هل «تقليد المراجع» دليل على ضعف شخصية الإنسان؟!

هناك معنيان لكلمة التقليد، أحدهما المعنى الشائع الذي يفهم في العرف العام ويتداوله الناس في كلماتهم اليومية، والآخر المعنى العلمي الذي يتم بحثه في كتب الفقه والأصول.

إن جميع الاشكالات التي أثيرت وتثار حول التقليد تنصبّ على المعنى الأول، ولا صلة للمعنى الثاني بالأول مطلقاً.

ولمزيد من التوضيح نقول: يطلق التقليد في الأقوال المتداولة على الأعمال العشوائية التي يقوم بها الأفراد بصورة عشوائية تكراراً لما يفعله الآخرون. لا شك أن هذه الأفعال العشوائية التي يقلد فيها الجهلة نظراءهم هي أفعال قبيحة للغاية وبعيدة كل البعد عن المنطق وروح التعاليم الاسلامية؛ فلا أحد من عقلاء البشر يرضى لنفسه اقتفاء آثار الآخرين بشكل عشوائي وبدون تأمل وتدبر.

فكان أولئك يعتمدون على الأفعال السخيفة لآبائهم ويتبعون دينهم الذي لا يستند الى أساس رصين في سجودهم للأصنام.

هذا هو التقليد الذي يجر الى اتساع نطاق الفساد الاجتماعي والتنافس غير النزيه والركون الى الأقذار والنجاسات.

وكما قلنا سابقاً فان جميع الحملات التي يشنها الجهلة على موضوع التقليد تنطلق من هذا المعنى؛ إلا أن التقليد في الاصطلاح العلمي ذو مفهوم مغاير لهذا المفهوم تماماً، ويمكن تعريفه تعريفاً مختصراً بـ" مراجعة غير المختص للمختص في القضايا التخصصية".

أي في كافة القضايا العلمية التي تتطلب تخصصاً فيها، ولا يتسنى الوقوف على حيثياتها وجزئياتها إلا بدراسة عميقة تمتد لسنوات طويلة، ينبغي على من يروم الإلمام بشيء منها الرجوع الى العلماء والمفكرين وأهل الرأي المعتمدين في هذا المجال والانتهال من أفكارهم.

إن هذا المعنى للتقليد الذي أشير له في الكتب العلمية، وعُبر عنه أحياناً بمراجعة غير العالم للعالم، هو أساس لحياة البشر في جميع الأمور الصناعية والزراعية والطبية وما شاكلها.

واذا ما توقف البشر عن العمل بهذا القانون، فلم يراجع المريض الطبيب المتخصص، ولم يرجع بشر للمعمار والمهندس، ولم يستشر أحد من الحقوقيين في القضايا الحقوقية، ولم يراجع الإنسان الخبراء كل في مجال تخصصه، لانهارت الحياة الاجتماعية وساد الهرج والمرج في كافة أبعادها.

والقضايا الدينية غير مستثناة من هذا القانون؛ لكن يجب على كافة الناس التحقيق في أصول العقائد الدينية – أي معرفة الخالق والنبي وخلفائه ويوم القيامة – وليس التحقيق فيها بالأمر العسير، فيستطيع كل إنسان ادراك هذه الأصول ادراكاً مستنداً الى الدليل والمنطق؛ لكن يتعذر على جميع أفراد البشر التخصص في القضايا المتعلقة بالأحكام الاسلامية في باب العبادات والمعاملات والسياسة الاسلامية، والأحكام ذات الصلة بالفرد والمجتمع كالصلاة والصيام والجهاد والديات والحدود والقصاص والزواج والطلاق وآلاف المسائل المختلفة المرتبطة بمختلف مجالات الحياة الانسانية؛ ومن ثم يستحيل عليهم استخراج الأحكام المناسبة من مصادرها الدينية (القرآن والسنة والعقل والإجماع).

بناء على هذا، لابد لهم من مراجعة العلماء الأعلام والمتخصصين المعتمدين لديهم فيما يتعلق بهذا النوع من المسائل، أولئك العلماء الذين قضوا ردحاً من الزمن في دراسة هذه المسائل ولديهم المام كامل بكتاب الله وسنة نبيه وأحاديث أوصيائه وخلفائه.

وبالالتفات الى هذه المقدمة، يتجلى أن هذا القبيل من مراجعة العلماء المختصين ليس اتباعاً مفتقراً الى الدليل، بل إنه اتباع لهم واقتباس منهم مستند الى الدليل العقلي والمنطقي؛ إذ إن نظرية العالم المختص – سيما حينما يكون محايداً – أقرب الى الواقع وغير بعيدة عن الحقيقة غالباً؛ وإن حصل فيها خطأ فنسبته محدودة جداً قياساً الى من يقوم بالعمل اعتماداً على ذوقه ورغبته، حيث غالباً ما يكون مليئاً بالأخطاء.

فعلى سبيل المثال، لو راجع الانسان في مرضه الطبيب المختص لكتب له وصفة بالأدوية الضرورية له، مع احتمال عروض الخطأ في تشخيص الطبيب؛ ومما لا شك فيه أن نسبة الخطاء ضئيلة جداً قياساً الى النتائج الايجابية المتوخاة من الوصفة المذكورة، والمراد من الطبيب هنا هو الطبيب الحاذق والماهر لا أي طبيب كان. أما لو أقلع الإنسان عن مراجعة الطبيب الحاذق، وكلما أصيب بوعكة صحية تعاطى الأدوية وفقاً لرغبته وميوله الشخصية، فمن المؤكد أنه يجازف بحياته ويرتكب عملاً خطيراً ربما أدى به الى الهلاك.

النتيجة: اقتفاء غير العالم للعالم يستند الى دليل منطقي اجمالي. ولا غرو أن مثل هذا الاتباع والاقتباس ليس دليلاً على ضعف شخصية الإنسان، بل هو دليل على متانة شخصيته وحنكته؛ لأننا نعلم أن دائرة العلوم واسعة جداً الى درجة وجود عشرات بل مئات الفروع التخصصية في كل واحد من العلوم، ولن يستطيع الإنسان الإلمام بمعشارها حتى لو كان له عمر نوح وعقل ابن سينا. وعلى هذا الأساس، لا مناص من مراجعة الانسان لغيره فيما عدا تخصصه.

فلو مرض المهندس مثلاً ينبغي عليه مراجعة الطبيب المختص، وكذا الطبيب لو رام بناء بيت له فعليه الرجوع الى صديقه المهندس المعماري لتزويده بخريطة البناء اللازمة، وكلاهما يراجعان المهندس الميكانيكي فيما لو عطلت سيارتهما، ويذهبان الى علماء الدين لأخذ الأحكام الاسلامية منهم. والشيء الوحيد الذي يبقى هنا هو أن البعض يطرح التساؤل التالي: ما المانع من مراجعة الإنسان في القضايا الضرورية للعلماء وسؤالهم عن دليل كل مسألة وقضية؟

إن هذا الكلام كمن يتساءل ويقول: لما يمرض الإنسان ما المانع من مراجعة الطبيب وسؤاله عن كل دواء يكتبه في الوصفة وسبب كتابته وطريقة استعماله؟ فهل من الممكن قيام الأطباء بشرح سبب كتابة الأدوية لكافة مراجعيهم؟ وعلى فرض إمكان ذلك، أيمكن للشخص غير الملم بعلم التشريح والفسلجة وخواص الأدوية وتأثيراتها المتفاوتة أن يدرك ما يقوله الطبيب ويتخذ القرار المناسب بنفسه؟

إن من يتفوه بمثل هذا الكلام لا يدرك مدى اتساع نطاق العلوم الإسلامية قطعاً؛ إنه يجهل أن فهم كافة جزئيات القرآن وعشرات الآلاف من الأحاديث، والنظر في أحوال الرجال المختلفة الواقعين في سلسلة سند الأحاديث، وتمييز الغث من السمين من الأحاديث الواردة، واستيعاب الأمور الدقيقة في الآيات والسنة النبوية، كل ذلك يتطلب زمناً طويلاً ليصل الإنسان إلى التخصص في هذا المجال.

يحدث أحياناً أن يقوم العالم من أجل الوقوف على حكم الشريعة بمسألة تتعلق بالزواج أو الطلاق أو حق الحضانة وتربية الأطفال ونحوها بمراجعة وتمحيص عدد من الآيات القرآنية وعشرات الأحاديث الشريفة، ثم دراسة أحوال عشرات الرجال الواقعين في سند الأحاديث الضرورية من خلال الكتب الرجالية، ثم مراجعة اللغات المتعددة الواردة في تلك الأحاديث ومواطن استعمالها في اللغة العربية عبر مراجعة الكتب اللغوية الكثيرة. فهل يستطيع كافة الناس استيعاب كل تلك التفاصيل المرتبطة بالقضايا الإسلامية؟ ألا يفهم من هذا الكلام أنه يجب على كافة الناس التخلي عن أعمالهم والالتحاق بركب الدارسين للعلوم الدينية؟ ثم من غير المعلوم أن الجميع يمتلك مؤهلات بلوغ الاجتهاد والقدرة على استنباط الأحكام الشرعية لاحتمال امتلاكه قابليات في مجالات أخرى.

وأما قولهم: إن الرجوع الى مراجع التقليد يتسبب بتشتت صفوف المسلمين فهو أمر عجيب ومدهش:

هل التقليد يفرّق صفوف المسلمين؟

فأولاً- مراجع التقليد المشهورون في كل زمان عبارة عن شخص واحد أو بضعة أشخاص؛ بينما لو أراد جميع الناس ابداء آرائهم في الأحكام الاسلامية فربما حصل لدينا آراء تساوق عدد المسلمين الموجودين، مما يجعل الاختلاف والتشتت أكثر فأكثر.

وثانياً- الاختلافات بين العلماء إنما تحصل في الأمور الفرعية، أما المسائل الأساسية والأصولية فلا اختلاف فيها؛ لذا تلاحظون المقلدين للعلماء المختلفين يصلون جميعاً في صف واحد من صلاة الجماعة من دون أن يحول الاختلاف في المسائل الجزئية دون انسجامهم ووقوفهم في صلاة واحدة، كما أنهم يذهبون مجتمعين الى الحج ويؤدون مراسمه في أوقات محددة من دون أن يؤدي الاختلاف في الفتاوى الى حدوث اختلاف حتى بين الأفراد في القافلة الواحدة أيضاً. كل ذلك يؤكد أن اختلاف الفتاوى في المسائل الجزئية لا يؤثر سلباً على وحدة المسلمين.

هامش:

المقال رداً على سؤال: ثمة أناس هنا وهناك ينكرون موضوع التقليد في الأحكام، ويشددون على أن الجميع مكلفون بالتحقيق في القضايا الدينية وضرورة استخراجها – بلا استثناء – من القرآن وسائر المصادر الاسلامية ؛ وذلك للأسباب التالية: أولاً – شن القرآن الكريم حرباً شعواء ضد كل ألوان التقليد ووجه انتقاداً لاذعاً للتقليد اللامدروس. ثانياً – التقليد نوع من الاتباع المفتقر الى الدليل ، والعقل والمنطق يقبحان التقليد بلا دليل . ثالثاً – التقليد يفرق صفوف المسلمين ؛ لأن مراجع التقليد متعددون غالباً ولا يذهبون الى رأي مشترك في كافة القضايا.