الدولة في الفقه الشيعي: تسع نظريات للحكم ودور «رجال الدين» فيها

يُعد الفقه الشيعي من أغنى المجموعات الحقوقية في مجال الحقوق الفردية، لكن جهوداً أقل بذلت في المسائل الاجتماعية وأحكام الحقوق العامة، فقد كانت تطرح مباحث الحكومة والدولة غالباً في قالب الأحكام ووظائف الحاكم والسؤال عمن يكون الحاكم؟، لا أنه كيف تجب ممارسة الحكم وما هي أحكام ووظائف الدولة بعنوان كونها مؤسسة وشخصية حقوقية؟

اشترك في قناة «الأئمة الاثنا عشر» على تليجرام

وهذا الأمر طبيعي بالنظر للوضع الذي كان يعيشه الشيعة، وإبعادهم الإجباري عن ميدان الحكومة والإدارة الاجتماعية طوال قرون متمادية، لكن بمجرد تحقق موضوع السلطة عند الشيعة كما في الدولة الصفوية ظهرت نظريات الحكم والدولة تترى، وفيما يلي جملة من هذه النظريات رتبناها بحسب التسلسل الزمني لظهورها، ليتضح حجم التطور والتنوع في الفقه الجعفري:

النظرية الأولى: نظرية السلطنة المشروعة

يمكن القول إن ظهور أول الآراء السياسية وتبلور نظريات الحكم قد تحقق بمجرد قيام دول شيعية بعد القرن العاشر الهجري، فأول فقيه يمكن أن نحتمل في كلماته علامات اولية لنظرية الدولة هو المحقق الكركي (868 ـ 940هـ). ورغم قوله بالولاية العامة للفقهاء إلا ان الصورة النمطية لهذه الفترة كانت التفكيك بين الأمور الشرعية والأمور العرفية، فالأمور الشرعية من قبيل الإفتاء والقضاء وإقامة الحدود والأمور الحسبية الأخرى كجمع الحقوق الشرعية وإدارة الأوقاف العامة أصبحت تُعد من وظائف الفقهاء، بينما السياسة والعلاقات الدولية وحفظ الأمن والنظام من جملة الأمور العرفية ومن وظائف المسلمين من ذوي الشوكة اي السلطان.

وتعدّ نظريته هذه ـ من بين النظريات التسع في الفقه الشيعي ـ من النظريات القلائل التي دخلت ميدان التجربة العملية، بل إن تجربتها تعد الأطول مقارنة مع باقي النظريات، إلا أن اهم ما يلاحظ عليها أنها وإن اشترطت جملة شروط في الحاكم كالكفاءة واحترام الشريعة والاعتراف بولاية الفقهاء الحسبية، لكنها لم تهتم في طريقة تعيين الحاكم وكيفية وصوله لسدة الحكم، وإنما صبت اهتمامها على ان يكون الحاكم ممن يسعى في ترويج مذهب الحق وتحقيق سعادة وراحة الرعية، ولعل هذه الطريقة كانت تمثل الطريقة الأمثل للحكم نظراً لقلة وعي الشعوب الإسلامية يومذاك، الأمر الذي يشكل عائقاً في تطبيق الأنظمة الديمقراطية القائمة على تولي المجتمع اختيار قياداته؛ لذا نجد مفكر بوزن جمال الدين الأفغاني يدعو لتعميمها في الأقطار الإسلامية وأطلق عليها نظرية (المستبد المستنير).

النظرية الثانية: الولاية العامة للفقهاء

إن الطريق الذي ابتدأه الكركي يمتلك قابلية تأسيس تلك النظرية والتي تسمى اليوم بـ(الولاية التعيينية للفقهاء) ففي الآثار الفقهية للمحقق الكركي (ره) يعد الفقيه نائباً للإمام صاحب العصر (عج) راجع جامع المقاصد ج11، ص266.

أما في آثار الفقيه الثاني لذلك العصر وهو المقدس الأردبيلي (تـ933هـ)، فإننا نشاهد رأياً مشابهاً لرأي المحقق الكركي . راجع رياض العلماء: ج3، ص453.

ومنذ ذلك الوقت وبسبب بسط يد الفقهاء وزيادة نفوذهم في المجتمع، فقد أصبح البعض منهم يتدخل في الأمور السياسية بحيث إن بعض السلاطين كان يأخذ منهم الأذن للحكم، او الجهاد، الا ان اغلب امور السياسة الداخلية والخارجية بقيت تحت حكم السلاطين.

في منتصف القرن الثالث عشر الهجري نرى خروج نظرية ولاية الفقيه العامة الى الوجود على يد الملا أحمد النراقي (تـ 1248هـ) حيث يعد (ره) أول فقيه بحث ولاية الفقيه تفصيلاً، وتعامل معها كمسألة فقهية مستقلة بعد أن كانت تبحث في ضمن مسائل أخرى كصلاة الجمعة او مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها. ويمكن أن تعد كلماته (ره) أول طلائع الفكر السياسي عند الشيعة، فهو يرى أن تنظيم أمور الدنيا من وظائف الفقهاء. المحقق النراقي، ولاية الفقيه من كتاب عوائد الايام ، ص69.

النظرية الثالثة: نظرية الدولة المشروطة بإذن ونظارة الفقهاء

يعد كلام المحقق النراقي (ره) المتقدم أول تصريح بالوظيفة السياسية للفقهاء والذي تبلور بصورة صريحة وناضجة على يد الميرزا النائيني (تـ1355هـ)في كتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملة على أثر النزاع الذي حصل في الأوساط العلمية والمعروف بـ(المشروطة والمستبدة) في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، والذي التزم فيه بولاية الفقيه العامة، وفي حال عدم بسط يد المجتهد العادل يمكن إعطاء المشروعية للحكومة من خلال وجود مجتهدين بين وكلاء السلطة التشريعية ورعاية آرائهم في القوانين وهو ما يعرف بنظام (النظارة)، وتعتبر مساعي الميرزا النائيني (ره) هي أول جهد يبذل في الفقه الشيعي للتوفيق بين الوظيفة الإلهية وحق الشعب، فتكون الحكومة بيد جماعة من الناس بينما يقتصر عمل الفقهاء على المراقبة وأبداء الرأي في القوانين. وقد طرحت هذه النظرية للحد من الحاكمية المطلقة للسلاطين، وتبتني على مجموعة قواعد وأصول بحيث يصبح من الممكن بموجبها تغيير السلطة السياسية بشكل سلمي، وتؤكد كثيراً على مأسسة الدولة، وتقوم في الوقت ذاته باستحداث مناصب لها حقوق وتكاليف في إطار قواعد مشخصة، وقد حددت ايضاً في هذه النظرية آلية تغيير القواعد، والميزة الأساسية لهذه النظرية هي تحديد السلطة السياسية وتوزيعها، وأما المؤسسات التي تقوم بعملية تحديد السلطة السياسية فهي الدستور وفصل السلطات ونظارة السلطات على بعضها، وتشتمل هذه النظرية على جملة من القيود الاخلاقية والفلسفية من قبيل الحق الطبيعي والحق الإنساني ونظريات الالتزام والطاعة المبنية على العقد الاجتماعي والديمقراطية والمجتمع المدني. أنظر آندرو ونسينت، نظرية الدولة، الفصل الثالث، ص133 ـ 181.

النظرية الرابعة: الولاية المطلقة للفقهاء

 ولكن تبقى نظرية الدولة المشروطة هي الاستثناء ويلتجأ إليها في حال عدم تمكن الفقيه من زمام الأمور، وقد تأيدت نظرية ولاية الفقيه العامة على يد آية الله العظمى السيد محمد حسين البروجردي (تـ1340هـ) الذي لم يعتبر الأدلة النقلية المتوفرة كافية لإثبات الولاية التعيينية للفقهاء، لكنه رأى أن المسألة تثبت من خلال الدليل العقلي. لكن بقيت هذه النظرية طي الكتب وأروقة البحث العلمي دون ان يكون لها نصيب من التحقق في الخارج، الى أن استطاع السيد روح الله الموسوي الخميني بثورته في ايران أن ينشأ نظاماً قائماً على الولاية المطلقة للفقيه، فشكلت كلمات الملا احمد النراقي والأردبيلي والنائيني والبروجردي السابقة مادة لما قام بها السيد الخميني (ره).

ورغم اشتراك نظرية الولاية المطلقة مع نظرية الولاية العامة للفقهاء في ثبوت اصل الولاية للفقيه وتعينها له، إلا أنها تفترق عنها في أمرين هما: حدود الولاية ومفهوم الفقاهة؛ فمن جهة الحدود فإن الحكومة وفق نظرية الولاية العامة تتقيد بالنظام الأساسي للدولة وهو الدستور والأنظمة المتفرعة عليه، بينما ووفق نظرية الولاية المطلقة لا تقيد السلطة بأي قانون الا المصالح الإسلامية والأهداف الدينية.

وأما من جهة مفهوم الفقيه فإن نظرية الولاية المطلقة تقدم مفهوماً جديداً للفقاهة مغايراً للمفهوم السائد القائم على العدالة والاجتهاد، فمفهوم الفقاهة وفق هذه النظرية يشترط إلمام الفقيه بجملة من العلوم تستوعب جميع ما يحتاجه المجتمع الإسلامي بل وغير الإسلامي لحل مشاكله الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية، فالفقه هو النظرية الواقعية والكاملة لإدارة الإنسان من المهد الى اللحد. الإمام الخميني (ره) صحيفة النور، ج21، 98.

ومع هذا التضخم في دور الفقيه في هذه النظرية، إلا أنها وبحسب رأي صاحب النظرية (السيد الخميني) لا تؤدي للدكتاتورية، لتقييد منصبه بالعدالة، فمتى ما جار في استخدام سلطته فإنه يسقط تلقائياً وبلا فاصلة. م. ن. ص183.

النظرية الخامسة: شورى مراجع التقليد

إي ولاية الشورى في مقابل الولاية الفردية، ففي أكثر نظريات الدولة في الفقه الشيعي يقع في رأس هرم السلطة السياسية فرد واحد ـ وغالباً ما يكون فقيهاً ـ  أما في هذه النظرية فإن شرط الفقاهة وإن تم لحاظه لكن رأس الهرم السياسي مكون من مجموعة فقهاء لا فقيه واحد.

ولهذه النظرية عدة تقريرات وفيها بعض نقاط الإبهام تحتاج الى توضيح وانسجام إلا اننا يمكن أن نشير الى بعض خصائصها:

اولاً: ان المراد من الولاية الشرعية للفقهاء في هذه النظرية هي التصدي والقيام بشؤون الأفراد في تدبير الشؤون السياسية والاجتماعية العامة والمهمة، وإن دائرة وحدود هذه الولاية أكبر من الولاية الحسبية وأصغر من ولاية المعصوم المطلقة، فهي تشمل فقط المسائل الاجتماعية العامة والأمور المرتبطة بالحكومة دون الأمور الفردية والشخصية، وهي مقيدة بمصلحة المجتمع الاسلامي والتي تعد شورى المراجع المرجع الوحيد في تشخيصها. وعليه ليس للحكومة الاسلامية من صلاحية في حال الاضطرار أوسع من الاحكام الأولية والثانوية، ولا يقبل اي قانون خلاف ذلك. الفقه، السيد محمد الشيرازي، كتاب الاجتهاد والتقليد، ص226.

ثانياً: من الضروري وقوع الخلاف بين الفقهاء اعضاء مجلس الشورى القيادي، وحينئذٍ ماهي الآلية لحسم الأمر، وترجيح قول على آخر؟ ذكروا أكثر من صيغة لحل هذا المشكل، منها إن شورى مراجع التقليد تعمل ولايتها في كل مسألة بأكثرية الآراء، وذهب أكثر القائلين بهذه النظرية لهذا الخيار. ومنها إن شورى مراجع التقليد تأخذ قراراتها من خلال توزيع الأدوار بين الأعضاء، فتكون الشؤون الاقتصادية بعهدة أحد المراجع  وتكون الشؤون العسكرية بعهدة مرجع آخر وهكذا.

ثالثاً: مع الالتفات الى ان الحكومة الاسلامية هي الحكومة على جميع المسلمين سنة وشيعة، فحينئذ يمكن تأسيس مجلس شورى لمراجع التقليد الشيعة، تكون مهمته تدبير أمور الشيعة، ومجلس شورى آخر لعلماء السنة يقوم بتدبير شؤون أهل السنة، وأما الأمور المشتركة بين الطائفتين فتحل وتدبر من خلال مجلس مشترك لفقهاء الشيعة والسنة من خلال مراعاة مبدأ الأكثرية. الفقه، كتاب الدولة الاسلامية، السيد محمد الشيرازي، ج101، ص69.

النظرية السادسة: نظرية خلافة الأمة وإشراف المرجعية

لا يخفى على القارئ الحصيف ابتناء جميع النظريات السابقة على المشروعية الإلهية للفقهاء، أي أن الفقيه يكتسب صلاحية قيادة المجتمع من الدين، ولا دور للشعب في اختيار هذه القيادة، نعم يمكن تصور هذا الاختيار في درجات أدنى، أما الرئاسة العليا فلا، ولعل أول نظرية بنيت على إعطاء صلاحية الاختيار مع حفظ دور التشريع والإشراف للفقهاء هي نظرية (خلافة الأمة وإشراف المرجعية)، وقد طرحت من قبل الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (ره) في المجموعة المختصرة (الاسلام يقود الحياة).

وأهم أركان هذه النظرية:

خلافة الأمة

انطلق السيد الشهيد (ره) في التأصيل لهذه النظرية من مقولة خلافة الإنسان لله في الأرض، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة: 29، وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ) فاطر: 39، فإن الإنسان أضحى حاكماً على مصيره بعنوان كونه خليفة لله تعالى، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الخلافة بالأمانة الإلهية كما في سورة الأحزاب، والإنسان مكلف أن يستخدم هذه الأمانة كما يريد الله تعالى، وليس لديه الحق أن يستعملها على أساس الأهواء والمنافع الشخصية، وتقتضي طبيعة الاستخلاف الإلهي أن يحكم الإنسان في الأرض بالحق والعدل وأن يحفظ مصالح النوع الإنساني من خلال تطبيق الأحكام الإلهية على عباده وفي ارضه، فالإنسان مسؤول أمام الله تعالى، وقد خُلق حراً من أجل أن يتحمل هذه المسؤولية، فالخلافة هي قضية تكامل الإنسان الى الله تعالى. الصدر، خلافة الإنسان، ص13.

والأمة تُعمل خلافتها على أساس قاعدتين فقهيتين: الأولى قاعدة الشورى. والثانية ولاية المؤمنين على بعضهم. وعليه فإن الأمة تبلور خلافتها على أساس الشورى العامة ورأي الأكثرية. الصدر، لمحة تمهيدية، ص19.

وتمارس الأمة حقها من خلال الطرق التالية:

أولاً: انتخاب رئيس السلطة التنفيذية، ويقوم هو بدوره اختيار وزرائه.

ثانياً: انتخاب مجلس نيابي يقوم بدور مراقبة عمل السلطة التنفيذية وسن القوانين في منطقة الفراغ.

الركن الثاني: اشراف المرجعية

وذلك من خلال بيان الوظائف التالية لمرجع الأمة:

أولاً: الرئاسة العليا للدولة وقيادة القوات المسلحة.

ثانياً: أمضاء وتزكية المرشحين لمنصب رئيس السلطة التنفيذية.

ثالثاً: تعيين المواقف الشرعية إزاء مختلف قضايا المجتمع.

رابعاً: إمضاء القوانين الموضوعة من قبل المجلس النيابي المنتخب.

خامساً: الأشراف على القضاء.

سادساً: مراقبة عمل الحكومة.

ويمكن ملاحظة عدة خصائص لهذه النظرية منها:

في هذه النظرية تقوم المرجعية بدور أساس في الحياة السياسية، لكنه لا يقصد بالمرجعية كل فقيه عادل، أو اي مرجع للتقليد، بل المراد اخص منها، وقد عبر عن هذه المرجعية بالمرجعية الصالحة، والمرجعية الرشيدة، وهي مؤسسة وليست فرداً، ويقف على رأس هذه المؤسسة الفقيه العادل الجامع للشرائط، الذي وصل الى المرجعية الدينية بشكل طبيعي ومتعارف، وبعد ذلك قد تم ترشيحه للمرجعية الصالحة من قبل مجلس المرجعية، ولاقى التأييد من قبل علماء البلاد، وهو بعد ان يتصدى لا يقود بعمله بشكل شخصي بل من خلال مجلس المرجعية.

ولهذه المرجعية دور إشرافي أكثر منه إجرائي، ولكنه أشراف قانوني، أي إن ابعاد هذا الأشراف يجب ان تحدد في القانون بشكل دقيق، كما أن اشراف المرجعية على السلطة التشريعية هو في ثلاث مواضع: في تشخيص الموضوعات، وفي اختيار فتوى احد المجتهدين عند الاختلاف، والأهم من ذلك وضع الأحكام في منطقة الفراغ. وفي كل مورد يرى فيه المرجع أنه قد وقعت مخالفة للشرع يحق للمرجع أن يذكر السلطة التشريعية بموقف الشرع، ويجب عليها حينئذ المبادرة للتصحيح.

ومما يميز هذه النظرية ايضاً ان دور الناس في باقي النظريات يتوقف على إذن الفقيه صاحب الولاية في الأمور الحسبية، لكن في نظرية الشهيد الصدر فإن الحقوق السياسية للناس مستقلة عن ولاية الفقهاء. فبناء على هذه النظرية الناس خلفاء الله في الأرض وقد جعل على عاتقهم تدبير الأمور الاجتماعية والسياسية، والمراد من الناس جنس البشر بمعزل عن اللون والعرق والوطن.

لقد اعطت هذه النظرية دوراً أكبر للناس في السلطة التشريعية ومجال التقنين، فقد جعل في عهدتها تشخيص الموضوعات الخارجية التي ترتبط بالأحكام المتعلقة بالجانب السياسي والعام للمجتمع، وأما ما في عهدة الفقهاء فهو تشخيص الحكم لا الموضوع. وبناء عليه فإن تشخيص مصلحة المجتمع هل هي في الصلح أو في الحرب، أو معرفة موضوع الحدود الشرعية من قبيل شرب الخمر والزنى، تدخل في عهدة أهل الخبرة، وخبراء مجلس أهل الحل والعقد. ولاية الأمر في عصر الغيبة، السيد كاظم الحائري، ص129. 

النظرية السابعة: الولاية الانتخابية المقيدة للفقيه

بعد أن عرضنا نظرية الدولة المشروطة وخلافة الناس مع أشراف المرجعية على مبنى المشروعية الإلهية الشعبية من قبل فقهاء الحوزة العلمية للنجف الأشرف؛ يمكن القول إن الولاية الانتخابية المقيدة للفقيه تعد أول مسعى لفقهاء حوزة قم المقدسة على أساس ذاك المبنى في موضوع الدولة، فقد قدم الفقهاء الايرانيون وعلى أساس تجارب النظريتين السابقتين تركيباً من نظرية ولاية الفقيه التقليدية ـ في مجال الشروط التي يحددها الشارع في رئيس الدولة ـ من جهة، وحق الحاكمية الشعبية والمشاركة الجماهيرية من جهة أخرى. ويمكن ملاحظة بدايات هذه النظرية في كتابات الشهيد مطهري، حيث كان يعتقد بالجمع بين التكاليف الإلهية والحقوق الشعبية، وقد شرح آية الله الشيخ جعفر السبحاني هذه النظرية في كتاب معالم الحكومة الاسلامية: إن الحكومة في زمان حضور الإمام المنصوص عليه من الله تعالى هي حكومة إلهية خالصة، لكن في زمان عدم إمكان الوصول إليه مركبة من الحاكمية الإلهية والسيادة الشعبية. فهي إلهية من جهة أن التشريع بالأصالة هو حق الله تعالى، وعلى الأمة الإسلامية أن تراعي جميع الشروط والضوابط الإسلامية في عملية الانتخاب، وعلى الحاكم الإسلامي أن يطبق الشريعة الإسلامية حرف بحرف؛ ولما تقدم تعد الحكومة إلهية او هي حكومة قانون الله تعالى على الناس. ومن جهة أخرى هي شعبية من جهة إن انتخاب الحاكم الأعلى وسائر مسؤولي الحكومة ذوي المناصب العالية موكول الى الناس ومشروط برضاهم. مفاهيم القرآن، ج2، ص224.

النظرية الثامنة: الدولة الانتخابية الاسلامية

 بحسب هذه النظرية تكون مهمة تدبير الأمور السياسية للأمة الاسلامية في زمن غيبة الإمام عليه السلام في عهدة الشعب، فيستطيع الشعب ان ينظم اموره الاجتماعية على أساس المصالح التي يشخصها وفق الشروط الزمانية والمكانية. ويجب على الناس:

اولاً: ان يراعوا بشكل كامل الاحكام الشرعية الثابتة.

ثانياً: لا يمكن أن تكون الأحكام المتغيرة ـ التي يجب أن تراعي مصالح المسلمين ـ غير منسجمة من الأحكام الشرعية الثابتة، أما شكل إدارة المجتمع والسياسة فهو امر عقلائي، ويجب ان يستفاد من التجارب البشرية شرط عدم التعارض مع الشريعة.

وبحسب هذه النظرية لا يشترط ان يكون رأس السلطة فقيه او مجموعة فقهاء، وإنما المهم ان تكون قوانين الدولة إسلامية، فملاك  إسلامية الدولة هو القوانين، أي ابتنائها على الكتاب والسنة كما يستنبطه المجتهدون العدول. يقول الشيخ محمد جواد مغنية في بيان هذه النظرية: وليس المراد من الدولة الإسلامية سيطرة المشايخ والفقهاء على الحكومة وانحصار السلطة السياسية فيهم، بل المراد من إسلامية الدولة أن تكون الشرعية الإسلامية منشأ ومعيار قوانين الدولة وتصرفاتها، وكل ما يعارض الشريعة محكوم بالبطلان، والشرط الأساسي لإسلامية الدولة هو الإخلاص والكفاءة والعدالة والأمانة، وهدفها وغرضها النهائي هو إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وأن يأمن في ظلها كل محق وبريء، وليخافها كل مجرم ومعتدي. تجارب محمد جواد مغنية، ص165.

وبحسب هذه النظرية ايضاً ينحصر دور الفقهاء في أمور ثلاثة:

الأول: استنباط الاحكام الشرعية ، وبيانها بشكل قوانين واضحة.

الثاني: القضاء على اساس الشريعة.

الثالث: الإصلاح والدعوة الى الخير والى مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي غير هذه الموارد يتساوى كل من الفقهاء والناس. تجارب محمد جواد مغنية، ص68.

النظرية التاسعة: وكالة مالكي المشاع الشخصيين

إن آخر نظرية قد طرحت الى الآن في الفقه الشيعي على مبنى المشروعية الإلهية الشعبية هي نظرية وكالة مالكي المشاع الشخصيين، والتي طرحت من قبل الدكتور الشيخ مهدي الحائري اليزدي في كتاب الحكمة والحكومة.

هذه النظرية وإن كانت تشترك مع النظرية السابقة في جملة من الأمور، إلا إن بعض الملاحظات النظرية تدفع لبحثها بشكل مستقل، وهي ابتناء هذه النظرية على قاعدة المالكية الفقهية، وبناء الانتخاب على قاعدة الوكالة الفقهية، والأهم من ذلك تشخيص موقع الدين في السياسة وتدبير المجتمع.

أما اركان هذه النظرية فهي:

اولاً: ملكية المواطنين الشخصية للمشاع، والمراد منه المكان الذي تختاره جماعة من الناس سكناً لها، فبسبب سبق الاختيار يكون لكل فرد منهم حق الاختصاص والملكية الطبيعية لذلك المكان، والأفراد الذين اشتركوا في اختيار المكان هم مواطنون فيه ومالكون له على نحو الاشتراك المشاع.

ثانياً: وكالة الدولة من قبل المواطنين: وبما أن جميع أولئك الأفراد يدركون ضرورة أن يكون هناك نظام أمني لديمومة حياتهم الطبيعية، فوجب أن يختاروا فرداً منهم كنائب عنهم، لديه اطلاع كامل على الموضوعات والمجريات المتغيرة، ولديه الحكمة الكافية لتدبير أمور المواطنين، فيوكلونه أمورهم.

إن نظام الحكومة على أساس ملكية المواطنين الشخصية للمشاع هي نوع وكالة من قبل المواطنين، ويقوم الوكيل مكان الموكل، وبناء على العقد السابق بين الوكيل والموكل فإن الموكل يجعل جميع صلاحياته ورغباته وإرادته في جميع مسائل الدولة للوكيل في تشخيصه وإدراكه المناسب. وبقبول الوكيل العقد يكون لزاماً عليه تنفيذ رغبات الموكل. فماهية الحكومة ليست إلا الوكالة، والوكالة هي عقد لا يلزم الموكل، أي أنه في أي زمان او مكان أو وضع يستطيع الموكل (الشعب) أن يعزل وكيله وأن يعلنوا سحب الوكالة منه.

الثالث: موقع الدين والفقاهة في السياسة وإدارة البلد: بناء على أن ماهية الحكومة هي وكالة بين الشعب والرئيس، فإنها تكون حينئذ من الموضوعات الصرفة الخارجة عن صلاحيات الفقيه، فإن مدار صلاحياته الحكم الشرعي، وأما تشخيص الموضوعات وتطبيق الأحكام عليها فهي من اختصاص المكلفين، وحينئذ وبحسب هذه النظرية يتقلص دور رجال الدين في الموارد الثلاثة المذكورة في النظرية السابقة فقط.