ماذا قدم لنا الدين؟ وهل انتهى مع تطوّر العلوم؟!

﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5] حديثنا حول توقعات الإنسان من الدين، فما هي توقعاتنا من الدين؟ وماذا أنجز لنا الدين في حاجاتنا وتطلعاتنا؟

هناك من يقول بأن الدين انقضى وطره لأن العلوم الطبيعية والإنسانية غطت كل الحقول والمجالات، فلم تبقَ حاجة معرفية أو طبيعية إلا وأشبعها العلم، وكشف زواياها فلم يبق للدين مجال بحيث يشكل الدين عنصراً أساسياً أو حيوياً في حياة الإنسان، إذن يبقى السؤال مثار ماذا أنجز الدين في مجالاتنا وحاجاتنا وتطلعاتنا؟

هنا نتكلم عن ثلاثة محاور:

شرح المصطلحات «الدين، العلم، التوقعات».

بيان إنجازات الدين على مستوى التطلعات والتوقعات.

علاقة الدين بالعلم.

المحور الأول: شرح المصطلحات «الدين، العلم، التوقعات».

العلم: العلم هو المعرفة التي تعتمد على الدليل والبرهان سواء كان الدليل تجريبياً أم كان عقلياً، كل معرفة تعتمد على دليل فهي علم.

ما هو الدين؟

الدين: هنا عدة تعريفات للدين: تعريف في علم الاجتماع، وتعريف في علم النفس، وتعريف في علم الفلسفة.

التعريف الأول: الدين في علم الاجتماع

يعرِّف عالم الاجتماع دوركايم الدين بأنه منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأمور مقدسة. ويجمع المنتمين إليه بإيلاف أخلاقي موحد.

التعريف سليم، ولكنه أهمل عنصر مهم وهو عنصر الإيمان بإله، يقول واضع هذا التعريف: أنا أريد أن أضع تعريفاً يجمع كل الأديان لا خصوص الأديان التوحيدية، وبما أن من الفرق البوذية من لا يؤمن بإله لذلك حتى أجمع الأديان كلها اكتفيت بهذا العنوان بأمور مقدسة.

لكن هذا الإعراض عن هذا القيد أو هذه الخصوصية تخرج الدين عن كونه ديناً، العرف العقلائي في جميع الأزمنة يرى أن مفهوم الدين لا ينفك عن الإيمان بإله، دين يعني إيمان بإله، الإيمان بالإله عنصر مقوم للدين في العرف العقلائي كله، في جميع الملل والأجيال، فإسقاط هذه الحيثية لا يجعل التعريف دقيقاً، والفِرَق التي لا تعترف بإله ليست هي دين هي مذهب فكري.

فإذن الدين متقوم بالإيمان بإله، وهو عنصر ضروري في تعريف الدين.

التعريف الثاني: الدين في علم النفس

علماء النفس مدارس متعددة وكل مدرسة تُعرِّف الدين من زاوية مختلفة، يقول فرويد: الأفكار الدينية هي معتقدات وتوكيدات متعلقة بوقائع العالم الخارجي أو الداخلي، وهي تعرفنا أشياء لم نكتشفها بأنفسنا ويُطلب منا فعل الإيمان بها.

هذا التعريف يعرِّف ميدان الأفكار الدينية، أي عندما نريد أن نميز الأفكار الدينية والأفكار العلمية، وبين الأفكار الدينية والأفكار الفنية نجعل هذا المائز، نقول: المائز بين الأفكار الدينية وغيرها أن ميدان الأفكار الدينية هو معتقدات وتوكيدات تتعلق بالعالم خارجياً وهو العالم الذي نعيش فيه، أو داخلياً وهو عالم النفس ومشاعرها وخواطرها.

هذا تعريف لميدان الأفكار الدينية وليست تعريف للدين بما هو دين لذلك نحتاج إلى التعريف الثالث.

التعريف الثالث: الدين في علم الفلسفة

يُعرَّف الدين في موسوعة ستانفورد الفلسفية بأنه حركة الشعور نحو المطلق اللامتناهي عبر منظومة من المعتقدات التي تتعلق بالوجود المرئي واللا مرئي من جهة رجوعه إلى القوة الغيبية؛ وهي فترة اختبار أو تطهير لا تتم إلا بالتوافق بين السلوك البشري والتعاليم الأخلاقية والتشريعات من جهة كونها مطلباً إلهياً.

هذا التعريف للدين يشتمل على أربعة عناصر:

العنصر الأول: شعور نحو المطلق؛ الدين يعتمد على الشعور والتوجه نحو اللامتناهي، توجه المتناهي نحو اللامتناهي.

العنصر الثاني: الاعتقاد بأن الوجود مرئي أو لا مرئي؛ أي عالم مادي أو غير مادي، عالم شهادة أو عالم غيب، العالم كله مرئي وغير مرئي يرجع إلى القوة الغيبية، أي يرجع إلى ذلك المطلق اللامتناهي.

العنصر الثالث: أن الدين هو عبارة عن فترة اختبار وتطهير، وسننتقل إلى فترة القرار «الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر» نحن الآن لا نعيش استقرار بل فترة اختبار وننتقل إلى عالم فيه النتائج.

العنصر الرابع: أن هذا التطهير وهذا الاختبار ولا يتم إلا بالتوافق بين السلوك الإنساني وبين التعاليم الخلقية والتشريعات الإلهية، وإلا لا يحصل نجاح في الاختبار أو تطهير.

ما هي توقعاتنا من الدين؟ وهل الدين يلبي حاجاتنا أو لا؟

أبراهام ماسلو قسَّم الحاجات الأساسية إلى سبع حاجات:

الحاجات الفسلجية: يحتاج الإنسان إلى الطعام والشراب والتنفس.

الحاجة إلى الأمن النفسي والشعور بالهدوء والاستقرار.

الحاجة إلى الحب: يحتاج الإنسان إلى الدفء العاطفي بينه وبين غيره.

الحاجة إلى التقدير الاجتماعي: أن يشعر بأن كفاءته وجهده محل تقدير وتثمين اجتماعياً.

الحاجة إلى بروز الطاقات: حيث يعطى المجال ليبرز موهبته وطاقاته.

الحاجة إلى الفهم والمعرفة: كل إنسان يحتاج إلى أن يتعرف ويفهم.

حاجة الإنسان إلى تذوق الجمال بجميع معانيه.

المحور الثاني: بيان إنجازات الدين على مستوى التطلعات والتوقعات..

ماذا قدم لنا الدين في هذه الحاجات السبع الأساسية؟

في الجواب ثلاث اتجاهات: اتجاه الحد الأدنى، اتجاه الحد الأعلى، اتجاه الحد المعتدل.

اتجاه الحد الأدنى: يقول الباحث الإيراني عبد الكريم سروش الدين لم يقدم أي شيء، قدَّم فقط العلاقة بين الإنسان وربه، لم يقدم لنا الدين إنجازاً أكثر من أنه قال اعبدوا ربكم، والعلم هو الذي غطى الحاجات.

اتجاه الحد الأعلى: يقول أن الدين غطى كل الحاجات وملأ كل الحقول وقام مقام العلم، لأن الدين ملأ الحقول المعرفية كلها وأبان الحقائق على مستوى التكنلوجيا، وعلى مستوى الفلك، وعلى مستوى الوقاية من الأمراض والأوبئة، وعلى مستوى العلوم الإنسانية. الدين غطى كل شيء لأن القرآن يقول: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]

اتجاه الحد المعتدل وهو الصحيح : الدين لا يقوم مقام العلم ولا يضع نفسه موضعه، الدين ليس علماً حتى يتحدث عن التكنلوجيا وعن الفلك، ويتحدث عن كيف يقي الإنسان نفسه من الأمراض والأوبئة، الدين لا يضع نفسه موضع العلم إنما الدين عالج حاجات فطرية أساسية في شخصية الإنسان فهو بالحد المعتدل والوسط في إشباع حاجاتنا وتوقعاتنا.

ما هي علاقة الدين بالإنسان هل هي علاقة القلم والورقة بحيث أن الدين قلم والإنسان ورقة، والدين يكتب فيها ما يريد؟ أم أن علاقة الدين بالإنسان علاقة المزارع بالبذرة يريد تنميتها واستثمارها وبروزها؟

ليست علاقة الدين بالإنسان علاقة قلم وورقة، وإلا هذا معناه أن الإنسان ليس محتاجاً إلى الدين كما الورقة لا تحتاج القلم، هي ورقة صار هناك قلم أو لا، ويمكن أن يكتب فيها القلم ما يصلح ويمكن أن يكتب ما يضر، لو كانت علاقة الدين بالإنسان علاقة قلم وورقة إذن هذا يعني أن الإنسان لا يحتاج إلى الدين وأي قلم يستطيع أن يقوم مقام قلم الدين.

والصحيح هو أن علاقة الدين بالإنسان علاقة المزارع بالبذرة، الإنسان بذرة تملك حاجات واستعدادات فطرية، فكما أن هذه البذرة تمتلك الاستعداد لأن تكون شجرة تفاح، وهذه البذرة تمتلك الاستعداد لأن تكون شجرة ليمون، هذه البذرة لا تنتج الليمون وهذه البذرة لا تنتج التفاح، كل بذرة عندها استعداد فطري لثمرة معينة.

الإنسان يختلف عن الحيوان وعن الجماد، الإنسان بذرة تمتلك استعدادات فطرية فجاء الدين لإحياء الفطرة واستثمارها وتنميتها بحيث تعطي وتنتج، هنا مركز الدين، هنا تأتي توقعاتنا من الدين، توقعاتنا من الدين أنه يحيي فينا الفطرة وينمي الاستعدادات والحاجات الفطرية التي نمتلكها بالطبع والجبلة.

الدين أشبع الحاجات الفطرية في الحقل الفلسفي، في الحقل المعرفي، في الحقل الإنساني، في الحقل النفسي، وفي الحقل الاجتماعي، هذه الحقول الخمسة دخل الدين فيها ولبى الحاجات الفطرية من خلالها.

الحقل الأول: الحقل الفلسفي

كل إنسان بطبعه عنده أسئلة فلسفية ثلاثية: من أين جئت؟ وإلى أين أذهب؟ وما هو الطريق بين المجيء والذهاب؟ حتى الطفل يسأل هذه الأسئلة لأنها أسئلة فطرية، والدين التفت إليها من أول يوم ووضع فلسفة للإجابة عن هذه الأسئلة الفطرية، فحدد المبدأ، وحدد المنتهى، وحدد العلاقة بين المبدأ والمنتهى من خلال الدليل والبرهان، قال تعالى: ﴿الم «1» ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ «2» الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ «3» وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ «4»﴾ [البقرة: 1 - 4]

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ هذا المبدأ، ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ «3» وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ وهذه حلقة الوصل بين المبدأ والمنتهى، ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ هذا المنتهى. هذه الآية تعكس لنا الدين، والدين أجاب عن الأسئلة الثلاثة فيها.

الحقل الثاني: الحقل المعرفي

كل إنسان بفطرته عنده فضول الاكتشاف والمعرفة، وهنا أيضاً دخل الدين على هذه النزعة الفطرية فوضع عدة عناصر: عنصر الإرشاد إلى التأمل، عنصر الإثارة، وعنصر الاستدلال. أولاً يدعوك إلى التأمل، ثم يطرح عليك إثارات، ثم يضع لك أدلة ترشدك إلى نتيجة الإثارة.

العنصر الأول الإرشاد إلى التأمل.

يقول القرآن الكريم: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 20] تأمل، حرك عقلك، بادر، اكتشف.

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53] ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: 24] ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164] ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ «17» الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ «18»﴾ [الزمر: 17 - 18]، كل هذه الآيات عنصر إرشاد إلى التأمل والتفكير.

العنصر الثاني: عنصر الإثارة

يطرح القرآن ظواهر طبيعية غريبة ويأمرك بالتفكير فيها، كان العرب في زمن الجاهلية الذين لا يعرفون هذه الأمور، العرب الذين استقبلوا القرآن استقبلوا شيئاً فوق مستواهم، طرح لهم قضايا وظواهر لم يألفوها ولم يعرفوها وأمرهم بالتأمل فيها، يأتي القرآن ويسبب لهم صدمة معرفية ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 88]

ويقول في آية أخرى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: 30]

﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ «19» بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ «20»﴾ [الرحمن: 19 - 20]

﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]

طرح القرآن ظواهر طبيعية أمرك بالتفكر فيها والتأمل؛ لتغذية النزعة الفطرية نحو الفضول المعرفي والاكتشاف، وهذا يسمى عنصر الإثارة.

العنصر الثالث: عنصر الاستدلال

القرآن ليس كتاب موعظة وكتاب هداية فقط بل كتاب استدلال أيضاً، فيطرح أدلة ومنها قوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22] هذا استدلال على أن التعدد يقود إلى الفشل والفساد.

ويقول القرآن الكريم: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35] هذا استدلال.

ويقول: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «78» قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «79»﴾ [يس: 78 - 79]

﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ «58» أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ «59»﴾ [الواقعة: 58 - 59]

هذه كلها استدلالات تصدم الفطرة وتحركها نحو المعرفة.

إذن القرآن لبى الحاجة الفطرية وهي الفضول المعرفي من خلال هذه العناصر الثلاثة.

الحقل الثالث: الحقل الإنساني

الإنسان بفطرته ينحو نحو إعمار الأرض وإقامة الحضارة، يختلف عن الحيوان، الحيوان هدفه مأكله ومشربه، أما الإنسان منذ أول يوم عاش على الأرض صار يفكر كيف يبني وكيف يؤسس وكيف يقوم بحضارة ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61] أي طلب منكم إعمارها وإقامة الحضارة عليها.

نحن اليوم نعيش الحضارة الرأسمالية من شرق الأرض إلى غربها فماذا قدَّم المنطق الرأسمالي وماذا قدَّم المنطق الديني؟

كلاهما يدعو إلى إقامة الحضارة، ولكن الدين يتميز بشيء يقول لا حضارة بدون ركنين، الحضارة لا يكفي فيها التقدم التكنلوجي والتعمق في الفضاء والسيطرة على ثروات الكون، هذا جزء من الحضارة، الحضارة الإنسانية لا تقوم إلا على ركنين: العدالة والأخوة، لذلك الدين يدعو إلى حضارة تقوم على عدالة وأخوة.

الركن الأول: العدالة

لا توجد حضارة بدون اقتصاد لأن الاقتصاد هو عصب الحضارة، الدين ما أتى بعلم اقتصاد، ولكن يمتلك مذهب اقتصادي حيث وضع مبادئ، ومن خلال هذه المبادئ شرَّع قوانين حفظاً لتلك المبادئ، الدين قال عندي مبدأ وهو العدالة ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]

هذا المبدأ اقتضى أن نضع تشريعات منها حرمة الربا لأن الربا يتنافى مع العدالة، يكدس الثروات عند فئة معينة من المجتمع، الدين يرفض الربا رفضاً قاطعاً لأنه لا ينسجم مع مبدأ العدالة ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 279]

﴿أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة: 275] وقال في تشريع آخر: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ [الحشر: 7]

الدين يمنع تكدس الثروات في فئة معينة وهي فئة الأغنياء، لابد من التوازن بين مستوى الإنتاج ومستوى التوزيع كلاً بحسب جهده وحسب إنتاجه، توزيع الثروة يكون على طِبْقِ الإنتاج والكفاءة لأجل ذلك شرَّع الدين هذه القوانين ليُحفظ بها مبدأ العدالة، تشريعٌ يتميز به على كل الإيديولوجيات وهو شراكة الفقير مع الغني في الثروة، لا يوجد منطق في العالم اليوم يقول أن الفقير شريك في ثروتك، أنت تقول هذه ثروتي من عرقي ومن كد يميني أنا الذي تعبت عليها، والدين يقول نعم أنت تعبت عليها ولكن الفقير شريك معك، أنت عندما تعطي الفقير صدقة أو زكاة فأنت لست متفضلاً عليه، هذا ملكه، يقول القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ «24» لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ «25»﴾ [المعارج: 24 - 25]

﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60]

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [الأنفال: 41]

هذا المبدأ ما وضعه منطق آخر، ما وضعته إيديولوجية أخرى، الدين وضعه حفظاً لمبدأ العدالة والتوازن في توزيع الثروة كي لا يكون دولة بين الأغنياء.

الركن الثاني: الأخوة

حضارة بلا أخوة هي ليست حضارة، نسأل المنبهرين بالحضارة الغربية انظر للحضارة الغربية الإنسان فيها مثل الآلة الميكانيكية يعمل ليلاً ونهاراً، أين علاقات الأرحام، أين العلاقات الأسرية الحميمة، أين التراحم بين أبناء المجتمع؟ أين التواصل الإنساني؟

الدين يريد حضارة لكن حضارة أخوية ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10] ويقول القرآن الكريم: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]

ويقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1]

ويقول القرآن الكريم: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23]

مبدأ الأخوة جعله الدين أساساً للحضارة، حضارة بلا أخوة ليست حضارة إنسانية بنظر الدين، صلة الرحم، بر الوالدين، التراحم والتواصل بين أبناء المجتمع، حتى في البنيان القديم الهندسة فيها لم تكن هندسة اعتباطية بل هادفة، البيوت متلاصقة متداخلة يربط بعضها البعض الآخر، الهندسة من البناء بهذا الشكل وبهذا النوع بحيث أن البيوت مترابطة متلاصقة ومنفتح بعضها على البعض الآخر هندسة هادفة إلى جعل المجتمع أسرة واحدة، ولذلك كان الجيران يعيشون أسرة واحدة، يتفقد بعضهم بعضاً، يعيش بعضهم آلام البعض الآخر، طريقة البنيان فرضت عليهم أن يكونوا أسرة واحدة، هندسة البنيان جعلت تلك الأحياء وتلك المباني بمثابة البيت الواحد، يقول القرآن الكريم: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [يونس: 87] أبوابها متقابلة، كل بيت بابه يقابل البيت الآخر حتى يتحقق مبدأ التواصل والأخوة بين الجيران، ورد عن النبي محمد (ص) : ما زال أخي جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.

إذن الدين قال لنا أن الحضارة الإنسانية هي الحضارة التي تعتمد على العدالة والأخوة وبدون هاذين الركنين ليست الحضارة حضارة إنسانية.

الحقل الرابع: الحقل النفسي

غطت مدارس علم النفس كثيراً من الحقول التي يحتاج إليها الإنسان، الدين هو المصدر لعلاجها، الدين هو المصدر لتوفير الأمن النفسي، كلما تقدم العلم، وكلما تقدمت التكنولوجيا زاد القلق في الإنسان وعاش الإنسان ألوان من القلق والخوف، وألوان من الاضطراب، هذه الحالة المريرة التي يعيشها الإنسان من القلق والاضطراب من المستقبل، هل يستطيع علم النفس توفير الأمن المعالج لها؟ هل يستطيع الطب النفسي بمختلف ألوانه أن يوفر الأمن النفسي لهذه الحالة من القلق والاضطراب؟

يبقى الدين هو مصدر توفير الأمن النفسي الذي يقتلع حالة القلق والاضطراب، حالة التموج في داخل النفس، الدين وضع لك علاج تصلي لربك كل يوم خمس مرات وتقف بين يديه، الصلاة علاج للقلق، علاج للاضطراب، وعلاج للكآبة ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ «2»﴾ [المؤمنون: 1 - 2]

الصلاة الخاشعة علاج للاضطراب والقلق لم تقدمه إيديولوجية أخرى كما قدمها الدين، لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2]

﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]

الحقل الخامس: الحقل الاجتماعي

ما زال علم الاجتماع إلى اليوم يعتبر البعد الاجتماعي بعداً أصيلاً في شخصية الإنسان، لكن كيف نحافظ على هذا البعد الاجتماعي؟ ربما يتضاءل ويتبخر البعد الاجتماعي نتيجة انغماس الإنسان في الحضارة المادية، هنا يأتي الدين ليشبع هذه الحاجة وهذا البعد الأصيل في شخصية الإنسان، الإنسان يعيش صراعاً بين نزعتين: نزعة الاستئثار، ونزعة الإيثار.

نزعة الاستئثار: الإنسان بطبعه يريد أن يتملك الأشياء ويحوزها ويأخذها لنفسه، طبيعة الإنسان طبيعة الاستئثار والأخذ والحيازة.

نزعة الإيثار: أن يقدم بالمجان، أن يقدم عطاء بلا مقابل.

الإنسان بطبعه يعيش الصراع بين الاستئثار والإيثار، من الذي يتدخل ليغلب نزعة الإيثار على نزعة الاستئثار؟ يعالج الدين حاجة فطرية في الإنسان ليغلب نزعة الإيثار على نزعة الاستئثار، الدين هنا يتدخل ليعلم الإنسان كيف يذيب الأنانية والأنوية، كيف يخرج من طوق الانا إلى طوق الغير، كيف يقدم عطاء سخياً بلا مقابل، كيف يعيش روح الإنتاج والعطاء للآخرين، الدين يصر على هذه النقطة عندما يأمر بالصدقة، عندما يأمر بالعطاء، عندما يقول لك: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج: 35]

وعندما يقول لك: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: 92] الكثير منا يعطي الفقير ما رغب عنه وفاض عن حاجته، هذا ليس هو الدين لأنه لا يعلمنا غلبة نزعة الإيثار على نزعة الاستئثار، لن تغلب نزعة الإيثار على الاستئثار حتى تنفقوا مما تحبون، فابذل جزء مما عندك من نعم وثروة حتى تتغلب على نزعة الاستئثار.

إذن الدين أشبع الفطرة وغطى حاجات فطرية أساسية، في الحقل الفلسفي، وفي الحقل المعرفي، وفي الحقل الإنساني، وفي الحقل النفسي، وفي الحقل الاجتماعي.

المحور الثالث: علاقة الدين بالعلم

الدين لم يضع نفسه موضع العلم، العلم له ميدانه والدين له ميدانه، العلم يخبرنا ماذا يوجد والدين يخبرنا لماذا يوجد، مثلاً العلم يقول لنا هذا الكون يقوم على قوى أربع: القوة الكهرومغناطيسية، قوة الجاذبية، القوة النووية، والقوة الإشعاعية. والدين يقول إذا كان الكون يقوم على القوى الأربع إذن هذا يكشف عن دقة المصمم، أن الذي صمم الكون كان دقيقاً.

إذن الدين يستثمر العلم، العلم يطرح حقيقة، والدين يقود الحقيقة للوصول إلى الله تبارك وتعالى، لماذا وجدت هذه القوى الأربع؟ لكي تحفظ توازن الكون وتؤهل الإنسان لحضارة مستقرة.

يقول الفيلسوف جورج ستارم: الإنسان يحتاج إلى مثلث: فن، ودين، وعلم. وبدون هذه الثلاثية لا يستطيع أن يعيش، الإنسان يحتاج إلى الفن لأن الفن هو الذي يبرز الجمال فيضفي البهجة على الحياة، ويحتاج إلى الدين لأن الدين هو الذي يطهر الروح فيضفي المحبة في الحياة، ويحتاج إلى العلم لأن العلم هو الذي يغذي العقل بالصدق والحق.

ويقول الفيلسوف باربر: الدين والعلم تكامل وليس صراع، الدين ثورة داخلية والعلم ثورة خارجية، الدين ثورة في الداخل يطهر الروح ويهذب النفس ويرشد السلوك، والعلم ثورة خارجية يقدم الإنجازات المادية، العلم يوفر الأمن الخارجي والدين يوفر الأمن الداخلي، العلم يوفر الأمن من الأمراض والأوبئة، والدين يوفر الأمن من القلق والاضطراب والنوازع النفسية.

إذن بين الدين والعلم تكامل وتوائم، ولو ترك العلم وحده بدون دين لدمر العالم، العلم بدون رادع ديني يدمر الأرض بالأسلحة الفتاكة، العلم بدون رادع ديني يملأ الأرض بالأوبئة التي تقضي على الوجود البشري، العلم بدون رادع ديني يحول الإنسان إلى أداة ميكانيكية، أنت ستصبح أداة يديرك جهاز الذكاء الصناعي أينما كنت، إذن الدين يشكل رقيب على العلم، لولا رقابة الدين لربما وصل العلم إلى تدمير البشرية كلها.

الدين يشكل رقيب عتيد على العلم ورادع عن أن يتحرك العلم تحركاً مدمراً للبشرية، وفي نفس الوقت الدين يحتاج إلى العلم، مثلاً الدين يقول يشترط في صحة الصلاة استقبال القبلة، ولكن العلم هو الذي يحدد القبلة، الدين يقول لا يصح الصوم ولا الحج إلا في شهر معين، والشهر يتحقق ببزوغ الهلال، والعلم هو من يحدد وجود الهلال ومواصفات الهلال وإمكانية رؤية الهلال، فالدين يعتمد على العلم وبينهما تكامل.

نظرية الانفجار تقول أن هذا الكون له عمر وليس أزلي، جاء منذ زمن معين يقدر ب 13.7 مليار سنة، والدين يقول بما أن للكون عمراً بحيث أنه لم يكن ومن ثم كان فما هو مصدر وجوده وما هو مصدر كينونته، العلم يقدم شيء والدين يستثمره في سبيل إثبات وجود الخالق تبارك وتعالى.

إذن بالنتيجة بين الدين والعلم تلاؤم وتكامل، وليس بينهم صراع، لأجل ذلك أهل بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم وهم نماذج الدين ومطالع الدين، جمعوا بين الدين والعلم، هم الدين وهم العلم «السَّلاَمُ عَلَى مَحَالِّ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَ مَسَاكِنِ بَرَكَةِ اللَّهِ وَ مَعَادِنِ حِكْمَةِ اللَّهِ وَحَفَظَةِ سِرِّ اللهِ»

عليٌ هو الدين لذلك يقول النبي (ص): برز الإيمان كله إلى الشرك كله. وعلي يمثل العلم يقول الرسول (ص): أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها. إنما المصطفى مدينة علم وهو الباب من أتاه أتاها.

وكان يقول عليٌّ (ع) : كمال الدين طلب العلم والعمل به.

عليٌّ يمثل الدين والعلم، وأبناء علي يمثلون الدين والعلم، لذلك يقول سيد الشهداء لأمير المدينة: نحن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومهبط الملائكة، ويزيد رجل فاسق شارب للخمر وقاتل للنفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله.

المصدر: almoneer