هل استوعبت الأمة الخيار السياسي للإسلام؟

هناك تيارات حركية تنادي بالإسلام كمشروع سياسي، حتى وإن كانت متأخرة حيث بدأ التنظير الحقيقي لهذا المشروع منذ جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وفي ما بعد حسن البنا، وما أسفرت عنه تلك الجهود من تشكيل حركات إسلامية، مثل الإخوان المسلمين، وما شاكلها من حركات سياسية وجهادية، وبرغم الحضور الواضح لهذه الحركات، إلاّ إنها لا ترتقي إلى مستوى تُمثِّل فيه خيار الأمة الإسلامية؛ لان الغالب الأعم بعيد عن هذا الخيار الحركي، وبالتالي لم تتمكن هذه الحركات من إقناع الأمة بعدُ، مما يعني ان الانتماء العام للإسلام يتوقف عند حدود الدائرة السياسية، وعلى أقل تقدير ان حالة الفهم والوعي في عقلية الأمة التي تشكل خلفية الارتباط بالإسلام لم تستوعب الخيار السياسي للإسلام.

الإسلاميون والسلطة

وما يؤكد على ان خيار الأمة كان بعيداً عن أي مشروع سياسي يسعى إلى تحقيق نظام إسلامي، ان كل الحركات الإسلامية التي حظيت بفرصة ترشيح حر وديمقراطي، وان كانت التجارب محدودة إلاّ إنها لم تتمكن من الوصول إلى السلطة عبر ترشيح الأمة، فالحركة الإسلامية في السودان عندما لم تتمكن من الاستفراد بالسلطة في انتخابات (1986) عادت واستلمت السلطة بانقلاب عسكري (1989) وما زالت مهيمنة على الوضع في السودان، وهكذا كل التجارب الديمقراطية في العالم الإسلامي مع قلة تلك التجارب إلاّ انها لم تُسفر عن وصول تيار إسلامي إلى السلطة، وما حققته حماس من فوز لم يكن السبب هو اقتناع الفلسطينيين بسلطة إسلامية، قدر قناعتهم بمشروع حماس المقاوم للاحتلال الإسرائيلي، والدليل على ذلك ان التنافس الانتخابي بين حماس وحركة التحرير لم يكن حول شكل الدولة ونظامها السياسي، وانما كانت خيارات الشعب الفلسطيني بين حركة مقاومة وحركة يمكن أن تقود الشعب إلى حالة من التطبيع والتبعية الكاملة للكيان الإسرائيلي، أما الإسلاميون في تركيا فوصولهم إلى السلطة كان نتيجة عوامل كثيرة لم يكن واحد منها قناعة الأتراك في دولة شرعية، ولذا لم يستطع النظام السياسي في تركيا تغيير النمط العلماني للدولة.

فشل الإخوان المسلمين

ومؤخراً تمكن الإخوان المسلمين من الوصول الى السلطة في مصر بعد ثمانون عاماً من النضال، وقد كانت تجربة الانتخابات في مصر بعد ثورة 25يناير 2011م فرصة سانحة لهم، بوصفهم الجماعة الأكثر تنظيماً وقدرة على مخاطبة الشارع وتجييشه لصالح مشروعهم السياسي، فصمود الإخوان في ظروف الاقصاء التي مورست في حقهم، والتضحيات الجثام التي بذلت في سبيل هذا المشروع أوجدت نوعاً من التعاطف الشعبي، مضافاً الى الظروف الدولية التي أرادت أن تفتح لهم الطريق ضمن ترتيب جديد للمنطقة، وقد تصدت دولة قطر بكل ما عندها من امكانات للتسويق لهذا المشروع في دول الربيع العربي فدعمت الإخوان في كل من مصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا، وقد جنب السودان من هذا الربيع لوجود الإخوان على رأس السلطة فيه، وبرغم ممانعة السعودية لهذا المشروع الإسلامي إلاّ ان قطر كانت تحظى بدعم كل من تركيا وصانع القرار الأوربي، وبعد فشل الإسلاميين في هذه البلاد عادت السعودية لتتموضع من جديد في كل هذه البلاد، وأصبحت البلد الأكثر تأثيرا فيها بما فيها السودان الذي اضطر للحوق بركب القطار السعودي.

وبرغم وصول الإخوان الى السلطة عبر صناديق الاقتراع في أول انتخابات رئاسية بعد ثورة 25 يناير. والتي حصل فيها محمد مرسي على نسبة 51.73%. وفاز فيها على منافسه أحمد شفيق آخر رئيس وزراء في عهد حسني مبارك الذي حصل على نسبة 48.27%. إلاّ انهم لم يستطيعوا الحفاظ على هذه الفرصة الذهبية، نتيجة فشل واضح في إدارة المرحلة، وتراجعهم عن وعودهم التنموية، وانتكاس مشروع النهضة الذي بشروا به، ومحاولاتهم الغير موفقة لأخونة كل مرافق الدولة، هذا مضافاً إلى  ارتباكهم الواضح في سياستهم الخارجية التي غلب عليها الطابع الحزبي أكثر من الطابع الوطني.

وتحرك الشارع المصري من جديد في ثورة شعبية عارمة في 30 يونيو 2013م للإطاحة بحكم الإخوان، وبعد احتقان شديد في الشارع المصري تدخل الجيش مرة أخرى لصالح الشعب واستلم مقاليد السلطة من جديد، وبدأت بذلك مرحلة ثانية من تاريخ الإخوان، وما يهمنا التأكيد عليه هنا هو ان التجربة الإسلامية في مصر لا تحسب شاهد على نجاح الإسلاميين في تحويل مشروعهم في حكم الإسلام الى خيار تتبناه كل الأمة.

القومية.. جهود محدودة

وعجز الحركات الإسلامية في أقناع الساحة بخيار إسلامي في الحكم، لا يعود فقط للأسباب النفسية التي أشرنا لها سابقاً، وانما هناك دوافع ثقافية لها علاقة بالبنية الدينية داخل المجتمعات الإسلامية، فقد توارثت الأمة على مدى ثلاثة عشر قرناً من الزمن شكل واحد للحكم، يتمثل في الخلافة الإسلامية التي سقطت آخر أشكالها في بداية القرن الماضي، وقد قُدم الإسلام في طوال هذه الفترة بالشكل الذي لا يتناقض مع هذا النظام، الأمر الذي ساعد على إبعاد الأمة عن الشأن السياسي وإيكال الأمر إلى من يسمى بخلفاء الله ورسوله، فتبلدت وتجمدت عقلية الأمة سياسياً، وأصبح من الصعب انتاج تصور سياسي ينتمي الى الإسلام في الوقت ذاته ينتمي الى الواقع الراهن، وبعد سقوط هذا النموذج ودخول الاستعمار وتجزية العالم الإسلامي، تبدد حلم الخلافة الإسلامية ووقعت الأمة في حيرة جعلتها عرضة للاستسلام أمام كل التيارات السياسية الجديدة، فبرزت ثقافة كان أساسها القومية والحكومات القطرية، وقد ساهم أتاتورك الذي أقام نظامه العلماني على أنقاض الخلافة العثمانية على تكريس هذه الثقافة، وبدأت موجة القومية تجتاح العالم الإسلامي، وتشكلت حكومات قومية قوية في مصر وسوريا والعراق، ولولا هزيمة العرب في حرب 67 التي اعتبرت هزيمة للتيار القومي لكان قضي تماماً على أي جهود لإقامة نظام إسلامي في الحكم، فتراجع المشروع القومي وإخفاقه في تأسيس دول حديثة على غرار الدول الغربية وتقاعسه أمام القضية الفلسطينية، فسح الباب للحديث عن تصور سياسي إسلامي للمنطقة مستفيداً من الجهود العلمية التي أسس لها جمال الدين ومحمد عبده في القرن الثامن عشر، وحسن البناء في الاربعينات من القرن المنصرم، إلاّ انها تظل جهود محدودة لا ترتقي الى مستوى المنافسة في تلك الفترة.

الدولة العثمانية مفترىً عليها!!

فسقوط الخلافة العثمانية كشف عن فراغ كبير في الخطاب السياسي الإسلامي، قد نجده واضحاً في عشرات الكتابات التي تصف الواقع الإسلامي بعد سقوط الخلافة، بحيث أصبحت الحسرة والبكاء على أطلال الخلافة الضائعة هي الميزة الواضحة لهذه الكتابات، جاء في كتاب محمد فريد الدولة العلية: \ان العناية الصمدية تداركتهم بلم الشعث ورتق الفتق فأضاءت الأفق الإسلامي بظهور النور العثماني وأمدته بالنصر والعون الرباني، فقامت الدولة العلية بحراسة هذا الدين وحماية الشرقيين، ودعت الى الخير وأمرت بالمودة ونهت عن المنكر فكانت من المفلحين\ ([1]).

 وبرغم ان الكاتب ليس إسلامياً إلاّ انه يكشف عن هشاشة التصور الإسلامي في الأمة، فهذه الكلمات التي مدح بها الدولة العثمانية بوصفها حامية الإسلام والمسلمين وبكونها مؤيدة من الله، تدلل على الآمال الساذجة التي كانت معلقة بمشروع الخلافة الإسلامية، وقد حاول الدكتور عبد العزيز الشناوي أستاذ التاريخ في جامعة الأزهر الدفاع عن الدولة العثمانية في موسوعته (الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها) في أربعة أجزاء، فقد كرس جهده في الدفاع عن الدولة العثمانية متهماً قوة غربية في تشويه صورتها، وقال فيه: \مبلغ علمي انه لم تتعرض دولة في العالم لمثل ما تعرضت له هذه الدولة من حملات عنيفة ضارية، استهدفت التشهير بها والنيل منها، وقامت بهذه الحملات المكثفة قوتان عالميتان عاتيتان هما الاستعمار الأوروبي والصهيونية واتخذت هذه وتلك من المؤلفات التاريخية والبحوث العلمية والتصريحات الرسمية ومن مجموعة الوثائق التي نشرتها بعض الحكومات الأوروبية مجالاً لإذاعة ما راق لها أن تنشره عن الدولة تحاملاً عليها\ ([2]).

[ذات صلة]

 وتعليق الفشل والسقوط الكبير لمشروع الخلافة على العوامل الخارجية، هي محاولة أقل ما يقال عنها بأنها استعطاف للشارع الإسلامي الذي يعاني من أزمات عدة تسببت فيها الهيمنة الغربية والصهيونية، فنسبة التشويه الى الاستشراق هو شبيه بنسبة كل اخفاقاتنا الفكرية والثقافية في الأمة للاستشراق أيضاً، وقد وسع الشناوي هجومه للكُتاب العرب الذين اعتبرهم طابوراً خامساً يردد ما يقوله المستشرق، يقول: \وقد ردد بعض المؤرخين والباحثين العرب عن جهالة أو تجاهل أو حقد تلك الآراء الخاطئة والظالمة معاً في مؤلفاتهم\ ([3]).

وأنا هنا لست في صدد تقييم الكتاب ومدى موضوعيته في تقييم التجربة العثمانية، وقد أشار المصنف بنفسه في الجزء الرابع للأخطاء التي وقعت فيها الخلافة العثمانية، وانما الذي يهمني هو التدليل على حجم الفراغ الذي تركه سقوط الدولة العثمانية في نفسية الأمة، ووجود كتاب بهذا الحجم خير شاهد على ما أقول.

 
[1])  تاريخ الدولة العلية العثمانية، محمد فريد، نشر مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة مدينة  نصر،  سنة النشر2012 ، ص 11 من المقدمة.

([2])  الدولة العثمانية دولة اسلامية مفتري عليها، عبد العزيز محمد الشناوي، طـ مكتبة الانجلو المصرية مطبعة جامعة القاهرة 1980 م، ص 5

([3])  المصدر السابق .

 

 

*مقتطف من كتاب دولة الخلافة الإسلامية.. قراءة في المفهوم والمسار والتحولات - صادر عن شعبة البحوث والدراسات التابعة لقسم الشؤون الدينية - العتبة الحسينية المقدسة