 - الأحكام الحاكمة على الأدلة الأولية والأحكام الاضطرارية، التي يُستند إليها عند عدم التمكن من الأحكام الأولية، مثل لا ضرر ولا حرج، ومثل ما من شيء إلا وقد أحلّه الله لمن اضطر إليه.

2 - فتح منطقة الفراغ التي يملؤها الحاكم الإسلامي (الفقيه العادل) على ضوء مشورته لأهل الاختصاص في دائرة المباحات على الأقل.

د - على أن الثبات في العناوين لا يلزم منه عدم التطور في المصاديق كما في (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)، فإن إعداد القوة وإن كان شيئاً ثابتاً إلا أنه مختلف المصاديق من مكان إلى آخر ومن زمان لآخر كما هو واضح.

وبهذا الذي تقدم: يثبت عدم التناقض بين الثوابت في الشريعة الإسلامية والمتطورات والمتغيرات التي يحتاجها التقدم العلمي...

وهناك حقوق للمسلم على غيره في الدولة الإسلامية لأنه أكثر مسؤولية من غير المسلم، وهذا هو التوازن بين الحقوق والمسؤوليات، كالعامل الفني والعامل غير الفني، والعامل لساعات أكثر من العامل لساعات أقل حيث يكون أجر الأول أكثر من الثاني لكثرة مسؤولياته من مسؤوليات الآخر.

من كتاب: (بحوث في الفقه المعاصر) للشيخ حسن الجواهري، ج3 ص17.

[1] راجع العلمانية في مواجهة الإسلام / للدكتور القرضاوي: 4 – 5..