الحركات الإسلامية السياسية: إسلام اللاواقع أم واقع اللا إسلام؟

الكلام عن الاجتهاد السياسي للحركة الإسلامية، يقودنا من جديد الى ضرورة مراجعة العقلية الثقافية للمسلمين، ودراسة العوامل التي ساعدت في تكوينها، والمراجعة هي الطريق الوحيد الذي يسهم في الكشف عن الاتجاه العام للأمة، ومعرفة القيم التي تتحكم في مسيرها المستقبلي، والمشروع السياسي الإسلامي اليوم أمام منعطف خطير، وما زالت الفرصة أمامه لجمع أوراقه وترتيب أولوياته والعمل على بناء خطاب إسلامي يكون فيه أكثر تحرراً من الإسلام التاريخي، فالحركات الإسلامية أمام خيارين الأول: وهو العمل الدؤوب لرسم بوصلة جديدة للأمة ذات صبغة إسلامية تتصف بالأصالة والعصرنة مضافاً للنضج والفاعلية، والخيار الثاني: هو الجمود على الخطاب التقليدي ومسايرة الأمة واستغلال عواطفها الدينية لتحقيق مكاسب سياسية، وما يؤسف له ان الحركة الإسلامية اليوم أقرب للخيار الثاني، فلم تقدم تصوراً ناضجاً لنظام الحكم ينطلق من الإسلام، فنجدها مؤخراً تبنت الدولة المدنية كما هو الحال في مصر وتونس، الأمر الذي يكشف عن عدم جدية هذه الحركات في خيارها الإسلامي السياسي، فطالما الدولة المدنية هي الحل الأمثل لا يبقى مبرر لتشكيل أحزاب سياسية ذات صبغة دينية، وهذا الاستسلام والفشل نتيجة متوقعة؛ بسبب قصور الحركات وعدم قدرتها على تقديم تصور مقنع لنظام حكم إسلامي له قابلية الارتباط بالواقع، ومازالت الحركات بعيدة عن بلوغ مستوى يؤهلها لإعادة انتاج خطاب جديد يناسب الواقع الراهن، ويعود ذلك إلى صعوبات وتعقيدات لها علاقة بطبيعة الوعي والفهم الذي تختزنه الأمة لمعنى الإسلام، فقد تباين الإسلام بتباين المذاهب والتيارات حتى بات من الصعب تحديد معناً مشتركاً يمثل حالة إجماع بين أبناء الأمة، وما هو موجود بين المذاهب من تباينات، وما هو مطروح من قراءات يعقد الأمر ويضاعف الصعوبات. هذا مضافاً الى صعوبات أخرى تتعلق برصد الواقع وتقيمه والقدرة على التكيف والمواكبة، والتحدي الأكبر هو القدرة على تغيير مزاج الأمة ونفسيتها المأزومة.

يصف فرج فودة عجز العقلية الحركية في تقديم تصور إسلامي يتناسب مع العصر بأسلوبه الساخر فيقول: \اننا يجب أن نفرق بين الهروب والمواجهة، وبين النكوص والإقدام، وبين المظهرية والجوهر، فالمجتمع لن يتغير والمسلمون لن يتقدموا بمجرد إطالة اللحية و حلق الشارب، والإسلام لن يتحدى العصر بإمكانيات التقدم بمجرد أن يلبس شبابنا الزي الباكستاني، ومصر لن يتألق وجهها الإسلامي الحضاري بمجرد أن يتنادى الشباب بغير أسمائهم فيدعو الواحد منهم الآخر باسم (خزعل) ويرد عليه الآخر التحية بأحسن منها فيدعوه (عنبسة)\.

الواقع أو التأريخ؟

والقصور الذي نصف به الحركة الإسلامية في تقديم وعي جديد للإسلام، واجتهاد سياسي معاصر، ليس من باب عجز العقلية المنظرة أو التشكيك في المقدرة العلمية للقيادات الحركية، وانما قصور تفرضه طبيعة الإسلام الموروث، فإذا كان من الطبيعي أن يكون لكل زمان إسلام له خطاب سياسي واجتماعي خاص، فمن الضروري أن يكون لإسلام الحاضر شخصيته التي تميزه عن إسلام الماضي، وهذا هو الأمر الذي غفلت عنه الحركات الإسلامية بتبنيها للإسلام بنسخته التاريخية، فأوقعت نفسها في تناقض من الصعب تجاوزه، فكلما تمسكت بالإسلام ابتعدت عن الواقع، وكلما انفتحت على الواقع ابتعدت عن الإسلام، فالحركة الإسلامية في تركيا اقتربت من الواقع فتنازلت عن الإسلام وتبنت العلمانية، وتمسكت طالبان وداعش بالإسلام فابتعدت عن الواقع، وهي ذاتها الخيارات التي تنتظر النهضة في تونس والإخوان في مصر، بعد أن سبقتهم الحركة الإسلامية في السودان بتبني الإسلام كمجرد شعار نتيجة الفشل الذي رافق كل مفاصل التجربة، والخوف ان الحكومة السودانية بعد تحالفاتها الجديدة مع السعودية، أن تعيد إنتاج نفسها بصورة أكثر سلفية.

العلمانية وأمل الحكم الإسلامي

ومع ان خيار العلمانية والدولة المدنية أصبح هو الخيار الأقرب للحركات الأكثر وعياً واعتدالاً، إلاّ ان الإسلام المتطرف سوف يكون أكثر حظوة وصعوداً في هذه المرحلة، لأنّه الخيار المتبقي أمام الشباب الطامح في حكم الإسلام، بعد أن فقدوا كل ثقة في الحركات المعتدلة في تقديم نموذج إسلامي غير مداهن للواقع المعاصر، وفي حال سقوط هذا الخيار المتطرف أيضاً -وهو المتوقع لأنّه يسير عكس عقارب الزمن- سوف ينتهي أي أمل لحكم إسلامي تقيمه حركات إسلامية، إلاّ أن يتدخل الغيب بشكل مباشر وتقام حكومة العدل الإلهية.

 ومن كل ما تقدم يمكننا التأكيد على ان البعد الجوهري الذي يمكن الارتكاز عليه في تقديم قراءة جديدة للإسلام، هو تجاوز النظرة التقليدية الجامدة التي تصور الإسلام كمنجز تاريخي، وهو التحدي الأكبر أمام الحركات الإسلامية، ولا أظن أنها قادرة على تحقيق ذلك؛ لأنّه ردة حقيقة عن الإسلام الذي تشكل وفق التجربة التاريخية، ومن الواضح ان هذه الحركات لم تحاول نقد هذا الموروث بل عملت على تلميعه والتوفيق بين متناقضاته.

ولا يمكن الحديث عن الاجتهاد وإعمال العقل ورصد المتغيرات للخروج برؤية سياسية تنتمي للواقع الراهن، وما زالت الأمة مترددة في فتح باب الاجتهاد الفقهي. والذي يكشف عمق ارتباط الإسلام السني بالتاريخ؛ هو البقاء في باب الأحكام الفقهية على المذاهب الأربعة، الأمر الذي يؤكد مدى تأثير السلطة السياسية التاريخية على عقلية الأمة، وإلاّ كيف يمكن تفسير أغلاق باب الاجتهاد ومنع الأمة من ممارسة الدور الذي مارسه الأسلاف، ولعدم منطقية هذه الفكرة ولمخالفتها الواضحة لشروط المعرفة تعالت النداءات لفتح باب الاجتهاد، وإن كانت هذه الدعوات تعمل على تحرر الأمة من هيمنة الماضي الفقهية، إلاّ إنّها قاصرة ومحدودة إذا لم تدعوا الى تحرير كل الفهم الإسلامي من تأثير التجربة التاريخية.

 وبرغم ان هذه الدعوى تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح إلاّ إنها مازالت تدور في فلك الأئمة الأربعة، حيث لم يكن من المسموح أن تأتي الاجتهادات الجديدة مخالفة للمذاهب الأربعة، وقد نلحظ ذلك في الدعوى التي أطلقها مجمع الفقه الإسلامي العالمي لضرورة فتح باب الاجتهاد حيث وضع من ضمن الشروط التي يجب الالتزام بها هو الاقتداء بسلف الأمة وما عمل عليه الائمة الأربعة.

وهنا أنقل قرار مجمع الفقه الإسلامي:

\أما بعد: فان مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، في دورته الثامنة المنعقدة بمبنى رابطة العالم الإسلامي، بمكة المكرمة في الفترة ما بين 27 ربيع الآخر 1405هـ و 8 جمادى الأولى 1405هـ الموافق 18-29 يناير 1985م قد نظر في موضوع الاجتهاد، وهو بذل الجهد في طلب العلم، بشيء من الأحكام الشرعية، بطريق الاستنباط من أدلة الشريعة. فالهيكل الأساسي للاجتهاد، يتطلب تمام المعرفة، باستجماع الشروط، فلا مجال للاجتهاد إلاّ بها، تحصيلاً لهذا الفرض الكفائي، كما قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}، فقد أفادت الآية، ان التفقه في الدين، يتطلب التفرغ له، فلابد في الاجتهاد من أخذ الحيطة الكاملة، للوصول إلى الفهم الفقهي الصحيح.

وأوضح السيوطي إيضاحا كاملاً، فرضية الاجتهاد، وانه لم ينقطع، وذلك في كتابه (الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل ان الاجتهاد في كل عصر فرض) فبابه لم يغلق، ولا يملك أحد إغلاقه، ولاسيما ان علماء الأصول- حين بحثوا مسألة جواز خلو الزمن عن مجتهد، أو عدم خلوه- اتفقوا على ان باب الاجتهاد مفتوح أمام من تتوافر فيه شروطه، وانما تقاصرت الهمم عن تحصيل درجة الاجتهاد، وهي التضلع في علوم القرآن، والسنة المطهرة، وأصول الفقه، وأحوال الزمن، ومقاصد الشريعة، وقواعد الترجيح، عند تعارض الأدلة، مع عدالة المجتهد، وتقواه، والثقة بدينه.

وينقسم الاجتهاد أربعة أقسام:

القسم الأول: المجتهد المطلق. كالأئمة المقتدى بهم.

القسم الثاني: المجتهد في المذهب، وله أربع أحوال ذكرها الأصوليون.

القسم الثالث: مجتهد الترجيح.

القسم الرابع: المجتهد في فن، أو في مسألة، أو مسائل، وهو جائز- بناء على ان الاجتهاد يتجزأ - وهو المختار.

لذلك كله قرر المجلس بالإجماع:

1- ان حاجة العصر إلى الاجتهاد حاجة أكيدة، لما يعرض من قضايا، لم تعرض لمن تقدم عصرنا. وكذلك ما سيحدث من قضايا جديدة في المستقبل فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل، على الاجتهاد، حين لا يجد نصّاً من كتاب الله تعالى، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم- وذلك حين قال معاذ (أجتهد رأيي، ولا آلو)- وحينئذ تحفظ للإسلام جدته وصلاحيته للعصور كلها، إذ تحل المشكلات في المعاملات، ونظم الاستثمارات الحديثة، وسواها من المشكلات الاجتماعية. وحبذا لو أقيم مركز يجمع ما يصدر عن المجامع، والمؤتمرات، والندوات، لينتفع بذلك، وتزود به كليات الشريعة، والدراسات العليا الإسلامية، وبذلك يشع الإسلام، وفي ذلك ضمان لحياة مستقيمة صالحة.

2- أن يكون الاجتهاد جماعيّاً، بصدوره عن مجمع فقهي، يمثَّل فيه علماء العالم الإسلامي، وان الاجتهاد الجماعي هو ما كان عليه الأمر في عصور الخلفاء الراشدين كما أفاده الشاطبي في الموافقات، من ان عمر بن الخطاب، وعامة خيار الصحابة، قد كانت ترد عليهم المسائل، وهم خير قرن، وكانوا يجمعون أهل الحل والعقد من الصحابة، ويتباحثون ثم يفتون. وسار التابعون على غرار ذلك، وكان المرجع في الفتاوى إلى الفقهاء السبعة، كما أفاده الحافظ ابن حجر في التهذيب، ذكر انهم إذا جاءتهم المسألة، دخلوا فيها جميعًا، ولا يقضي القاضي، حتى يرفع اليهم، وينظروا فيها.

3- توافر شروط الاجتهاد المطلوبة في المجتهدين، لأنّه لا يتأتى اجتهاد بدون وسائله، حتى لا تتعثر الأفكار، وتحيد عن أمر الله تعالى، إذ لا يمكن فهم مقاصد الشرع، في الكتاب الكريم وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام إلاّ بها.

4- الاسترشاد بما للسلف، حتى يقع الاجتهاد على الوجه الصحيح، فلا يسلك اليه حديثًا إلاّ بعد معـرفـة مـا سبق للسـلف، فـي كل شأن، والاستعانة بمــا قدمه الأئمة المقتدى بهم، وإلاّ اختلطت السبل، فان كتب الفقه الإسلامي المستنبط من الكتاب والسنة، أكبر عون على ما يعرض من المشكلات، إلحاقاً لها بنظائرها.

6- أن تراعى قاعدة انه (لا اجتهاد في مورد النص)، وذلك حيث يكون النص قطعي الثبوت والدلالة، وإلاّ إنهدمت أسس الشريعة.

كل ذلك يعد بادرة إيجابية تحتاج الى مزيد جهد وانفتاح حتى يتمكن المسلم المعاصر من انتاج وعيه الخاص، ومن المهم هنا الإشارة الى ان اصول الفقه السنية، تسمح للعقل السني بتحقيق تطور وانفتاح أكبر على الواقع، فالقياس، والاستحسان، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، والمقاصد، تجعل الفقيه السني أكثر تحرراً من غيره في إنتاج أحكام شرعية تنسجم مع روح العصر تحت عنوان فقه الضرورة، إلاّ انه لم يتمكن من اعطاء نفسه هذا الحق في نقد تجربة الخلافة وفهم السلف للتصور السياسي، وعند المحاولة لفهم هذه المفارقة نكتشف ان الانفتاح الفقهي كان تأسياً بعمل السلف أيضاً، ويرجع ذلك إلى ان تجربة الصحابة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) اصطدمت بوقائع جديدة، لم يجد لها أثر في القرآن وأحاديث الرسول فاضطروا للعمل بهذه الأصول الظنية، من قياس، ومصالح، وغيرها ففتحوا الطريق بذلك للفقه السني في امتداد تاريخه، وقد استغل ذلك الفقهاء المعاصرين متمسكين بعمل الصحابة وسلف الأمة، وان كان ذلك اجتهاد وإعمال للعقل، إلاّ انه تقليد وإتباع طالما ارتكزوا على عمل السلف في شرعية ذلك، وهو ذاته الأمر الذي يفسر لنا توقفهم على المستوى السياسي على نظام الخلافة لأنّه الخيار الذي عمل به الصحابة.

 

*مقتطف من كتاب دولة الخلافة الإسلامية.. قراءة في المفهوم والمسار والتحولات - صادر عن شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية - العتبة الحسينية المقدسة