الجزاء الأخروي... ثلاثية محكمة

تؤمن الاطياف البشرية كافة ـ عدا الماديين ـ بوجود حياة اخرى بعد الموت، وأن للإنسان ثمة خلود يتعالى على الواقع الدنيوي المحدود بنقطتي الولادة والموت.. وهي فكرة مغروسة في اعماق الانسان لما تشكله من كونها جزءا من فكرة اوسع، تلمّسها الانسان في اعماقه بشكل فطري، وهي الشوق الى المطلق. وهذا الايمان ينقسم الى ايمان محض أفسده الانسان بفكره الوثني المنحرف، فراح يشوّه فكرة الحياة الاخرى، تماما كما شوّه الاله المتعالي ـ المطلق ـ بالأساطير والخرافات.

والى تصور ناضج، نهضت به الديانات السماوية الحقة، يقوم على اساس من وعي تام بما هو عليه الوجود من حكمة مطلقة، وعلى أساس من برهان عقلي يثبت الحياة الاخرى، فكما ان المادة لا تفنى ولا تستحدث فكذلك الروح والوعي لا يفنى ولا يستحدث. وعليه فإن عملية الموت هنا ستكون عبارة عن تحلل الجسد.. الحاضن المادي للروح وتكون حياة ما بعد الموت هي عبارة عن استمرارية الوعي، منفصلا عن الجسد.

وبالنسبة لعودة الجسد المادي في البعث فيبرهن عليه القران منطقيا بقوله (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ . قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس 78\79) وقد أضافت الاديان السماوية الحقة ـ للحياة الاخرى ـ بُعدا، هو الجزاء الأخروي، الذي بشّر به رسل الله الناطقين عن الغيب وانذروا مما فيه.

كما يضطرنا الى القول به ما نلمسه من حكمة في الخلق والمخلوقات وبالتالي الخالق، فهذا الكون الذي تسير مكوناته بأدق ذرة فيها الى غاية وهدف لا يمكن ان ينتهي بمجموعه الى حالة من العبث، فالإنسان الذي استمد وجوده وحياته من مكونات الوجود المحيطة به والذي ملك القدرة والاختيار فأساء وأحسن وانصف وظَلم في الحياة الدنيا حين يترك بلا حساب فلن تكون عملية إيجاده عبثا محضا فحسب بل ايجاد الكون برمته، سيما ان النظرة الكونية الالحادية القائمة على اساس العبثية هي نظرة متهافتة يؤكد العلم الحديث مدى تهافتها بما اكتشفه من تعقيد في اجزاء الكون ونظامه.

[ذات صلة]

إن الجزاء الأخروي هو الحلقة المكملة لثلاثية الاله الحق الغني الحكيم المطلق وفلسفة الحياة القائمة على اساس من الخيار الحر للفعل الانساني، فيكون الجزاء الأخروي المبتني على العدل والقسطاس الجزء الذي يعطي للثلاثية شكلها المنطقي الصحيح. يقول الله سبحانه وتعالى (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا . وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا . وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا . وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا . وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا . وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا . وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) التكوير1\10

فالحكمة في خلق الشمس والقمر والليل والسماء والارض ثم الخيار الحر ممثلا بالهام النفس الخير والشر ليأتي بعد ذلك الفلاح والخيبة لمن زكاها ودساها. وهذا تقرير قرآني بضرورة ترابط هذه الاضلاع الثلاثة، فلا يمكن ان نتعامل مع احد الاضلاع بمعزل عن الضلعين الاخرين.

وعلى ذلك فإن الصورة المنحرفة التي طالما قدمتها المؤسسات الدينية للجزاء الأخروي خلال احقاب طويلة في التاريخ وماجر ذلك من مشكلات دينية واجتماعية خطيرة؛ ما كان لها ان تكون إلا من خلال العرض المنحرف للضلعين الاخرين، واعني الاله الحق والحرية في الفعل الإنساني.

فالإسلام الاموي ـ مثلا ـ ما كان له ان يعلن صراحة بإمكانية إلقاء الصالح في النار ودفع الطالح المجرم الى الجنة إلا بعد ان قدم صورة منحرفة للإله وهو الاله المجسّم، والمجسم مفتقر الى مخلوقاته، كما ألغى ـ الاسلام الاموي ـ حرية الانسان في فعله وقرر الجبر المحض، والكنيسة التي وصل بها الحال الى بيع الجنة بصكوك الغفران قد صورت لنا الها مكونا من أقانيم ثلاثة وله ولد وجعلت الحياة عبارة عن فناء في العذاب للتكفير عن الخطيئة الاولى.

وما يعنيني من الاله الخطأ الذي عرضه الامويون والكنيسة وسواهم؛ هو انه إله من صنعهم ليصنع حياة لهم بمقاييس تمكنهم من تسيّدها، وعليه فإن كل الفلسفات التي فسرت الدين على انه نتاج للصراع الطبقي كالماركسية التي تعاملت مع الجزاء الأخروي على انه التنويمة التي صنعها الضعفاء للتخفيف من شظف العيش قد تناولت الجزاء الأخروي وفق الصورة المنحرفة للضلعين المكملين.

وبالنسبة للفكر الوضعي ـ العلماني ـ فهو لم يستطع ان يهمش فكرة الجزاء الأخروي إلا بعد المساس بضلعيه الاخرين، حيث انه همّش فكرة الاله ولم يجعل عملية تحديده تبعا للبحث المنطقي والعلمي بل تبعا لحرية الفرد الشخصية، فكل آلهة مفكّر بها هي عبارة عن اشياء شخصية، كما مسّ حرية الانسان في اختيار الخير الذي يعم البشرية الى حرية فردية تتحدد بحدود من حرية الاخر وإن كانت النتيجة هي شر للمجتمع [1] . فلا يكون بذلك ثمة معيار ثابت يعاقب عليه او يثاب، مما يؤدي ذلك الى تهميش فكرة الجزاء الأخروي.

إن التعويل على مجتمع يتحرك افراده في دائرة العلاقة بين الذات والاخر على اساس من الحس الانساني، وبمعزل عن العقاب والثواب هو كلام لا مكان له إلا في الاحلام.

------------------

[1] ليست هناك حرية شخصية تتحق بمعزل عن المجتمع وذلك لتداخل الصلات الرابطة بين افراد المجتمع, وكمثال بسيط للتوضيح فإن ممارسة الانفتاح الجنسي كحرية شخصية يؤدي الى امراض مهولة على راسها الايدز وهذا مايجعل ضرر المجتمع ممثلا بفقدانه لقوى عاملة واموال طائلة تنفق على عمليات البحث عن العلاج