هل كان المختار الثقفي كذاباً؟!

ورد في المختار رحمه الله، عن الفريقين سنّة وشيعة، أخبار مادحة وأخرى ذامّة، على ما سيتّضح في الفصول اللاحقة، فهي متنافية متعارضة، تحتاج لمعالجة، بل المعالجة متعيّنة.

ونشير إلى أنّ أقوى ذمّ ورد في المختار أنّه ادعى النبوّة، وأنّ الوحي ينزل عليه، وأنّه هو الكذاب المعني بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «في ثقيف كذّابٌ ومبير» على ما سيأتي تفصيله في موضع آخر.

بيد أنّ هذه مجموع هذه القرائن تكذّب هذه الفرية تماماً؛ هاك لترى.

القرينة الأولى: الاتفاق على مدح المختار قبل قيامه بالثأر

قال ابن نما الحلي (645هـ) من أصحابنا: كان مولده في عام الهجرة، وحضر مع أبيه وقعة قُسِّ النّاطِف ([1]) وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان يتفلّت للقتال فيمنعه سعد بن مسعود عمّه؛ فنشأ مقداماً شجاعاً لا يتّقي شيئاً، وتعاطى معالي الأمور.

 وكان ذا عقل وافر، وجواب حاظر، وخلال مأثورة، ونفس بالسخاء موفورة، وفطنة تدرك الأشياء بفراستها، وهمة تعلو على الفراقد بنفاستها، وحدس مصيب، وكف في الحروب مجيب، وقد مارس التجارب فحنكته، ولامس الخطوب فهذبته ([2]).

قال ابن عبد البر القرطبي (463هـ) من أهل السنّة في الاستيعاب: المختار معدود في أهل الفضل والدين، إلى أنْ طلب الإمارة، وادّعى أنّه رسول محمد بن الحنفية في طلب دم الحسين ([3]).

وقال الذهبي (748هـ) في السير: نشأ المختار، فكان من كبراء ثقيف، وذوي الرأي، والفصاحة، والشجاعة، والدهاء، وقلّة الدين([4]).

وقال أيضاً لما ملك المختار الكوفة: وأخذ المختار في العدل، وحسن السيرة ([5]).

وقال ابن حجر (852هـ) في الإصابة: المختار بن أبي عبيد الثقفي، غلب على الكوفة في أول خلافة بن الزبير، فأظهر محبة أهل البيت، ودعا النّاس إلى طلب قتلة الحسين، فتبعهم فقتل كثيراً ممّن باشر ذلك أو أعان عليه، فأحبّه النّاس، ثمّ إنّه زين له الشيطان أن ادعى النبوة، وزعم أنّ جبريل يأتيه...([6]).

قلت: ما ذكره ابن حجر أنّ المختار طلب الثأر وحاز على محبّة النّاس دراية، وأمّا أنّه ادعى النبوّة، فرواية ساقطة فيما سيتّضح في الفصل الرابع.

وقال ابن حجر في لسان الميزان: والده أبو عبيد، كان من خيار الصحابة، استشهد يوم الجسر في خلافة عمر بن الخطاب، وإليه نسبت الوقعة فيها جسر أبي عبيد، وكان المختار ولد بالهجرة، وبسبب ذلك ذكره ابن عبد البر في الصحابة؛ لأنّه له رؤية في ما يغلب على الظن ([7]).

وقال الذهبي (748هـ) في العبر: سنة أربع عشرة، وفيها كانت وقعة جسر أبي عبيد، واستشهد يومئذ طائفة منهم: أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وهو الذي نسب إليه الجسر، وهو والد المختار الكذّاب، وكان من سادة الصحابة ([8]).

قلت: يكاد لا يختلف أهل السنّة، ناهيك عن الشيعة أنار الله برهانهم أنّ المختار –قبل قيامه بالثأر للحسين- كان من أهل العقل والرأي والفصاحة والشجاعة والجهاد والدين؛ فلقد سلّ سيفه ليجاهد الكفار وهو بعمر ثلاثة عشرة سنة في وقعة جسر أبي عبيد، كذا ذكرت جلّ مصادرهم، وإنّما طعن فيه أهل السنّة بعد أنْ طلب الثأر وقارع الظالمين، زبيريين ومروانيين.

الزبدة: مدح المختار دراية، وذمّه -فيما سيثبت كتابنا المتواضع هذا- رواية، والدراية مقدّمة على الرواية، سيما إذا كانت الرواية ضعيفة الإسناد أو الدلالة أو كليهما.

وسيتّضح جليّاً أنّ الأخبار في ذمّ المختار؛ سيما ما ذكره أهل السنّة، إمّا ضعيفة الإسناد، وإمّا ضعيفة الدلالة، وإمّا كليهما.

القرينة الثانية: ابن عبّاس يمتدح المختار بعد موته

أخرج ابن سعد (230هـ) في كتاب الطبقات قال: أخبرنا المعلّى بن أسد، قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار قال: حدثنا خالد، قال: حدثني أبو العريان المجاشعي، قال: بعثنا المختار في ألفي فارس إلى محمد بن الحنفيةـ قال فكنّا عنده.

قال (أبو العريان): فكان ابن عباس (68هـ) يذكر المختار(67هـ) فيقول: «أدركَ ثأرنا، وقضى ديوننا، وأنفق علينا»([9]).

قلت: إسناده صحيح دون أدنى كلام، فرجاله ثقات على شرط الشيخين، سوى بركة العريان، وهو ثقة بإجماع.

والنّص ظاهرٌ جدّاً أنّه صدر عن حبر الأمّة ابن عبّاس (68هـ) بعد مقتل المختار (67هـ) ومحالٌ عادةً أن يمتدح حبر الأمّة كذّاباً أشراً مدعيّاً للنبوّة؛ وإلاّ ساغ أن يمتدح مسيلمة الكذّاب أيضاً، وبطلانه ظاهر.

وفي هذا دلالة ما، أنّ فريّة ادّعاء المختار النبوّة أكذوبة حدثت بعد وفاة ابن عبّاس رضي الله عنه، فاحفظ.

وقال البلاذري وابن الأثير جازمين: وقال عبد الله بن الزبير لابن عباس: ألم يبلغك قتل الكذاب؟!

قال ابن عبّاس: ومن الكذاب؟!

قال ابن الزبير: ابن أبي عبيد.

فقال ابن عبّاس: قد بلغني قتل المختار.

قال ابن الزبير: كأنّك تكره تسميته كذاباً وتتوجّع له؟!

فقال ابن عبّاس: «ذلك رجل قتل قتلتنا، وطلب بدمائنا، وشفى غليل صدورنا، وليس جزاؤه منّا الشتم والشماتة» ([10]).

قلت: واضح أنّ دعوى كون المختار كذاباً، كما يظهر من نصّ البلاذري، فرية زبيريّة أوّل من ألصقها بالمختار آل الزبير ثمّ بني أميّة؛ كونه موالياً لأهل البيت عليهم السلام، وقد تواتر في التاريخ أنّ عبد الله بن الزبير كان من خصومهم، بل أعدائهم، لا يحبّهم ولا يطيقهم، حتى أنّه ترك الصلاة على محمد وآل محمد من العبادات حسداً لهم..، ذكرنا هذا موثقاً في بعض كتبنا الكبيرة ([11]).

الحاصل: محال عادةً أن يمتدح ابن عبّاس وهو حبر الأمّة، كذّاباً كافراً مدعيّاً للنبوّة؛ فتعيّنَ كونها فرية وأكذوبة وافتراء.

القرينة الثالثة: المختار من الصحابة

قال الحافظ ابن حجر: وكان المختار ولد بالهجرة، وبسبب ذلك ذكره ابن عبد البر في الصحابة([12]).

قلت: ذكره ابن عبد البر في كتابه الاستيعاب في معرفة الأصحاب؛ لقوّة احتمال أنّه ممّن رأى النبيّ 9، لكنّه مع ذلك نفى صحبته قائلاً: ولد المختار عام الهجرة، وليست له صحبة ولا رواية، وأخباره غير مرضية ([13]). اهـ.

قلت: وهذا كيلٌ بمكيالين؛ يدلّ على قوّة الصحبة والرؤية.

الدليل أنّ المختار من الصحابة

قال ابن حجر العسقلاني (852هـ) في اللسان: ذكره ابن عبد البر في الصحابة؛ لأنّه له رؤية في ما يغلب على الظن([14]).

قلت: وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع العلماء، غزا الطائف سنة ثمان للهجرة، وفيها قوم ثقيف، فدخل جميع أهلها الإسلام، عدا هذا فجميعهم في السنة العاشرة للهجرة قد شهد حجّة الوداع مع النبيّ محمد 9 دون استثناء، وقد كان عمر المختار وقتذاك عشر سنين؛ لعدم الخلاف أنّ مولده عام الهجرة.

قال أي ابن حجر في الإصابة موضّحاً ذلك: قد تقدّم غير مرة، أنّه لم يبق بمكّة، ولا الطائف، أحدٌ من قريش، وثقيف، إلاّ شهد حجّة الوداع، فمن ثمّ يكون المختار من هذا القسم([15])، إلاّ أنّ أخباره رديئة([16]).

وقال ابن حجر أيضاً: وقد تقدم التنبيه على أنّ من كان شهد الحروب في أيام أبي بكر وما قاربها، من قريش وثقيف، يكون معدوداً في الصحابة؛ لأنّهم شهدوا حجة الوداع([17]).

وقال أيضاً: تقرّرَ أنّ من عرف من أهل مكة والطائف، أنّه كان في العهد النبوي إلى خلافة أبي بكر فما بعدها، فإنّه يعد في الصحابة، لأنّهم شهدوا حجّة الوداع مع النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم([18]).

قلت: مجموع ذلك يفيد أنّ له رؤية وصحبة.

وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فيما اتّضح؛ فالمختار، على مباني أهل السنّة، من الصحابة، وكلّهم عدول إذا ماتوا على الإسلام.

وسيأتي أنّ أخبار أهل السنّة في ذمّ المختار، ليس فيها إلاّ ما يدلّ على إسلامه، وأمّا فرية أنّه ادّعى النبوّة وأنّ الوحي جبرائيل ينزل عليه وغير ذلك من الترهات، فهي تخرّصات وافتراءات ومجازفات، مجانبة لكلّ قواعد التحقيق، ومنافية لعامّة قوانين النظر.

والحقّ، وهو ما يستّضح جلياً، فإنّ جماعة من قدماء أهل النصب، من أعداء أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، تعمّدوا تسقيط شأن المختار فيما رامه من الحقّ، وتشويه صورته الشريفة في طلب الثأر؛ إرضاءً للشيطان وأعوانه من طغاة الزمان.

بيان كلام ابن عبد البرّ (463هـ)

وربما تقول بتنافي قول الحافظ ابن حجر: ذكره ابن عبد البر في كتاب الصحابة؛ لأنّه له رؤية في ما يغلب على الظن. مع قول ابن عبد البرّ في كتابه الصحابة: ليست له صحبة ولا رواية.

قلت: كتاب الصحابة، هو: الاستيعاب في معرفة الأصحاب. أدرج فيه كلّ من رأى النبيّ عليه السلام ومات على الإسلام، ولو احتمالاً.

وجوابه: لا تناف؛ للشك في كون المختار ; مات على الإسلام؛ إذ لو ثبت ادّعاء المختار النبوّة بنحو الجزم، فهو كمسيلمة الكذّاب، كافرٌ ليس بمسلم؛ فلا يكون من الصحابة.

فافهم هذا؛ إذ لا جزم في كون المختار ; قد ادّعى النبوّة وأنّ الوحي ينزل عليه، وإلاّ لما أدرجه ابن عبد البرّ في الصحابة؛ فكون ابن عبد البر قد أدرجه ضمن الصحابة في كتابه، فهذا يعني أنّه محتمل الصحبة والإسلام، وإن كان الراجح عنده أنّ المختار كان كذّاباً قد ادّعى النبوّة، لكن هذا لا بنحو الجزم واليقين، بل احتمالٌ وظنّ؛ وإلاّ لما ادرجه ضمن الصحابة، فتدبّر !!.

القرينة الرابعة: صاحب راية المختار صحابيٌّ ثقةٌ جليلٌ

قال الذهبي: وكان أبو الطفيل عامر بن واثلة 2(100هـ)، ثقة فيما ينقله، صادقاً، عالماً، شاعراً، فارساً، عمّرَ دهراً طويلاً، وشهد مع عليّ حروبه([19]).

قال ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم الدنيوري (276هـ) في المعارف: أبو الطّفيل: صاحب راية المختار (67هـ)، وكان آخر من رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم موتاً (100هـ) ([20]).

 وقال الإمام أبو إسحاق، إبراهيم بن عليّ الشيرازي(476هـ): أبو الطفيل، عامر بن واثلة، رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان آخر من رآه موتاً، مات بعد سنة مائة، وكان صاحب راية المختار ([21]).

وقال ابن حجر (852هـ): أساء أبو محمد بن حزم الأندلسي، فضعف أحاديث أبي الطفيل؛ وقال: كان صاحب راية المختار الكذاب، وأبو الطفيل صحابي لا شك فيه، ولا يؤثر فيه قول أحد، ولا سيما بالعصبية والهوى([22]).

مشهور أهل القبلة الأعظم، سنّة وشيعة، على هذا، بل هو إجماع على التحقيق؛ إذ لا عبرة بمن شذّ إن وجد.

قلت: فهل يعقل أنّ المختار كان كذاباً؛ يدعّي النبوّة، وأنّ الوحي ينزل عليه، ويكون صاحب رايته في طلب ثأر الحسين بن علي صلوات الله عليه، هذا الصحابي الثقة العدل الجليل؟!!

اللهمّ كلاّ، وهذا يكشف أنّها افتراءات محضة، ألصقها أشرس خصوم أهل البيت عليهم السلام من آل الزبير وبني أميّة بالمختار رحمه الله؛ لتشويه صورته؛ كونه موالياً لأهل البيت طالباً بثأرهم.

بين صحبة المختار وأبي الطفيل!!

ننبّه للفائدة، أنّ أهل النقد والتاريخ والسيرة، أجمعوا على أنّ أبا الطفيل رضوان الله عليه كان صحابياً، مع أنّه لم يدرك من حياة النبي إلاّ ثمان سنين.

وأمّا المختار رضي الله تعالى عنه، فأدرك عشر سنين من حياة النبي صلوات الله عليه وآله، وهذا ينتج أنّ المختار أكبر من أبا الطفيل بسنتين، وهو، بضميمة ما تقدّم، قرينة على قوّة صحبة المختار رضي الله عنه.

قلت: مات أبو الطفيل سنة (100هـ) وقيل: (102هـ) وقيل: (107هـ) وقيل: (110هـ).

القرينة الخامسة: ابن عمر يقبل أموال المختار دون ذم

قال ابن سعد (230هـ) في طبقاته: أخبرنا الفضل بن دكين قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن نافع قال: كان المختار (بن أبي عبيد) يبعث بالمال إلى ابن عمر فيقبله ويقول: لا أسأل أحداً شيئاً، ولا أردّ ما رزقني الله.

وأخرجه ابن سعد أيضاً قال: أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أويس المدني، عن سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد به مثله([23]).

قلت: إسناد كلّ منهما صحيح على شرط مسلم، رجالهما ثقات على شرط الشيخين، سوى إمامنا جعفر بن محمد الصادق أرواح العالمين له الفداء، احتج به مسلم، ولم يحتج به البخاري قبّح الله صنيعه.

والحديث صريحٌ أنّ الصحابي المشهور عبد الله بن عمر بت الخطاب، كان يقبل هدايا المختار بن أبي عبيد.

لكن نتساءل بشدّة، هل كان سيقبلها لو كان المختار مرتدّاً كذّاباً كافراً، مدّعياً للنبوّة فيما زعموا وافتروا ؟!! هاك لترى.

أخرج ابن سعد (230هـ) في الطبقات قال: قال: أخبرنا عارم بن الفضل قال: حدثنا حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن نافع أنّ معاوية بعث إلى ابن عمر بمائة ألف، فلما أراد أن يبايع ليزيد بن معاوية قال: أرى ذاك أراد..؛ إنّ ديني عندي إذاً لرخيص([24]).

وأخرجه الفسوي (277هـ) في المعرفة قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد به مثله ([25]).

قلت: إسناد كلّ منهما صحيحٌ على شرط الشيخين.

فإذا كان قبول ابن عمر أموال معاوية يعني أنّ الدين رخيص، فهديّة المختار لا تنافي الدين إطلاقاً، وإلاّ لذمّها ابن عمر كما ذمّ معاوية وأمواله؛ فمع أنّ الصحابي ابن عمر قبل هديّة معاوية خير قبول، إلاّ أنّه -آخرالمطاف- ذمّها كونها باطلاً، لكنّه لم يفعل هذا مع المختار وأمواله.

والحقّ فإنّ هذه القرينة، لا تصلح إلاّ لشيءٍ واحد، وهو دفع فرية أنّ المختار -وحاشاه- قد ادعى النبوّة وأنّ الوحي ينزل عليه، وإلاّ لاستحال عادةً أن يقبل ابن عمر أموال كافرٍ، مدعٍ للنبوّة والوحي، من دون أدنى ذمّ، فع هذا جيّداً واحفظه.

القرينة السادسة: ابن أبي ليلى يمتنع عن سبّ المختار

أخرج الإمام ابن أبي شيبة (235هـ) في مصنّفه المعروف قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش قال: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، ضربه الحجاج وأوقفه على باب المسجد , قال: فجعلوا يقولون: العن الكذابين , فجعل عبد الرحمن يقول: «لعن الله الكذابين» ثمّ يسكت ثم يقول: «عليُّ بن أبي طالب، وعبدُ الله بن الزبير، والمختارُ بن أبي عبيد» , فعرفت حين سكت ثمَّ ابتدأهم فرفعهم أنّه ليس يريدهم ([26]).

وأخرجه ابن سعد (230هـ) قال: قال: أخبرنا أبو معاوية الضرير، قال: حدثنا الأعمش به مثله ([27]).

قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والضرير، وهو محمد بن خازم الأعمى قد صرّح بالسماع، وهو ثقة احتجّ به الشيخان.

قال الإمام الفسوي (277هـ) في كتابه المعرفة: حدثنا ابن نمير قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش قال: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى، قد أقامه الحجاج بن يوسف الثقفي، وضربه وهو يقول: سبَّ الكذّابين!!.

فيقول: عبد الرحمن: لعن الله الكذابين. ثمّ يسكت، ثم يقول: عليُّ بن أبي طالب، عبدُ الله بن الزبير، المختارُ بن أبي عبيد.

قلت: الحديث صحيح، وهذا الإسناد حسن على شرط البخاري.

وقد توبع ابن عيّاش بما أخرج الفسوي قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، قال: حدثنا حفص بن غياث وأبو بكر بن عياش، عن الأعمش قال: رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد ضربه الحجاج، وكان يحضره شيخاً، وهو متكىء على ابنه، وهم يقولون له: العن الكذابين؟!.

فيقول: لعن الله الكذابين، ثمّ يقول: الله الله عز وجل، عليُّ بن أبي طالب، عبدُ الله ابن الزبير، المختارُ بن أبي عبيد.

قال الأعمش: وأهل الشام حوله كأنّهم حمير لا يدرون ما يقول، وهو يخرجهم من اللعن ([28]).

قلت: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

دلالة الحديث!!

أقل ما في هذا الحديث، نفي مزعمة أنّ المختار كان يدّعى النبوّة وأنّ الوحي ينزل عليه، وإلاّ لما ساغ لعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني رضي الله عنه، وهو علماء التابعين الأجلاء، التورية؛ كونها كذباً، وهو محرّم إجماعاً.

فتوريته رضوان الله عليه كاشفةٌ أنّ هذه الدعاوى، لا تعدو الكذب والافتراء، وأنّها معلّبة في مصانع السلطة الأمويّة المروانيّة الظالمة.

فعبد الرحمن بن أبي ليلى فيما قلنا، من أجلاء التابعين وعلماء المسلمين، أجمع على جلالته قاطبة أهل الإسلام سنّة وشيعة؛ فيكفي أنّه رأى مائة وعشرين صحابياً، أحدهم مولى الموحدين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، بل هو من أصحابه المشهورين، شهد معه حروبه رضوان الله عليه.

فيكفي في جلالته، وأنّه على الهدى، أنّه دعي إلى سبّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فتعاطى التورية الشرعيّة؛ فلم يقل: لعن الله الكذابين، المختارَ. ..، على المفعوليّة والنصب، بل قال: المختارُ، على الرفع والاستئناف والابتداء.

الحاصل: فرية أنّ المختار كذّاب، ممّا اختلقها بنو أميّة، عهد الحجاج، علاوة على آل الزبير قبل ذلك، ومدارنا النصوص الصحيحة، فاحفظ.

القرينة السابعة: لم يتفرّد المختار بطلب الثأر

ورد في المصادر المعتبرة، ولا خلاف في ذلك أنّ بعض الصحابة الأجّلاء، كانوا على دين المختار في طلب الثأر..، هاك ما تسنى لعجالتنا إحصاؤهم:

سليمان بن صرد الخزاعي

قال ابن حجر العسقلاني (852هـ) في التهذيب: سليمان بن صرد، بن الجون بن أبي الجون، بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن حرام الخزاعي، أبو مطرف الكوفي، له صحبة، روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أبي بن كعب وعلي بن أبي طالب والحسن بن علي وجبير بن مطعم([29]).

وقال ابن حبان البستي (354هـ) في كتابه المشاهير: سليمان بن صرد الخزاعي أبو مطرف، له صحبة، وكان مع الحسين بن عليّ، فلما قتل الحسين انفرد من عسكره تسعة آلاف نفس، فيهم سليمان بن صرد، فلما خرج المختار، لحق سليمان به، فقتل مع المختار بن أبي عبيد، بعين الوردة في رمضان سنة سبع وستين ([30]).اهـ.

قلت: لم يُقتل المختار بعين الوردة فيما سيتّضح، ولعلّ مقصود ابن حبّان بالمعيّة أنّ الجميع على الجملة، كان جيشاً واحداً طالباً لثأر الحسين تحت راية المختار؛ لكن قبض على المختار رحمه الله في هذا الوقت وأودع في السجن، وسيأتي موجز البيان.

وتقع عين الوردة: غربي الكوفة، شمال شرق دمشق، وفي حدود علمي القاصر، هي اليوم ضمن الحدود التركيّة.

وقال الإمام الحنفي محمود بن أحمد العيني (855هـ) في العمدة: سليمان بن صرد بضم الصاد المهملة وفتح الراء وبالدال المهملة الخزاعي الكوفي الصحابي، وكان اسمه يسار وضد اليمين في الجاهلية، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: سليمان، سكن الكوفة وقتل بموضع يقال له: عين الوردة، وقيل: في الحرب مع مقدمة عبيد الله بن زياد وحمل رأسه إلى مروان بن الحكم وكان عمره ثلاثاً وسبعين سنة([31]).

وقال المباركفوري في المرعاة: )سليمان بن صرد) بضم المهملة وفتح الراء ابن الجون الخزاعي أبومطرف الكوفي صحابي.

قال ابن عبد البر: كان خيراً فاضلاً وكان اسمه في الجاهلية يسار، فسمّاه النبي صلى الله عليه وسلم سليمان، سكن الكوفة، وكان له سن عالية، وشرف وقدر وكلمة في قومه، وشهد مع علي صفين، وهو الذي قتل حوشب ذا ظليم الأُلهاني بصفين مبارزة، وكان فيمن كتب إلى الحسين يسأله القدوم إلى الكوفة، فلما قدمها ترك القتال معه، فلما قتل الحسين ندم هو والمسيب بن نجية الفزاري في آخرين إذ لم يقاتل معه ثم قالوا: مالنا من توبة مما فعلنا إلاّ أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه، فخرجوا فعسكروا بالنخيلة وولوا أمرهم سليمان بن صرد وسمّوه أمير التوابين، ثمّ ساروا فالتقوا بمقدمة عبيد الله بن زياد في أربعة آلاف، بموضع يقال له عين الوردة، فقتل سليمان والمسيب في ربيع الآخر سنة (65هـ) وقيل رماه يزيد بن الحصين بن نمير بسهم فقلته، وحمل رأسه ورأس المسيب إلى مروان بن الحكم، وكان سليمان يوم قتل ابن ثلاث وتسعين سنة ([32]).

مخنف بن سليم

مخنف بن سليم بن الحارث بن عوف بن ثعلبة بن عامر بن ذهل بن مازن بن دينار بن ثعلبة بن الدؤل بن سعد بن غامد الأزدي الغامدي. ..، قال ابن سعد أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم ونزل الكوفة بعد ذلك، ومن ولده أبو مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الذي يروي الأخبار.

وقال أبو نعيم استعمله عليّ بن أبي طالب على أصبهان، وسكن الكوفة.

قلت (=ابن حجر): وكان ممّن خرج مع سليمان بن صرد في وقعة عين الوردة، وقتل بها، وكانت معه راية الأزد يوم صفين ([33]).

يتبع...

  • مقتطف من كتاب المختار الثقفي في ميزان الجرح والتعديل عند الفريقين، صادر عن شعبة البحوث والدراسات في قسم الشؤون الدينية – العتبة الحسينية المقدسة

الهوامش:

 ([1]) منطقة وقعت فيها حرب بين المسلمين والفرس قرب الحيرة، وتسمى أيضاً: وقعة جسر أبي عبيد.

([2]) ذوب النظّار(ت: فارس حسون كريم): 60. مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

([3]) الاستيعاب (ت: علي البجاوي) 4: 1465. رقم: 2528. دار الجيل بيروت.

([4]) سير أعلام النبلاء 3: 539. رقم: 144. مؤسسة الرسالة، بيروت.

([5]) سير أعلام النبلاء 3 :538. رقم: 144. مؤسسة الرسالة، بيروت.

([6]) فتح الباري (ت: محب الدين الخطيب) 6: 617. دار المعرفة، بيروت.

([7]) لسان الميزان 6: 6، رقم: 17. دائرة المعارف النظامية، الهند.

([8]) العبر في أخبار من غبر(ت: أبو هاجر زغلول): 14. دار الكتب العلميّة، بيروت.

([9]) طبقات ابن سعد (ت: محمد عطا) 5: 78. العلميّة، بيروت.

([10]) أنساب الأشراف (ت: سهيل زكار) 3: 287. دار الفكر، بيروت.

الكامل في التاريخ (ت: عمر تدمري) 3: 340. دار الكتاب العربي، بيروت.

([11]) انظر هذا في كتابنا عليّ 7في سنّة الرسول 9. دار الأثر، بيروت.

([12]) لسان الميزان 6: 6، رقم: 17. دائرة المعارف النظامية، الهند.

([13]) الاستيعاب (ت: علي البجاوي) 4: 1465. رقم: 2528. دار الجيل بيروت.

([14]) لسان الميزان 6: 6، رقم: 17. دائرة المعارف النظامية، الهند.

([15]) لابن حجر منهج ابتكره هو في الصحابة، فقسّمهم على أربعة أقسام: الأوّل: من ثبتت صحبته بالرواية. الثاني: فيمن ولد عهد النبيّ 9. الثالث: المخضرمين. الرابع، وهو مرمى ابن حجر ومنشوده وإبداعه: ما حام حولهم الخطأ والهم؛ كخطأ ابن عبد البرّ في نفي صحبة المختار.

فقول ابن حجر: المختار من هذا القسم، أي: الرابع؛ للعلّة أعلاه.

([16]) الإصابة 6: 292، رقم: 8567. دار الكتب العلميّة، بيروت.

([17]) الإصابة 6: 128، رقم: 8103. دار الكتب العلميّة، بيروت.

([18]) الإصابة 6: 130، رقم: 8110. دار الكتب العلميّة، بيروت.

([19]) سير أعلام النبلاء 3 :538. رقم: 144. مؤسسة الرسالة، بيروت.

([20]) المعارف: 624. الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة.

([21]) طبقات الفقهاء (ت: إحسان عبّاس). دار الرائد العربي، بيروت.

([22]) فتح الباري 1: 412. دار المعرفة، بيروت.

([23]) طبقات ابن سعد(ت: محمد عبد القادر عطا) 4: 112. دار الكتب العلميّة، بيروت.

([24]) طبقات ابن سعد(ت: محمد عبد القادر عطا) 4: 138. دار الكتب العلميّة، بيروت.

([25]) المعرفة والتاريخ1: 492.

([26]) مصنف ابن أبي شيبة(ت: كمال الحوت) 6: 195، رقم: 30617. مكتبة الرشد، الرياض.

([27]) طبقات ابن سعد(ت: محمد عبد القادر عطا) 6: 168. العلميّة، بيروت.

([28]) المعرفة والتاريخ (ت: أكرم ضياء العمري) 2: 617. مؤسسة الرسالة، بيروت.

([29]) تهذيب التهذيب 4: 200، رقم: 340. دائرة المعارف النظاميّة، الهند.

([30]) مشاهير علماء الأمصار (ت: مرزوق إبراهيم): 81، رقم: 305. دار الوفاء، المنصورة.

([31]) عمدة القاري 22: 125. دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([32]) الاستيعاب(ت: علي البجاوي) 2: 650. لرقم :1056. دار الجيل، بيروت.

([33]) تهذيب التهذيب 10: 78، رقم: 136. دائرة المعارف النظاميّة، الهند.