النهضة الاوربية والنهضة العربية 

المنجز النهضوي الاوربي الذي نقل أوربا من عصر الظلمات الى سيادة العالم, تقوّم بشكل أساس على مسألة فصل الدين عن الدولة وحجب السلطة الدينية عن انشطة ‏الانسان على صعيد المعرفة والسلوك وإبدالها بالدولة العلمانية الحديثة, وهذا ما حدا بالنهضويين العرب, ومنذ الاحتكاك الاول للدول العربية, المنغلقة على اسلامها وماجرته عليها الامبراطورية العثمانية من حالة تخلف هائل, بالحضارة الغربية, وأعني بذلك دخول نابليون الى مصر.

سعى هؤلاء النهضويون بصنفيهم, الداعي الى إدخال الحداثة على الدين الاسلامي بدءاً بمحمد عبده والكواكبي ووصولا الى نصر ابو زيد والجابري وغيرهم أو إلغاء الوجود الديني برمته كما هو الحال عند صادق جلال العظم وغيره, ومن خلف هؤلاء المنظرين تأتي الحشود المتبرمة من واقعنا الراهن والمغرمة بالتجربة الاوربية وعلمانيتها ليصطفوا جميعا وبكل ثقة خلف فكرة يؤكدون صلاحيتها وهو ان النهضة العربية رهن بتطبيق الحداثة الاوربية والعلمانية.

لهؤلاء جميعا اقول:

1- من المحال للفكر المجرد ان يتجاوز العوامل المادية التاريخية للمجتمع ويكون مؤثرا فيه, بل ان الفكر المجرد الذي ينتجه المجتمع ناشئ عن العوامل المادية, فأوروبا احتاجت الى الف عام كي تجتمع فيها العوامل التالية:

الكنيسة تفقد سلطتها

اـ وصول الطغيان الكنسي الى ذروته وفقدان الكنيسة سلطتها الروحية, جراء فضائحها, في نفوس الجماهير المسيحية المؤمنة, ومن ثم فقدانهم الثقة بمقرراتها المعرفية وهذا ما حتّم النهوض العلمي والفكري وفي هذه المرحلة دون غيرها, فغاليلو بفكرة دوران الارض وعدم مركزيتها لم يكن من الممكن ان يظهر بمنجزه العلمي في القرن الثامن مثلا حيث كانت الكنيسة آنذاك تتمتع بمصداقية عند الشعوب الاوربية ويثقون بان ما تقوله هو الحقيقة, بمعنى ان غاليلو لو لم يفقد الثقة بالكنيسة لم يبحث عن الحقيقة في المجال العلمي. 

العلم لا الكينسة!

ب ـ رغبة الملوك الاوربيين بالتخلص من سلطة الكنيسة القاهرة, اضافة الى ما مدتهم به الحركة العلمية من دعم وقوة فحركة الملاحة والاستكشافات اضافة الى تطور الالة بما فيها السلاح الفتاك كل هذا دفع الملوك الى دعم الحركة العلمية والفكرية المتملصة من سلطة الكنيسة.

ج ـ التطور الاقتصادي والازدهار الذي عاشته اوروبا من جراء تطور الملاحة حيث ازدهرت التجارة اضافة الى المستكشفات الجغرافية مثل قارة امريكا, فالأوروبي حين كان يعيش مزارعا فقيرا اندفع نحو الحلم الوردي الذي ترسمه الكنيسة فيما بعد الموت, اما حين انتقل للعمل في الموانئ البحرية وتحسن مستواه صار يصغي الى مقررات العلم التي من شأنها تطور الية العمل التي بدورها تحسن من مستواه 

ومع مقارنة واقعنا العربي المعاصر فيما بعد سقوط الدولة العثمانية مع اوروبا ضمن هذه العوامل نجد ما يلي:

اـ ان المراكز الدينية الاسلامية متمثلة ـ مثلا ـ بالأزهر الشريف لدى السنة والحوزة العلمية في النجف لدى الشيعة لم تمارس سلطة دنيوية تتغلغل بكل تفاصيل الحياة اليومية للمسلم ولم تمثل وجودا سياسيا محميا بفيالق من الفرسان ولم يتعهدوا للناس بحقائق معرفية على كل الأصعدة، ولم يمارسوا تعسفا كالذي مارسته الكنيسة في التنكيل والتعذيب البشع في محاكم التفتيش او منعها للطب، وان على الانسان ان يعالج نفسه بالإيمان.. وبهذا، فان العالم والمكتشف العربي لم تكن مشكلته مع السلطة الدينية بل مع جهة سياسية.

ب ـ الحكام العرب لم يكونوا سوى بيادق مكنتهم القوى الاستعمارية من تولي مناصب الحكم, فكانت علاقة الحكام بالمراكز الدينية إما على اساس التعايش السلمي او تسخيرها لدعم سلطته.

ج ـ الاستقلال الذي حصلت عليه الدول العربية من الاستعمار كان استقلالا شكليا وبالتالي فالنمو والتطور على اي صعيد كان شكليا, فطالما كانت حصة بريطانيا من نفط العراق والخليج خطا احمر لا يمكن المساس به إضافة الى ما يجعله الحاكم العربي ملكا له من ثروات البلاد, وبالتالي فان مستوى الفرد على الصعيد الاقتصادي كان محدودا بحدود ما هو مرسوم لدولته, سواء دعم الاتجاه العلمي وانسلخ عن الدين او لم يفعل.

2- التنظير الحداثوي العربي ـ بغض النظر عن صوابه او خطئه او قدرته الحقيقة على استنقاذ الوضع العربي ـ ولكن تبقى عملية التبشير بان خطوات الاصلاح تتم عن طريق الضخ الاعلامي والتثقيفي بضرورة الاخذ به هي عملية بعيدة عن الواقع, فمثلا ما نظّر به لوك وفولتير وكانت وغيرهم، ما كان له ان يؤثر بالمجتمع لولا العوامل التاريخية التي تحكمت بأوروبا في القرون 17 الى 19, وعليه فان المجتمع العربي بحاجة الى تراكم تاريخي مماثل يصل بنا الى الاخذ بما تطرحه مدارس الحداثة, وكمثال آخر فان عملية تكفير الازهر في مصر للمفكر نصر حامد ابو زيد وبالتالي هجرته الى هولندا لا تحمل في طياتها سمات التخلف او غير ذلك, بقدر ماهي مماثلة اللحظة التاريخية لعلمية التكفير من حيث العوامل التاريخية للحظة تكفير الكنيسة لغاليلو وبالتالي رجوعه عما قاله.

 وعليه فان المجتمع العربي يحتاج الى سيرورة مماثلة لما تم في اوروبا منذ محاكمة غاليلو حتى ترسيخ العلمانية بشكل نهائي, كي يتم الاخذ بما قاله نصر ابو زيد, وهذا ما لن يتم لاختلاف العوامل المادية التاريخية كما بينّت.

3- هيمنة القوى العالمية على الدول العربية وهذا يقودنا الى الحديث بأمرين: 

الاول ما يسمى بنظرية المؤامرة التي يطيب للكثيرين تفنيدها, واني وان كنت لا أحبذ استخدام هذه العبارة بقدر الاعتماد على الواقع الملوس الخارج عن اي تنظير, فحين اجد حربا استمرت لثماني سنوات وادت الى تدمير العراق بشكل كبير واجد امريكا مسؤولة عن اشعال هذه الحرب وديمومتها فهل عليّ ان اغمض عيني واردد ان نظرية المؤامرة باطلة ؟!! ثم فليقرأ من يريد ان يقرا كتاب الاغتيال الاقتصادي للأمم لجون بركنز وامريكا طليعة الانحطاط لغارودي وعشرات من الكتب المماثلة وله بعد ذلك ان يردد ما يشاء ولي أن اؤمن بما جاء فيها.

الثاني هو التسليم بشرور الغرب ومن ثم تقديم نظرية مفادها ان تحكّم القوي بالضعيف هو قانون الحياة فعلى مجتمعاتنا ان تنهض الى مستوى يجعلها عصية على هيمنة القوى العظمى وليس ان نجعل قوة الغرب شماعة نعلق عليها تكاسلنا وهنا نكون امام امرين:

الاول: العلماني لم يقدم غير التنظير وذم الطرف الاخر دون اية خطوة ملموسة في هذا المضمار واذا اعتذر بعدم امتلاكه الوسيلة التي تمكنه فان لأي طرف آخر التعذر بنفس العذر.

الثاني: اعود الى قضية العوامل المادية التاريخية وحتميتها, فكي تجعل العراق دولة قادرة على مناهضة امريكا عليك ان تهبه تاريخا كتاريخ الولايات الامريكية بدءا بهجرة الانكليز اليها بارضها البكر ومناجمها الغنية ومن ثم إفناء 150مليون هندي احمر الى انهاء الحرب العالمية الثانية عن طريق القنبلة النووية وخروج امريكا من الحرب وهي الدولة الوحيدة التي لم تفقد قواها الاقتصادية والعسكرية.

4- لست ضد الدعوة للإصلاح والنهوض ولكني ضد:

اـ اعتماد التنظير الفلسفي وغض النظر على حتمية العوامل المادية وان عملية النهوض هي معركة شرسة مع قوى تهدف الى التحكم بالعالم وباستغلال خيراته اكثر مما هي اشكالية مع الدين وان العقل العربي يعتمد على مقررات من القرن الرابع وان النص الديني داخل او خارج عن التاريخ 

ب ـ التصور الخاطئ بان النموذج الاوربي هو المقتدى الصالح حيث ان النموذج الاوربي يعاني من خلل كبير على الصعيدين الفكري والسياسي فعلى صعيد الفكر كان من ثمار العلمانية ازدهار الفكر الالحادي المادي للطبيعة والاخلاق نتج عن ذلك فكرة التفوق العرقي التي كانت ركيزة اساس في خلق النازية التي احرقت اوروبا. 

وعلى صعيد السياسة فما ان تلقفت الدول الغربية تطورها في عصر النهضة حتى ساحت جيوشها في الارض تنذر شعوبها بالويل والثبور, وحتى يومنا هذا فان الغرب يدين برفاهيته وتقدمه الى استغلال الامم المغلوب على امرها.

ج ـ ان يكون الفكر العلماني او الحداثة الغربية هي بالضرورة المبضع الذي يستأصل من مجتمعاتنا واقعها المزري او ان الدين هو العائق, فدول امريكا الجنوبية لا دينية ومتخلفة, ودول الخليج العربي لم تجر ان تغيير في ثقافتها الدينية حين شهدت تطورات حضارية كبيرة. 

5- على صعيد التنظير في الساحة العربية والاسلامية الى جنب التنظير العلماني تطالعنا جهود ناضجة ومهمة في التنظير لحداثة معزولة عن حداثة الغرب وتستمد تنظيراتها من وحي الاسلام كما هو الحال عند الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن او هاني ادريس.