العولمة: «معركة المادية» للسيطرة على العالم

في عام 1994 م تكللت بالنجاح مفاوضات جرت في أورگواى بشأن اتفاقيّة (ألجات) فتمّ تطويرها إلى اتفاقيّة عالميّة باسم: اتفاقيّة منظمة التجارية العالميّة التي بلغ عدد أعضائها سنة 1996 م إلى 128 دولة، وبذلك أصبح الاقتصاد العالمي قائماً على ثلاثة أضلاع: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالميّة.

في هذا الاتجاه نشأ ما يطلق عليه حاليّاً اسم العولمة: وهو اتجاه عالمي التأثير يقوم على رفع الحواجز الاقتصاديّة والعلميّة والمعرفيّة بين الدول والشعوب، وتحرير العلاقات الدوليّة من السياسات والمؤسّسات القوميّة والاتفاقيات المنظمة لها وتقليص دور الدولة بشأنها، وإخضاعها لقوى جديدة تفرزها التقنيات وتعززها ثورة المعلومات والاتصالات التي تسمح بنقل الأموال والمعلومات والاستفادة من الخدمات بومضة كهربائيّة أو نبضة الالكترونيّة.

العولمة لها أبعاد كثيرة أهمها أربعة:

البعد الأوّل: هو البعد الاقتصادي.. الذي يقوم على حريّة الاستثمار وحريّة إقامة المصانع في أيّ دولة، وفتح الأسواق أمام المنتجات الأجنبيّة بلا حدود.

البعد الثاني: وهو البعد الاجتماعي.. وتهدف العولمة فيه إلى التحرر من النسيج الاجتماعي القومي لإحلال قيّم اجتماعيّة جديدة تربط بين الطبقات الصفوة في دول مختلفة وتخلق مبادئ تهدف إلى تحقيق أهداف الجهات المسيطرة على العالم.

البعد الثالث: البعد السياسي.. وهو يهدف إلى فرض حقوق إنسانية بمفهومها الغربي على الدول دون رعاية المعايير التي تنصّ عليها التشريعات الوطنيّة أو الدينيّة، وتهدف أيضاً إلى إطلاق الحرّيّات للأفراد والجماعات لتتجاوب مع الشركات عابرة القوميات. وتهدف أيضاً إلى تقليل سلطة الحكومة وشلّ سيطرتها.

البعد الرابع: البعد الثقافي.. وهو يركّز على إقصاء أركان الثقافة القوميّة والدينيّة وإحلال الثقافة الغربيّة مكانها، وذلك بالاستعانة بالتقنية في مجال الاتصالات والمعلومات.

أقول: كلّ هذه الأبعاد تتداخل في إقامة مجتمع واحد تحكمه البلاد الصناعيّة المتقدّمة وعلى رأسها أمريكا وتتحكّم في العالم الشركات المتعدّدة الجنسيّة وينتج منها:

1 - إن المكاسب الاقتصاديّة للعولمة هي في صالح الدول الصناعيّة المتقدمة، وتخسر الدول النامية حيث لا تتمكن من منافسة بضائع الدول المتقدمة.

2 - تعميق الفجوة الاقتصاديّة بين الدول المتقدمة والدول النامية فمثلاً:

كانت الفجوة في سنة 1870 م ( 15 سنة ).

وصارت الفجوة في سنة 1970 م ( 50 سنة ).

وصارت الفجوة في سنة 2000 م ( 350 سنة ).

الآثار الثقافيّة للعولمة

إنّ الآثار الثقافية للعولمة خطيرة جداً على البلاد الاسلامية والنامية لأن المقصود بالثقافة معناها الواسع وهو طريق الحياة وهذه الثقافة ليست في حقيقتها عالميّة أو كونية كما يقولون، بل هي ثقافة القوى العظمى التي يرى أصحابها في غرور ملحوظ: أنه يتعيّن على الأمريكيين إلاّ يترددوا في الترويج لقيّمها وألاّ ينكروا أنّ أمتهم من بين كلّ الأمم هي الأكثر عدلاً وتسامحاً وهي النموذج الأفضل للمستقبل، فهي تسعى إلى تقليص دور الدين أو الغاء دور الفكر والأسرة، والغاء دور المؤسسات التعليميّة والدينيّة كما حدث في مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية سنة 1994 م ومؤتمر المرأة في بكّين سنة 1996 م من الإباحة الجنسيّة دون اشتراط أيّ شرعيّة وحريّة الشذوذ في تشكيل اُسر بين الرجال واُسر بين النساء وحماية المراهقين والمراهقات في عبثهم الجنسي والحمل السفاح.

ولكن تكاتف بعض الدول العربيّة والاسلاميّة أفشل هذين المؤتمرين.

وخلاصة القصد من مصطلح النظام العالمي الجديد والعولمة قد اتضح مما سبق: إنهما يهدفان إلى الدعوة المادية للسيطرة على العالم بكفٍّ من حديد أو بعولمة العالم عن طريق البعد الاقتصادي والثقافي والسياسي والاجتماعي أو بالمنهجين معاً وأما الشعارات المرفوعة للديمقراطيّة والحرّيّة والسلام وحقوق الانسان ما هي إلا شعارات مزيّفة لم يعمل بها من قبل الجهات المصدرة لها في يوم من الأيام.

إذن نستطيع أن نقول: إنّ النظام العالمي الجديد والعولمة هي معركة حقيقية بين المادية والإلهية (المتمثلة بالكفر والاسلام في هذا العصر لأن المسيحيّة واليهوديّة قد خرجت عن دائرة الحكم ودخلت دائرة العبادات الشخصية المبتعدة عن الحكم). وأخطر ما في هذه الدعوة لبسها ثوب العصر الجديد المترقي فقد ينخدع بها من لم يطّلع على معالم الدين «الاسلام» عقيدة ونظاماً وينخرط تحتها ملتزماً وداعياً لإِبعاد النظام الاسلامي عن الساحة الاجتماعيّة والحكم والابقاء به في ساحات المساجد للتهجّد والدعوات فقط.

*من كتاب: (بحوث في الفقه المعاصر) للشيخ حسن الجواهري، ج4 ص127.