الانفتاح والانغلاق.. أيهما نختار؟!

في عصرنا الراهن يتصاعد النقاش في موضوع الانفتاح والانغلاق بسبب صعود التكنولوجيا في العالم وهيمنتها على المسيّرات الثقافية وأدواتها النافذة مثل القنوات الفضائية والانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي. وبذلك فقد أثارت سؤالا مهمّا، هل ننفتح على العالم أم ننغلق؟

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

ويبرز في ذلك رأيان أساسيان يسيران في اتجاهين متعاكسين، رأي يؤكد على أولوية الانفتاح والانخراط في المسيرة العالمية والتطبع بمفاهيمها الثقافية الحديثة، من أجل البقاء في الركب العالمي، والاندماج في حضارة الدول المتقدمة اندماجا كاملا.

الرأي المقابل يواجه إشكالية أكثر تعقيداً وتناقضاً، عندما يرتد بشكل عنيف اتجاه نفسه ومجتمعه، ويغلق الأبواب على ثقافته، ويرفض تحقيق الانفتاح والتحديث بشكل مطلق، باعتبار أن الانفتاح ليس إلا أسلوباً جديدا تستخدمه القوى الكبرى لفرض سيطرتها الاستعمارية وتكريس مبادئ الاستغلال والتبعية.

لكن الانغلاق فيه جانب سلبي حيث يخاف الإنسان من الانفتاح على هذا العالم خوفا شديدا، بسبب عدم وجود توازن ثقافي وتكافؤ فكري بين الأمم، من ناحية الآليات والإمكانات والقدرات والكفاءات، مما يؤدي إلى انكفاء وانعزال البعض عن الانفتاح، وتبرير ذلك بأن الانغلاق هو حماية وحصانة لنفسه ولأسرته ولمجتمعه ولدولته.

لكن المطلوب هو الاعتدال بين الافراط والتفريط، عبر الانفتاح الإيجابي الذي تكون فيه قواعد منهجية تحافظ على الأصول والثوابت العقائدية والدينية والثقافية الموجودة في المجتمع، فلا يمكن أن ننسلخ عن أصالتنا بحجة الانفتاح، لأن هذا يعني بأننا قد تغرّبنا تغريبا تاما وكاملا، ونزعنا عن أنفسنا أصالة أمتنا، وتخلينا عن هويتنا الحضارية.

في الجانب الآخر الانفتاح السلبي بحد ذاته خطير نجده في الكثير من الممارسات والسلوكيات الموجودة في مجتمعاتنا، بدعوى التحديث، والحداثة والتنوير، أو بحجة البحث عن التقدم المادي والتكنولوجي والاقتصادي، وهو سلبي لان الانفتاح بلا حدود لم ولن يُفدْنا بشيء.

وإذا كان المفروض أن نستورد التقدم فإننا استوردنا التخلف والسلوكيات السلبية من تلك المجتمعات من دون دراسة وتنسيق بما يتناسب مع الاختلافات الثقافية الجذرية بين المجتمعات، وعندما طبقناها في مجتمعاتنا فشلنا.

معطيات الانفتاح السلبي

أولا- الانفتاح المنسلخ من الثوابت: عندما ينسلخ الإنسان عن ثوابته وهويته وأصالته، فيكون ضعيفا إزاء مواجهة ما يصدّره الآخرون له من ثقافات لاتتناسب مع قيمه.

الثاني- الانفتاح المنفلت: وهو لا يكون ضمن قواعد مدروسة ومنظمة وفق درجات معينة من الانفتاح، فلا أهداف لهذا الانفتاح لذلك هو انفتاح منفلت وفوضوي.

الثالث- الانفتاح المنهزم نفسيا: وهو يأتي من خلال الشعور بالهزيمة النفسية نتيجة التخلف، إذ أن مجتمعاتنا تعيش اليوم حالة من الفساد والاستبداد والعنف والتخلف وعدم النظام وشيوع الفوضى، في حين هناك مجتمعات تعيش النظام والتقدم والاستقرار، مما يؤدي لشعور كثير من الناس بالانهزام النفسي أمام كل ما يأتي من تلك المجتمعات فيقبلها قبولا مطلقا، نتيجة الهزيمة النفسية.

الرابع- الانفتاح المنبثق من التبعية العمياء: حيث تغيب ثقافة التفكير المستقل، فيتم الاستسلام للحضارة الغالبة.

الخامس- الانفتاح الناتج عن القبول المطلق لثقافة الآخر: وينتج عن اعتقاد الإنسان بأن ثقافته الموجودة الآن هي ثقافة فاشلة ومتخلفة، وهذا ما يؤدي إلى القبول بثقافة الغير مهما كانت، وهذه نظرة خاطئة وليست متوازنة في التعامل مع قضية الانفتاح، وإنما نوع من الانخراط في عملية الانفتاح السلبي بداعي الانبهار بثقافة الآخر.

السادس- الانفتاح الاستهلاكي: استهلاك ثقافة الآخر وعلمه دون الحصول على ما يغير حياتنا نحو الأفضل. في حين ان الانفتاح الانتاجي مثل اليابان التي كان لديها انفتاح نسبي على التقدم الغربي حيث نجحوا في إحداث ثورة صناعية واقتصادية.

كما أن الغرب أخذ الكثير من المؤلفات العربية والإسلامية وحوّلها لصالحه، ومن خلالها انطلقت الثورة الصناعية فأخذوا الجانب الإيجابي ووظفوه لصالحهم.

اما نحن اليوم فقد استوردنا كل شيء فأصبحنا سوقا لتصريف بضائعهم، سواء كانت تجارية أو ثقافية، هم أخذوا الجيد من الحضارة الإسلامية فتقدموا، في حين أننا استوردنا الأشياء الرديئة منهم فزاد التخلف فينا.

الانفتاح الاستهلاكي ليس سوى انفتاح سلبي يكرس التبعية، ويستورد القيم الإباحية والمنفلتة، ويربي الفرد والمجتمع على الحالة النهمية في عادات السلوك والطعام والشراب، عبر الانسياق وراء دعايات إعلانية مكثفة تغسل أفكار الناس لتسويق سلعها بأية صورة كانت؛ فالانفتاح الاستهلاكي بالإضافة إلى تكريسه لقيم الاستهلاك الأعمى، يكرس سلوكيات ترتكز على الكسل والرخاء والترف وعدم الفاعلية؛ وهذا كله ينفي الغاية من الانفتاح البنّاء، وكل هذا لا يتحقق في الانفتاح الاستهلاكي، فهذا النوع من الانفتاح يقود إلى الانحطاط والتفسخ.

السابع- الانفتاح الانحرافي: يكشف عن انحراف الانفتاح عن أهدافه المطلوبة حيث تستلب كل مايرتبط بعقائدنا وقيمنا واخلاقياتنا، منتجا الاختلال الثقافي والعقائدي والانفصام عن واقعنا الديني والاجتماعي، لاسيما أننا نختلف عن تلك البلدان اختلافا كبيرا، فنحن أتباع الدين الإسلامي ولدينا قيم وعقائد وأحكام شرعية نسير في ضوئها.

فالموجة الموجودة في الغرب تحت عنوان (ما بعد الحداثة)، وهو منهج يؤمن بتفكيك كل القيم الاجتماعية والدينية، وتفكيك الجماعات والمجتمعات والهويات في تكريس مطلق للفردية، فيتم تشكيل الإنسان بهوية جديدة تقوم تحت تبرير الحرية الشخصية واللذة والمنفعة، وقد قدِم إلى بلادنا من خلال موجات مكثفة وعاصفة عبر الاثير الفضائي.

الثامن- الانفتاح المنتج للذنوب والمعاصي: هناك من يتجاوز الحدود الشرعية وقد يرتكب ذنبا أو معصية ما بحجة التمدّن والتحرر ويظن أنه عندما يقوم بمثل هذه الأشياء فهو شخص متقدم ومتنور وحداثوي، وقد يعتبر البعض ان الأحكام والالتزامات الشرعية والأخلاقية أحد أنواع التخلف، فيحاول أن يتجاوزها حتى يعتبر تقدّميّا في سلوكياته.

مثل هذه السلوكيات لا تساعد الإنسان على التقدم بل تؤخره كثيرا، لأن الذنوب هي أخطاء كبيرة يقع فيها الإنسان، وعندما يصر على ارتكاب الذنوب سوف تتراكم عليه، وسوف تصبح جبلا كبيرا يثقل كاهله، لذلك نلاحظ أن كثيرا من الأمم وعلى مر التاريخ انهارت بسبب استمرارها في ارتكابها للذنوب والمعاصي، فعندما يُقال لا تسرق ولا تكذب ولا تزني، يجب أن لا نتصور أنها مفردات وكلمات فقط، وإنما هي قضايا تنبثق من نظام تكويني، لذلك يؤدي الإصرار عليها إلى اختلال المجتمع وانحرافه وتفككه.

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال: (احذر سكر الخطيئة، فإن للخطيئة سكرا كسكر الشراب، بل هي أشد سكرا منه، يقول الله تعالى: صم بكم عمي فهم لا يرجعون).

وعن الامام علي (عليه السلام) انه قال: (أعظم الذنوب عند الله ذنب أصر عليه عامله).

تاسعا- الفوضى الثقافية والأخلاقية: من المحاذير الأخرى للانفتاح المطلق هو الانخراط في الفوضى الثقافية والأخلاقية التي يعيشها العالم، بسبب كثافة تكنولوجيا التواصل الاجتماعي، وعن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) انه قال: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس)، فعندما يدخل الإنسان في هذه العوالم الفوضوية الكبيرة عبر شبكات ومواقع التواصل والانترنيت، ولا توجد لديه حصانة فإنه سوف يتأثر كثيرا ويتشبع بتلك الثقافات المنحرفة، فيستمر بارتكاب الذنوب، بسبب الانسجام النفسي الذي يحصل لديه نتيجة لاستماعه أو مشاهدته لما يعلنه المعلنون عبر الأنترنيت ومواقع التواصل.