في شهر رمضان: يُخير المسلم بين الصيام ودفع البدل!

* مقالة للرد على الدكتور محمد شحرور

دأب المسلمون ومن بداية عصر التشريع على وضع قواعد يمكن من خلالها فهم النصوص الدينية، وهو ما يعرف في مصطلحهم بالدليل الحجة، أي الدليل الذي يكون حجة لله على عبده ـ جانب المنجزية ـ وحجة للعبد عند ربه ـ جانب المعذرية ـ واختلفوا في عدد الأدلة وخصائصها بدءاً من مصادر التشريع حتى خصوصيات كل دليل، وليس هنا محل بيان وتقييم هذه الأدلة، وإنما أردنا الإشارة الى اهتمام علماء الإسلام ومن مختلف المذاهب بوضع قواعد رصينة لفهم النص الديني، ومن دون هذه القواعد الحجة ـ أي التي ثبت من الشارع جواز العمل بها ـ يكون تفسير النص من التفسير بالرأي المنهي عنه، كما عن النبيّ صلى الله عليه وآله قال: "من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار" تفسير الميزان، ج 3، ص 75، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ فهو أبعد من السماء" بحار الأنوار، ج 89، ص 110.

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

كما ومن الثمرات المهمة المترتبة على وضع قواعد للتفسير حصر الخلاف وتحجيمه بحيث يبقى ضمن إطار هذه القواعد ولا يخرج منها، فالبحث من دونها يكون خبط عشواء لا يستقيم، لذا يؤثر عن الفيلسوف الفرنسي فرانسوا فولتير (1694 ـ 1778)، أنه كان يرفض الحوار مع أي أحد، مالم يحدد مفاهيمه تحديداً كاملاً وواضحاً، بحيث لا يكون هناك لبس أو التباس في الفهم يحرف الحوار عن مقاصده، عن طريق الدخول في مماحكات لفظية نتيجة سوء الفهم.

وعليه فمجرد معرفة المعنى اللغوي لألفاظ الكتاب والسنة لا يكفي في تفسير النصوص، ولو كان المعنى اللغوي كاف في تفسير كتاب الله تعالى لما وقع هذا الاختلاف الفاحش بين المفسرين، فالقرآن الكريم كلام عربي مبين لا يتوقف في فهمه عربي ولا غيره ممن هو عارف باللغة وأساليب الكلام العربي.

كيف! وهو أفصح الكلام ومن شرط الفصاحة خلو الكلام عن الإغلاق والتعقيد، حتى أن الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة وغيرها، في غاية الوضوح من جهة المفهوم، وإنما التشابه في المراد منها وهو ظاهر، فالخلاف كل الخلاف في التفسير ناشئ من تحديد المراد من الآيات، والمعول في ذلك على الأحاديث المفسرة والقرائن الحافّة.

والخلاصة: لا يكفي معرفة المعنى اللغوي في تحديد المراد من الآية الكريمة.

لذا يقول صاحب الميزان: وقد اختلط على كثير من علماء الأدب أمر اللغة، وأمر التشريع، في حكم الاجتماع وأمر التكوين فربما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعي، أو حقيقة تكوينية. الميزان: ج2، ص138.

لكن مرة اخرى يتصدر المشهد الثقافي ـ العربي تحديداً ـ من ليس له دربة في الصناعة الفقهية ولا يمتلك آليات فهم النصوص الدينية، حتى وصل الأمر أن يفتي أحدهم وهو الدكتور محمد شحرور بحلية الإفطار في نهار شهر رمضان؛ مستدلاً بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ». البقرة: 184.

يقول الدكتور محمد شحرور في تفسير الآيات السابقة: فالآية الأولى هي الآية المحكمة المتعلقة بالصوم، وكل ما ورد فيما يتعلق بالموضوع هو تفصيل لهذه الآية، وفي التفصيل حدد من يشمله الإعفاء من الصيام (الآية 184)، بداية من لا يتحمله (لا طاقة له به) وهما المريض والمسافر فيمكنهما تأجيل الصيام لوقت آخر، ثم من يتحمله (يطيقونه) فيمكنه دفع فدية (إطعام مسكين)، فإن كنت تستطيع الصيام فالصيام خير لك، وإن كنت لا تريد فعليك بالفدية وهي إطعام مسكين كحدٍ أدنى «فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ»، ثم في الآية (185) حدد أوقات الصيام وآليته.

والمفارقة هنا أن السادة المفسرين وضعوا (لا) قبل (يطيقونه)، فيجد الباحث عن تفسير (يطيقونه): (لا يطيقونه)، أو (يطيقونه بصعوبة) وللخروج من هذا التناقض قالوا بأن الآية الثانية نسخت الأولى، وحرموا على الناس الإفطار برمضان مهما كانت الأسباب عدا المرض والسفر، وإلا صيام شهرين متتاليين، وقد يغفر الله وقد لا يغفر، مع أن التنزيل الحكيم لم يقل بذلك، وصيام شهرين متتاليين هو كفارة قتل النفس بالخطأ، أو الظهار، فالصيام عقوبة لما فيه من مشقة، .. فنسفوا «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر» فأي يسر في صيام العمال في المناطق الحارة حيث تبلغ درجة الحرارة حدود الخمسين، أو في صيام سكان شمال أوروبا حيث النهار اثنين وعشرين ساعة؟ أي أن الله (حاشاه) حملنا ما لا طاقة لنا به ولم يستجب لدعائنا «رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ» (البقرة 286). مقال للدكتور محمد شحرور بعنوان الصيام وفق الاستطاعة.

فيخلص الى ان الشرع المنيف قد خيّر المسلمين ممن يتحملون الصيام بين الصوم وبين دفع الفدية.

واعتمد في تفسيره على لفظ (يُطِيقُونَهُ)، ففسرها بالتحمل والاستطاعة، فيكون المعنى ان من يتحمل الصيام يمكنه دفع فدية (إطعام مسكين)، فإن كنت تستطيع الصيام فالصيام خير لك، وإن كنت لا تريد فعليك بالفدية. فالإشكال نابع من تفسيره لهذه الكلمة.

ويمكن أن نلاحظ عليه أنه لم يأت بسند من كلام اهل اللغة ولا غيرهم يؤيد دعوته، بينما قد ذكر اللغويون أن المعنى لهذه الكلمة هو القدرة مع المشقة العظيمة، وإعمال غاية الجهد. ففي لسان العرب: الطوق: الطاقة أي أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكنه أن يفعله بمشقة منه. ونقل عن ابن الاثير والراغب أيضا التصريح بذلك.

قال في تفسير المنار نقلاً عن شيخه: فلا تقول العرب: أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف، بحيث يتحمل به مشقة شديدة. تفسير المنار لمحمد رشيد رضا: ج2، ص156.

وعليه فيكون المعنى من الآية «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ»: وعلى الذين يستطيعون الصيام لكن بمشقة وجهد كالشيخ الهرم، وذي العطاش دفع فدية طعام مسكين، فتكون الآية في مقام بيان من رُخص له الإفطار، وهذا ما فهمه الفقهاء والمفسرون من الآية.

والخلاصة: الآية الكريمة في مقام بيان من يُرَخص لهم الإفطار في شهر رمضان، وهم من يقدرون على الصيام لكن بمشقة وحرج، وقد بينت الروايات مصاديق متعددة لهؤلاء، ففي تفسير العياشي صفحة 78، عن أبي بصير قال: سألته عن قول الله: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع والمريض. وفيه أيضا عن الباقر عليه السلام: في الآية، قال الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش.

وفي تفسيره أيضا عن الصادق عليه السلام قال: المرأة تخاف على ولدها والشيخ الكبير.

أقول: والروايات فيه كثيرة عنهم عليهم السلام والمراد بالمريض في رواية أبي بصير المريض في سائر أيام السنة وقد استمر مرضه الى رمضان القادم، وليس المراد منه المريض في أيام شهر رمضان، فقد أشار اليه في الآية السابقة بقوله تعالى: «فمن كان منكم مريضا»، والعطاش مرض العطش.

وأما قوله: والمفارقة هنا أن السادة المفسرين وضعوا (لا) قبل (يطيقونه)، فيجد الباحث عن تفسير (يطيقونه): (لا يطيقونه)، أو (يطيقونه بصعوبة) وللخروج من هذا التناقض....

فادعى ان المفسرين لكي يجبروا الناس على صيام الشهر خلافاً للقرآن سلكوا مسلكين:

الأول: أنهم قدروا كلمة (لا) قبل (يطيقون) فيكون المعنى وعلى الذين لا يطيقون الصيام فدية إطعام مسكين.

الثاني: فسروا قوله تعالى: (يطيقونه) بالقادرين على صيامه بشدة وحرج. 

مع أن التنزيل الحكيم لم يقل بذلك، بالإضافة الى أن الأمر بصيام الشهر مخالف لنصوص القرآن الأخرى التي بنت أحكام الدين على التيسير دون العسر، وأي يسر في صيام العمال في المناطق الحارة حيث تبلغ درجة الحرارة حدود الخمسين، أو في صيام سكان شمال أوروبا حيث النهار اثنين وعشرين ساعة؟ أي أن الله (حاشاه) حملنا ما لا طاقة لنا به ولم يستجب لدعائنا «رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ» (البقرة 286).

أقول: تقدم أن تفسيرهم (يطيقونه) بالقدرة مع المشقة هو ما قاله أهل اللغة، فيكون دليلاً على صحة تفسيرهم، دون ما ادعاه ـ القدرة والاستطاعة ـ خصوصاً وهو لم يأت بدليل من كلمات اللغويين يؤيد مذهبه.

وأما بناء احكام الدين على التيسير، فالحكم المذكور لا ينافيه، وقد ذكرنا أن الآية الكريمة بصدد بيان حكم المستثنين عن وجوب الصيام، فبعد أن أوجب الشارع الصوم على كافة المسلمين استثنى طائفتين، الأولى: المريض والمسافر، وأوجب عليهما عدة من أيام أخر بدلاً عنه.

 والثانية: من كان يشق عليهم وهم المرادون من قوله تعالى (يطيقونه) فلم يوجب عليهم الصيام، كما لم يوجب عليهم تعويضه في أيام أخر، كالفئة السابقة، وإنما اكتفى منهم بفدية طعام مسكين.