لا يمكن للتطرف أن يكون دينا أو دولة

تعتمد السلفية في مضمونها الأيدلوجي على حصانة التراث المتمثل بالرسول الأعظم (ص) وصحابته والطبقة اللاحقة لهم بما يعبر عنها بالتابعين وما أنتجوه وأنتجه الإسلام من حضارة خلال القرنين الأول والثاني الهجري, ورفض كل ما يتسم بالتجديد والحداثة على اعتبار أنه خروج على الدين ومروق عنه, وعلى الواقع المعاصر أن يحشر كل أبعاده وإرهاصاته في قالب ذلك التراث, متغافلة عن أن المكوّن الأهم في تليدها المقدس, وهو القران الكريم, إنما عبّر في تكوينه الذاتي عن ضرورة الاستجابة لمتطلبات الواقع المخاطَب, حيث كان نصا بلاغيا اعتمدته الرسالة الإسلامية في البرهنة على صدقها الغيبي والإسفار عن مفردات مشروعها الإصلاحي, حين خاطبت أبناء الجزيرة العربية بما امتازوا به من فصاحة وشعر وأدب, ولم تتخذ المعجز الكوني الذي طالما ركنت إليه الرسالات السابقة, واتَباع القران الكريم وسائل تدريجية كالناسخ والمنسوخ إلى أمثلة لا تحصى, تدلل على ان الإسلام بكتابه ونبيه (ص) وإن تنزّل من علو مطلق إلا انه امتنع عن الانغلاق والاستبداد, بالإضافة إلى ما نجده جليا من روح الإبداع والمواكبة الذي تخلل القرنين الأول والثاني ابتداء من الخلافة الراشدة ووصولا لأئمة المذاهب في معطيات أبناء هذين القرنين على الصعيدين الفكري والفقهي . 

السلفية.. إخفاق!

وإذا أجابت السلفية أن هذا كله يصب في دائرة التراث وعلينا أن نتعامل معه ككل مركب, فقد أخفقت في البرهنة على ضرورة هذا التحديد الزمني, وهي لمّا ألغت العصمة فقد جعلت حل المشكِل المتغير رهنا بآليات الفهم الإنساني وكفاءته الإبداعية, وهنا فمن المستحيل أن نجعل لهذين القرنين ما ليس لغيرهما من القرون من احتمالية توافر طاقات في الفهم والإبداع علاوة على ما للمسار الزمني من قابليات متماثلة في إفراز المشكلات الحياتية من عصر النبوة إلى نهاية تلكما القرنين والى زمننا الحاضر . 

لهذا فقد جاء موقفها المتزمت مع الآخر والقائم على الصدام والإلغاء نتيجة طبيعية لذلك الجدب المنطقي من جهة وعصمة مقرراتها الفكرية حسب منظورها من جهة أخرى. لتخرج لنا في النهاية بما يشهده العالم اليوم من صفحات الإرهاب والعنف متخذة من الجهاد الذي قال به الإسلام مادةً أساس تصنع منه بكيفياتها الفقهية ذريعة لشرعيته, وبمعزل عما يمكن أن يصلح من الطرح السلفي لحوار فقهي وعن الخلفية السياسية وأبعاد اللعبة الدولية التي شكلت جزءا مهما منه حيث سارعت ـ الخلفية السياسية ـ إلى وضع هذه الفئة ونتاجها الإرهابي في ما يتطلبه مخططها السياسي العام؛ فإن السلفية بمحتواها الأيدلوجي ونشاطها الجهادي (الإرهابي) تزعم إنما تعمل لإحياء الدولة الإسلامية التي شيد أركانها السلف الصالح.

من يقوّم الدولة؟

ولابد هنا لهذا الإحياء من خلف يماثل أولئك الصالحين ليكون القيادة التي تقوم عليها الدولة المقصودة ثم قاعدة تتقوّم بها تلك الدولة, فإن زعمت السلفية أنها أوجدت بدعاتها وزعمائها القيادة المفروضة فماذا عن القاعدة؟! 

وهي بدليل كفاحها المسلح ـ وقد أوشك أن يكون حديث الساعة ـ لن تكتفي السلفية بجزء من هذا الكوكب لتقيم عليه دولتها بالقيادة المزعومة والقاعدة التي يشكلها أتباعها اليوم والمنضوون تحت لوائها, إذن فهو الآخر, وفيما يتعلق بعملية جذبه للانخراط في دولتها فهي بعد أن ألقت بالدعوة الحسنة والحوار الفكري المفتوح جانبا من جهة, وتحديدها للآخر لا على أساس النشاط المضاد بل على أساس الهوية المذهبية المغايرة من جهة أخرى, فإنها إما أن تواصل كفاحها الارهابي الى إفناء هذا الاخر, او رضوخه واستسلامه والدخول عنوة في دولتها, وبالنسبة للأول فان حسابات التفوق العددي والعسكري يجعل منه امرا مستحيلا وغير متصوَر وتبعا لذلك الثاني, ولو سلمنا جدلا به (الثاني) وقامت تلك الدولة على التبعية القسرية من الآخر, فانه الاستبداد حينئذ لاسيما بعد الذي يبديه السلفيون ـ في واقع اليوم من أفراط في الانكماش عن مظاهر التجديد حتى ليصل بهم الحال إلى بعض المنجز التكنلوجي, ولا أظن أن أئمة الحزب السلفي قد نسوا قضية الشورى التي قامت على أساسها الخلافة الراشده وهم يعدونها واحدا من أهم دلائل عظمة تراثهم بما تعبر عنه من روح الديمقراطية والحرية .

وإن رجعنا الى ذريعة الكل المركب المفروضة على العقل والوجدان فإنها غير قادرة على دفع الآخر الى حظيرة الإيمان ولابد أن الاخر سيلقي باستسلامه جانبا ويثور شأنه شان كل الشعوب المضطهدة في سبيل حريتها, وتستأنف السلفية حينئذ فتاوى التكفير وإقامة الحد كحلقة مفرغة, ولابد من الإشارة الى أن احتمالات ما بعد اقامة الدولة, تبعا (للثاني) قد سلمنا به جدلا.